فرنسا تعيد الاعتبار للبيروجي فنان النهضة المنسي

الجسرة الثقافية الالكترونية

*أبو بكر العيادي

المصدر: العرب

 

حتى منتصف شهر يناير الجاري يقيم متحف جاكمار أندري بباريس معرضا عنوانه “البيروجي، أستاذ رافاييل” يضم نحو خمسين لوحة لبييترو فانوتشي (1448 /1523) وعشر لوحات لتلميذه رافاييل، وكان قد سطع نجمه كواحد من كبار فناني النهضة ثم طوى النسيان خبره بداية من القرن التاسع عشر.

عرف فانوتشي بالبيروجي نسبة إلى مدينة بيروجيا الإيطالية، مسقط رأسه، حيث بدأ الرسم مقتفيا تقنية رسامي أومبريا، قبل الانتقال إلى فلورنسا، حيث التقى في مرسم أندريا فيروكيو بليوناردو دا فينشي، فأقبل مثله لأول مرة على الرسوم الزيتية، وسرعان ما سطع نجمه فصار يلقب بـ”المايسترو” هو أيضا منذ العام 1472، ثم دعي مع بوتيتشلي وغيرلندايو وسينيوريلّي إلى تزيين كنيسة سيكستين بروما.

 

هناك أنجز بالتعاون مع بنتوريكيو “تعميد المسيح” و”موسى متنقلا في مصر”، وجداريات أخرى بفنية عالية حازت إعجاب معاصريه وأثارت في الوقت نفسه حفيظة مايكل أنجلو الذي كان يغار منه.

 

كان للبيروجي دور مميز في الربط بين فن الـ”كواترو تشنتو” وفن النهضة، بفضل تجديده التصويري المتنوّع الذي نهل منه عدة رسامين، بل إن الفنانين الشبان في بداية عصر النهضة كانوا يتقاطرون عليه من أوروبا كلها ليستفيدوا من مقاربته، ويأخذوا عنه تقنيته التي تتميز بشفافية غير معهودة وألوان متناسقة يسلط عليها ما يشبه الأضواء المسرحية.

 

ذلك أنه تنقل، بعد تجربة فلورنسا، بين روما والبندقية قبل أن يعود إلى جهته، ليتأمل بدائع العصر القديم وروائع الفن الفلندري، ويضفي على فن النهضة حساسية جديدة، سواء في جدارياته -التي جيء بإحداها من بيناكوتيكا ديروتا- أو في لوحات السيدة العذراء.

 

فقد عرف طوال النصف الثاني من القرن الخامس عشر ومطلع القرن السادس عشر، بطريقة جديدة في الرسم طبعت مرحلته، تقوم على الدقة الفائقة والسيطرة التقنية البالغة والتعبيرية القوية وقواعد توليف جديدة، مثلما تقوم على إضفاء عناصر لم تكن موجودة في أعمال سابقيه.

 

ففي بورتريهات العذراء وابنها مثلا، قطع البيروجي مع الهالة المذهبة خلف الرأس، واختار أن يحلّ محلها منظرا طبيعيا، تغدو معه العذراء أمّا حقيقية، وامرأة يتبدّى في نظرتها حنوّها على طفلها، قبل أن يشفع ذلك بأضواء شبيهة بالغسق، هي مزيج من الضوء والعتمة.

 

وسرعان ما عبرت لغته الفنية الجديدة الحدود، وصار البيروجي يعرف كرأس تيار فني اجتاح أوروبا كلها بفضل أعماله هو، ثم بفضل عبقرية الشاب رافاييل (1483 /1520) الذي لقيت أعماله نجاحا منقطع النظير.

 

وفي هذا الإطار، يسجل المعرض بنوّة بين أعمال البيروجي وأعمال رافاييل في محورين أساسيين، المنظر الطبيعي والبورتريه، ليؤكد وجود تواصل أسلوبي بين الأستاذ وتلميذه، ويبين كيف ابتكر البيروجي لغة فنية قام بتطويرها حدّ الكمال، وكيف تبناها رافاييل وتملكها بحساسية أشع بها على العالم.

 

وحسب أغلب مؤرخي الفن، فإن عناصر حلية الخشب المنحوتة خلف هيكل سان نيكولاس دي تالنتينو التي وقع تجميعها للغرض -فهي موزعة في العادة بين بريشيا ونابولي وباريس- وكذلك الرسم التحضيري الذي استعير من متحف مدينة ليل، كلها تقيم الدليل على قوة تأثير البيروجي في فن رافاييل، من حيث رقة الملامح وتماثل الوضعيات وبروز تجاعيد المثنيات، وعلى أن الأول كان أستاذا للثاني.

 

ولكن بعض النقاد ومؤرخي الفن لا يزالون يتساءلون عمّا إذا كان رافاييل قد أقام في مرسم بيروجيا؟ فمنهم من يعتقد أنه إنما اشتغل فيه للتدرب، ومنهم من يرى أنه اكتفى بدراسة مدونة سلفه الذي اعترف به الجميع في حدود العام 1500 كأبرع فنان في إيطاليا كلها، واستوحى منها بعض خصائصها.

 

بل إن مفوضة المعرض فيتوريا غاريبالدي تضيف أن البيروجي هو الذي استلهم من عبقرية الشاب المبكرة، وهو ما يفسّر، في رأيها، خلط المختصين في نسبة هذه اللوحة أو تلك إلى أحدهما، كما هو الشأن مع “أبولون ومارسياس” التي نسبت طويلا إلى رافاييل، والحال أنها للبيروجي، يتنقل الزائر من قاعة إلى أخرى، مقتفيا حداثة هذا الفنان الذي فرض النهضة قبل أوانها، فوحّد أساليب مختلف الجهات التي مرّ بها، ما جعله مركز العالم في تلك الفترة.

 

فمن مناظر أومبريا الخلابة، والمادونات الرقيقات، إلى البورتريه الرائع للبائع الفلورنسي فرنشيسكو ديلي أوبيري، الذي يعكس وحده براعة البيروجي وتقنيته المميزة.

 

يتساءل المرء أمام كل هذا الزخم الإبداعي، كيف خبا نجم هذا الفنان الكبير الذي بسط ظله على فنون النهضة وصار مغيبا خلف أعلام كانوا دونه؟

 

التفسير الرائج منذ القرن التاسع عشر أن السبب يعزى إلى اعتبار البيروجي يبعث على الضجر لأنه يكرر نفسه. والثابت أن البيروجي تكاثرت عليه الطلبيات في خريف عمره، فارتكب خطأين: أولهما استعادة رسوم قديمة لإنجاز لوحات جديدة، وثانيهما السماح لمعاونيه بالاشتغال على جانب هام من إنجازاته.

 

فكان أن اتهم بالتكرار وتدنّي قيمة أعماله مقارنة بأعماله السابقة. وبعد موته بالطاعون عام 1523، عاد إلى اسمه بعض بريق، وظل حاضرا كعلم كبير من أعلام النهضة، قبل أن يتعسف عليه نقاد القرن التاسع عشر ويستبعدوه، للأسباب نفسها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى