«فريجُ المُرر» للسوداني حامد الناظر: حكاية المكان التي حولت الزمن إلى شبح

الجسرة الثقافية الالكترونية –

سليمان حاج ابراهيم

صدرت مؤخراً عن المركز الثقافي العربي رواية «فَريجُ المُرر» للروائي والصحافي السوداني المقيم في قطر، حامد الناظر في (304) صفحة من القطع المتوسط، هذه الرواية حازت على جائزتين خلال أقل من عام، وهي جائزة الشارقة للإبداع العربي، وجائزة «فودافون» قطر للإبداع الروائي، واستقبلتها الأوساط الأدبية في السودان وخارجه بالاحتفاء والتقدير.
إسم الرواية مقتبس من مسرح أحداثها، وهو سوق «فريج المُرر» بمدينة دبي، كان في الماضي أحد أحياء قبيلة المُرر العريقة في الإمارة الخليجية ثم تحول مع توافد الباحثين عن لقمة العيش من كل مكان في العالم إلى سوق ضخمة تعج بالمقاهي والمطاعم الإفريقية. «الناسُ في العادة يعطون الأماكن سَمْتَها، لكنّ فريج المُرر حالة فريدة، هو الذي يصبغ على ناسه شيئاً مثل الهوية الخاصة، ثم لا تنفصلُ عنهم» بهذا الاقتباس لـ «حمد المرّي» أحد أبطال الرواية يبدأ سيل الحكايات، ثم لا ينتهي بـ «أستير» أو «إيلسا « أو غيرهما، فجميعهم وإن أسهبوا في حكايات ماضيهم فإنهم يدركون بلا وعي أن الزمن قد توقف في لحظةٍ ما، طويلةٍ ولا متناهية، وأن المكان وبالتواطؤ مع أبديتها الممتدة حيّد الزمن تماماً، وجعل من الماضي، ومن المستقبل أشباحاً لا تغري بالتأمل. كأنما قوة خفية غامضة تجذب العشرات كل يوم إلى تلك المقاهي التي يعج بها سوق فريج المُرر كما يلقي النهر بالخشاش على الشط كل يوم، إما هرباً من واقع بلدانهم للبحث عن لقمة العيش، أو قسوة ظروف العمل لدى كُفلائهم، فيتلقفهم السوق ثم يصنع منهم عالمه الخاص.
تبدأ الرواية من مطار الخرطوم، حيث تجبر الراوي ظروف بلده وحكاية غرام غامضة للهجرة والهرب بعيداً، «الباحةُ الواسعةُ أمام مطار الخرطوم كانت تضجُّ بالمسافرين والمودّعين هذا الصباح، سيارات، أبواق، حقائب وصناديق، بعضُها على الأرض وأخرى على عجلات يدفعها أصحابُها أو بعضُ العمال نحو بوابات الصالة، زغازيدُ وعناقٌ وقُبلٌ ودموع، وعيونٌ تمتلئ بملامح الآخر لأطول وقتٍ ممكن، إلى آخر لحظة، حالةٌ سودانيةٌ نموذجية لذلك القلق الأبديّ من السفر كما لو كان رحيلاً بغير رجعة، أغلب المسافرين كان يبكي، لكن هذه الحالة تغيرت بمجرد دخول صالة المغادرة، فتذكّرت عبارةً كتبها صديقٌ لي على صفحته في فيس بوك «أروع مكان في السودان، صالة المغادرة».
يسافر إلى دبي، ثم تقوده الصدفة المحضة من مطارها ومعالمها الباذخة إلى قاعها، إلى سوق فريج المُرر، حيث تنفتح الحكايات على عالمٍ بعيد هو الحبشة «الأحباش يبحثون عن لحظةٍ بعيدة في خيالهم، يستقصون كل شيء، الزمن والتاريخ والجغرافيا للإمساك بها، صدقني، لن تفهم معنى أن تمشي إلى الوراء بقصد أن تتقدم إلى الأمام، ما لم تكن حبشياً!»
هذه الرواية تفتح أمام القارئ عوالم جديدة، ولعلّ مفتاح الدخول إلى تلك العوالم هو شخصياتها الجديدة، البسيطة، نادلات المقاهي ومرتادو السوق، للوهلة الأولى تبدو جميعها سطحية، تلقائية لكن مع تطور السرد تنمو تلك الشخصيات وتتكشف جذورها العميقة وابعادها المتباينة التي شكلتها الحروب والأزمات الطاحنة التي عاشتها بلدان القرن الإفريقي، وراء كل بطل من أبطال الرواية حكايات مؤلمة، استطاع الراوي «الطيب» أن ينتزعها بعفوية من أفواه أصحابها، وهو القادم من بلده السودان مثقلاً أيضاً بحكايةٍ مؤلمةٍ تخصه، ما أن يبدأ في سرد بعض تفاصيلها حتى تستغرقه حكايات الآخرين والتي تنتهي في الغالب بمأساةٍ أكثر إيلاماً، فيضطر «الطيب» إلى نثر حكايته في فضاء الرواية، ثم يتركها معلقة دون أن تكتمل خوفاً من مصيرٍ مشابه، وذلك بأسلوب شيق ولغة رفيعة «في منعطفٍ ما من منعطفاتِ حياتي كنت مُعقداً من جنس النساء! ربما كنت غريباً، وهذا هو الأرجح، لكنني كنت مطمئناً إلى ما كُنتُ عليه، وهو الوجه الأكثر غرابة، بعد تلك الحادثة وحتى وقتٍ قريب، لم أكن ودوداً بما يكفي مع امرأةٍ لا تخصّني، كذلك أمي، أخواتي، ومن هنّ في محيط عائلتي كُنّ في نظري وجهاً آخر لمعنى عائلة، جزءاً من نظامها الذي أوجده الله لا أكثر ولا أقل، مثلما أن هناك شمساً وقمراً، أرضاً وسماء، نجوماً وكواكب، دون أن يعني ذلك- في ذهني- أن ثمة ضرورة إلى أن يحيا هذا بوجود ذاك أو العكس، النساء ليلِدْننا فقط، وإن لم يكن، فهنّ مخلوقات فائضة عن الحاجة!»
رواية «فريج المُرر» هي العمل الأول للكاتب والصحافي السوداني حامد الناظر، الذي يعمل صحفياً في تلفزيون دولة قطر، وأمضى قبلها خمس سنوات مذيعاً وصحافياً في قناة الشروق السودانية في مدينة الإنتاج الإعلامي بدبي، وقبل ذلك مراسلاً إخبارياً لقناة MBC ومقدماً للبرامج بقناة النيل الأزرق والإذاعة السودانية..
خلال سنوات عمله في مدينة دبي، وجد الناظر في سوق فريج المُرر العتيق في قاع المدينة مسرحاً لروايته الأولى، والتي تدور أحداثها بين دبي وأديس أبابا، وتقع في ثمانية فصول، ويحمل كل فصل اسماً لأحد أبطالها، واقتباساً من حكايته، وهي في المجمل مجموعة حكايات متداخلة لشخصيات من خلفيات متنوعة، جمعها مقهى «الزمن» على جلسات احتساء القهوة الحبشية، واستطاع أبطالها خلال لقاءاتهم في المقهى أن يخلقوا أجواء خاصة يستعيدون خلالها ذكريات الماضي، وأحلام المستقبل، كأنما يتحدّوْن المكان، أو يذكرون الزمن بوجوده الهش..

الرواية تقدم عالماً جديداً للقارئ العربي، وتضيف إلى المكتبة الأدبية عوالم من ماضي الحبشة وبلدان القرن الإفريقي وتاريخها وحضارتها الضاربة في القدم، وكذلك حاضرها الذي يتسم بالفقر والجوع والحروب الطويلةا

لقدس العربي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى