فـــــــيروز سفيرة لبنان والشرق إلى النجوم/ د.غـازي انـعـيـم

الجسرة الثقافية الالكترونية_
شهد منتصف القرن الماضي ولادة مطربة جادة تمزج بين العفوية والإتقان بصوت رائع وبأسلوب مميز وأداء ساحر، ومع صوتها المخملي الذي فيه طبقات ونغمات تشكل اوركسترا كاملة، برزت المدرسة الرحبانية التي طرحت فهماً نمى وتكامل حول جملة القضايا المضمونية والجمالية المتعلقة بالغناء والموسيقى والمسرح الغنائي، والتي جاءت لتحدث تغييرات أساسية في مسار الأغنية والموسيقى الشرقيتين، ولتضيف عناصر جديدة كل الجدة كان لها أكبر الأثر في بعث ذائقة جديدة عند عموم أبناء المنطقة العربية الذين وجدوا في خصائص هذا الغناء شخصيته، وفي تعبيراته مكنونات نفسه التي توارت طويلاً وراء أقنعة فن الغناء المصري الذي ساد المنطقة العربية بأسرها وطبعها بطابعه منذ أواخر العصر العثماني وحتى بعد منتصف القرن الماضي.
وعلى مدى نصف قرن من الزمن استطاعت فيروز أن تقدم ألبوماً من الصور الشعرية التي ترصد مراحل مختلفة من التحولات التي رافقت الوطن العربي، فربطت الحاضر العصيب بالماضي القريب المليء بالمرارات، وبالماضي البعيد المجيد.
وعبَّر صوتها عن خلجات قلوب كل أبناء المنطقة العربية وحمل الكثير من الألم والأمل، الحزن والفرح، النكسات والانتصارات، السلام والحرية… عندما بعث الرحابنة من خلال صوتها الدافئ التراث الغنائي ذي الخصائص الجمالية والمضامين الإنسانية الرائعة، فكانت أغاني القرية والمدينة، الأطفال والأمهات، البنات والصبيان، الحب والعمل، الصيف والخريف، الشتاء والربيع، النهر والبحر، الماء والثلج، السهل والجبل، الليل والنهار، العشاق والقمر، الزهر والشجر.. وكانت الأغاني المنفتحة على القضايا الوطنية العربية، وبصورة خاصة قضية فلسطين فصدحت فيروز للقدس ولشوارعها العتيقة.
بعد ذلك أدخل الرحابنة بصوت فيروز، هواء جديداً على الذائقة العربية… ولم تسلم رئة العواصم العربية من هوائه النقي، فصدحت للقدس، ومكة، وبيروت، ودمشق، وبغداد، وعمان… كما غنت قصيدة الإمارات ” من تحت ها لأزرق “، ” وكان يا مكان للكويت، ” وبالغار كللت ” للأردن، فكان هذا نوعاً من الالتزام القومي والإنساني بعيداً عن إطلاق الشعارات المباشرة.
وصدحت للسماء وملائكتها، لمريم العذراء وللمسيح، للمهد، لمسرى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
في هذه المقالة نلقي الضوء على بعض ملامح سيرة سفيرة لبنان والشرق إلى النجوم:
ـ البيئة والنشأة:
ولدت نهاد وديع حداد ” فيروز ” في 21 / 11 / 1935 م، في مسكن متواضع في محلة زقاق البلاط على أطراف مدينة بيروت يقوم عليه والدها الذي كان يعمل في مطابع جريدة ” لوجور “، وفي ذلك الحي الفقير قضت فيروز طفولتها الأولى تلهو مع أترابها لهواً من النوع الذي لا يكلف الأسرة مالاً، مثل لعبة القفز على الحبل، لكنها كانت تترقب بفارغ الصبر مع غيرها من بنات الجيران ظهور صندوق الدنيا ـ أو صندوق الفرجة ـ لتشارك إحدى صديقاتها في التفرج على طاقة من طاقاته الثلاث، لأن الفرجة في تلك الأيام كانت بفرنك، والفرنك ” كان يحكي “.
لم يكن بمقدور أسرة ” نهاد ” المتواضعة الحال والمكونة من والدها ووالدتها ليزا البستاني وإخوتها ” جوزيف وهدى وآمال “، والذين يعيشون في غرفة واحدة مع مطبخ صغير كانوا يتشاركون في أدواته مع الجيران وقتذاك، شراء الدمى أو الحلوى.. أو حتى شراء مذياع.. ذلك الجهاز السحري الذي اعتادت ” فيروز ” سماع صوته السحري الآتي من بعيد عبر نافذة المطبخ حاملاً أصوات ” أم كلثوم، عبد الوهاب، أسمهان وليلى مراد “.
كانت ” نهاد حداد ” في تلك الأيام تطيل في عملية غسل الأطباق وتطيل المكوث في المطبخ قدر ما تستطيع ليتسنى لها الإصغاء إلى الأغاني وحفظها.. بعد ذلك حظيت بفرصة الالتحاق بالمدرسة، وكانت تلميذة خجولة، لكنها نجيبة جادة، مجتهدة صادقة مع نفسها.. تحب الزهور لكنها تكره الحساب، وكان حلمها بأن تصبح معلمة، ويكون لديها دخل يمكنها من انتزاع الفقر والفاقة من عائلتها، ومعاونة والدها على حمل أعباء الأسرة الصغيرة، لكن ما جذب الانتباه لها في المدرسة وهي في العاشرة من عمرها هو صوتها، حيث كانت سماته الفريدة تحول الأناشيد الوطنية الدارجة إلى شيء مدهش آسر الجمال.
تذكر ” نهاد ” أنها استدعيت مرة إلى مكتب مديرة المدرسة، فإذا هي تستضيف ” محمد فليفل ” الذي وضع مع أخيه لحن النشيد الوطني السوري.. كان الأخوان فليفل حينذاك يحضران لتقديم برنامج غنائي في الإذاعة اللبنانية المؤسسة حديثا وكانا يبحثان عن أصوات شابة، فطلب من ” نهاد ” أن تغني، وغنت نشيداً من أناشيد المدرسة، فراق الأستاذ فليفل صوتها فطلب منها الالتحاق بمعهد الموسيقى اللبناني، وعند مفاتحة والدها، الذي ينتمي إلى بيئة محافظة، بوقوع الاختيار على ابنته للغناء بكورال الإذاعة، كان مستاءً من فكرة غنائها للعامة. لذلك رفض الأب في البداية منح موافقته ” لفليفل “، الذي راح يطمئنه بأنها لن تغني إلا ضمن كورال الإذاعة، وأنها سوف تشارك في غناء الأغاني الوطنية فقط، وأنه ـ فليفل ـ سوف يتحمل نفقات تعليمها في المعهد. وظل يلح مع بعض المعارف والمقربين على الأب حتى نجح في الحصول على موافقته، لكن شريطة أن يرافقها أخوها جوزيف أو أمها إلى حيث تذهب.
لقد فتح الأخوين ” فليفل ” أمام ” نهاد حداد ” نافذة واسعة على عالم جديد وجدت فيه مجالاً لتحقيق أمنياتها، وأهمها في ذلك الوقت انتسابها لمعهد الموسيقى الذي كان يرأسه ” وديع صبرا ” ملحن النشيد الوطني اللبناني، والذي رفض تقاضي أي مبلغ منها، حتى انه تبنى صوتها لإيمانه بأن جوهرة نادرة تنطوي في حناياه.. وكان أبرز ما أفادها به هو تعليمها تجويد القرآن الكريم، فهذا هو الأسلوب الأكثر فعالية في ضبط مخارج الألفاظ والتمرس بموسيقى اللغة في التراث العربي، ولعل ذلك هو ما عزز القاعدة الموسيقية الرحبة لصوتها وجعله قادراً على الجمع بين الأداء ألطقوسي الكنسي والغناء العربي التقليدي.
استمرت دراسة ” نهاد ” في معهد الموسيقى أربع سنوات، وبعد ذلك استدعيت للقاء مدير الإذاعة ” أسعد الأسعد “، وطلب منها أن تغني أمام لجنة الاستماع المؤلفة من: الفلسطيني حليم الرومي، خالد أبو النصر، نقولا المني وآخرين، وغنت بمصاحبة عود حليم الرومي ” يا ديرتي ” لأسمهان، وأذهل صوتها الرومي حتى انه توقف عن العزف مندهشاً في منتصف الأغنية.. وواصلت ” نهاد ” تألقها فغنت مطلع ” يا زهرة في خيالي ” لفريد الأطرش، وأثناء أدائها دخل عاصي الرحباني أحد عازفي الكمان في فرقة الإذاعة الموسيقية، وبعد الانتهاء من الغناء أحاط بها أعضاء اللجنة مهنئين مشجعين مبدين تقديرهم لصوتها الفريد.
من البيت إلى الإذاعة
هكذا اختيرت ” نهاد حداد ” كمغنية في جوقة ( كورال ) الإذاعة، مقابل مبلغ 100 ليرة في الشهر وكانت فرحتها لا توصف عندما قبضت الراتب الأول، لأنها كانت المرة الأولى التي ترى فيها ورقة نقدية من ذوات ألـ 100 ليرة. فهرعت بذلك المبلغ إلى السوق لشراء ما تحتاجه العائلة من مأكل وملبس، تقول فيروز عن تلك اللحظة: أردت أن أعوض إخوتي عن الحرمان.
في هذه المرحلة درست ” نهاد ” أسلوب غناء كل واحد من أفراد الجوقة، وكثيراً ما كان يطلب منها أن تحل محل مغنية تأخرت أو عجزت عن الأداء الصحيح، فقد كانت تمتلك إحساسا فنياً عالياً وذاكرة ثاقبة.. وهكذا سرعان ما باتت تؤدي بشكل انفرادي، وعلى نحو أثار إعجاب ” حليم الرومي ” الذي لحن لها في الأول من ابريل عام 1950 م، أول أغنية لها ” تركت قلبي وطاوعت حبك “، وعند التحضير لبث الأغنية، اقترح ” حليم ” على فتاته التي كانت تحمل اسم ” نهاد ” اسم فني وترك لها حرية الخيار بين ” فيروز ” و ” شهرزاد “، وفي البداية لم تأخذ ” نهاد حداد ” الأمر على محمل من الجد، لكنها عملت بنصيحة ” حليم ” واختارت اسم ” فيروز “.
وكانت أغنيتها الثانية باللهجة المصرية، أما الأغنية الثالثة ” عاشق الورد ” فقد غنتها مع ” حليم الرومي ” نفسه كثنائي، وتبع ذلك العديد من الأغاني القصيرة الخفيفة التي اجتهد ” الرومي ” في أن تكون مختلفة المشارب، في محاولة لتجنب حصر ” فيروز ” في نمط غنائي واحد، الأمر الذي دفعه إلى تشجيعها على التعاون مع غيره، لأن حسه جعله يوقن أن اللون المصري الذي برع فيه ليس هو اللون الذي تحتاجه ” فيروز “، وأنه لن يصنع منها شيئاً متفرداً، لهذا طرح عليها في عام 1951 م، أن تعمل مع ” الرحابنة “، فقالت لحليم الرومي بنبرة فيها التردد والخوف والحيرة ـ ربما تأثراً بعدم حماسه لها خلال اللقاء الأول بالإذاعة ـ:
ـ لماذا بالذات عاصي الرحباني وليس غيره، وعاصي لديه صوت شقيقته سلوى!
ـ فأجابها حليم الرومي: الملحن لا يحتكر صوتاً واحداً، بل تهمه الأصوات الجديدة، المهم أن تحصلي على لحن جديد، ونجح الرومي في إقناعها، وكان رأي ” عاصي ” الأولي أن صوتها مناسب لغناء الأغاني الشرقية وليس الأغاني العصرية، التي كان مهتماً بها.. واحتج ” الرومي ” موضحاً أن صوتها غير محدود الامكانات، وهو قادر على أداء الأغاني الحديثة والأغاني الفلكلورية، ووافق ” عاصي ” في النهاية على التلحين لها. وكانت أول أغنية لحنها لها ” الرحابنة ” قصيدة ” غروب ” للشاعر ” قبلان مكرزل “، وهنا كانت البداية لسيدة قدرها أن تشع كالنور وتتلألأ كالجوهرة النادرة وتملأ الدنيا أغنيات وحبورا.
إلى إذاعة الشرق الأدنى
بعد عام من العمل في الكورال، انتقلت ” فيروز ” إلى إذاعة الشرق الأدنى، وحينذاك كان هم ” الرحابنة ” هو خلق موسيقى لبنانية ذات هوية واضحة فجاءت الأغاني الراقصة مثل: ” نحنا والقمر جيران “، وأغانٍ فولكلورية بإيقاعات راقصة مثل ” البنت الشلبية “، وأغان من الحكاية الدرامية أو ” القصة القصيرة “، مثل ” وقف يا أسمر.. في إلك عندي كلام “. وخضع صوتها للكثير من التجارب، فغنت الألوان الأوروبية ثم الشرقية الصعبة، ومع مختلف الأوركسترات، لتحصل على خبرة لم تحصل عليها مطربة من قبل.
هكذا هيأ صوت ” فيروز ” للرحابنة انطلاقة فيروزية المذاق قبل أن يتطور الأمر إلى أغان خالصة التأليف والتلحين للأخوين ” رحباني “، حيث تشكلت على نحو واضح هويتهما الفنية كموسيقيين لبنانيين.
في عام 1952 م، جاءت الأغنية التي شكلت علامة فارقة في تاريخها الفني، فبين ليلة وضحاها صنعت أغنية ” عتاب ” التي سجلت في 12 نوفمبر 1952 م في إذاعة دمشق، ثم أغنية ” بلمح ظلال الحب في عيونه ” و ” غروب ” و ” قوي حبك “، من ” فيروز ” مطربة كبيرة في العالم العربي.
وفي الخمسينات، بدأت الصداقة بين ” عاصي ” و ” فيروز ” تتطور من ملحن وتلميذته المغنية إلى إعجاب واستلطاف ولقاءات تحت شجرة قرب بركة ماء في الفناء الخلفي لاستديو الإذاعة يدردشان لتمضية الوقت، بانتظار أن يأتي دوريهما لتقديم فقرتهما بشكل حي وعلى الهواء مباشرة دون تسجيل مسبق، وعندما كان يحاول أن يعرف أحاسيسها ومشاعرها نحوه، كانت تجيبه بأنها تريد أن تصبح معلمة مدرسة لتساهم في انتشال عائلتها من الفقر والفاقة، وكثيراً ما ردت على تلميحات عاصي بأنها لن تتزوج في حياتها أبداً.
زواج فيروز من عاصي
اختارت فيروز الزواج من عاصي، لأن القدر هو الذي رسم حياتها منذ البداية، وهو الذي اختارها نجمة يسطع نورها في كل مكان وزمان، وقد صور عاصي واقعة طلب يد فيروز قائلاً: ” كان الأمر أشبه باسكتش من الاسكتشات التي كنا نعدها آنئذ… كنت مدعواً على الغداء لدى أهل فيروز، وكانت هي قد أعدت صينية كفتة وبطاطا وسلطة… وبعد أن تغدينا قلت لفيروز: اتركينا شوي.. بدنا نحكي كلمتين.
خرجت فيروز، فالتفت إليَّ والدها وقلت له: أكون ممنونك لو ” جوزتني ” بنتك. فقال: على بركة الله.
هكذا أتى طلبي يد فيروز وموافقة أهلها، كأنه ” مسمع ” في اسكتش إذاعي “.
لم يكن زواج فيروز من عاصي في 22 / 1 / 1955 م، محطة راحة وبحث عن ملذات الحياة، بل بداية لمشوار التعب والركض والهم والعيش في كنف رجل لا يرضى إلا بالصعود إلى أعلى القمم، وإذا كان لكل إنسان قدر، فقدر فيروز أن تحمل هموم وأعباء الأم المثالية وقلق الفنانة التي تعرف أن الفن رسالة حب وجمال وعطاء.
وبعد فترة من الزواج وقضاء شهر العسل، تلقت ” فيروز ” والأخوين ” رحباني ” ـ عاصي ومنصور ـ دعوة من إذاعة ” صوت العرب ” لزيارة القاهرة، فلبوا الدعوة وكانوا مسرورين بها، ورحبوا بالسفر إلى القاهرة، وهناك التقوا بـ ” أحمد سعيد ” مدير إذاعة صوت العرب، الذي وقَّع معهم عقداً لتقديم أغانٍ وأناشيد وبرامج لمدة ستة أشهر.. وفي تلك الفترة قدما ” النهر العظيم ” و ” راجعون ” التي تحكي قضية الفلسطينيين المشردين بصوت ” فيروز ” و ” كارم محمود ” والكورس، وقد عُدت أغنية ” راجعون ” من أهم الأعمال الموسيقية على الإطلاق لأنها تتجاوز الشكل المألوف للأغنية الوطنية بالإضافة إلى أنها تقوم على حوار بين الفرد والمجموعة، وبين الصوت والصدى، وبين الأمل وبؤس واقع التشرد وقسوته على اللاجئين في تلك الفترة، ويصل ” الرحابنة ” في نهاية الأغنية إلى جوهر الحقيقة التي يفرضها التشرد، وإلى معنى الأمل الذي يؤسس لفعل المقاومة والأمل في التحرير:
بالإيمـان راجعون
للأوطـان راجعون
في الرمال والظلال
في الشعاب والتلال
راجعون.. راجعون.. راجعون
وكان لهذه الأغنية صدى كبير في ذلك الوقت.. ومن هنا فليس غريباً أن تكون ” راجعون ” كما رآها الناقد اللبناني ” نزار مروة “، بعد ثلاثين عاما على صدورها، محتفظة بتلك الريادية، حيث وصفها بالقول: ” مغناة راجعون من الأعمال القليلة التي انجلت عن معالجة راجعة إلى مسألة التعامل مع العناصر الثلاثة: الاوركسترا والصوت، الفرد والمجموعة، بالمعنيين الوظيفي والجمالي، وعلى المستوى الغنائي بخاصة، ينهض حوار مؤثر بين جموع الشعب الممثلة بالكورال، وبين ضميرها في الصوت المفرد فيروز “.
بعد ستة أشهر، عادت ” فيروز ” و ” الرحابنة ” إلى بيروت، وفي أول يوم من سنة 1956 م، أنجبت ” فيروز ” بكرها زياد.
الانطلاق الفني..
بعد ذلك بدأت ” فيروز ” تعمل، وتكسب، وبدأ انتشارها مع أغانٍ مثل ” عتاب ” و ” راجعون ” مرحلة الشهرة في كثير من بلدان العالم العربي، وفي عام 1956 م، توقفت إذاعة الشرق الأدنى عن البث، بعد أن قاطعها الكثير من الموسيقيين اللبنانيين ـ بمن فيهم الرحابنة ـ استنكاراً لموقفها المنحاز للعدوان الثلاثي على مصر، ويومها قام ” صبري الشريف ” المدير الفني لأعمال ” الرحابنة ” بنقل أنشطتهم إلى إذاعة دمشق، التي كان لها فيما بعد دور كبير في انتشارهم.
وفي عام 1957 م، صدح صوت ” فيروز ” العذب أمام الجمهور السوري في دمشق، وأشعل خياله بمشاعر الحب والحنين والأحلام والذكريات، وغنت قصيدة بردى ” وداد ” ( شعر الأخطل الصغير )، ” مشوار ” ( شعر سعيد عقل )، ” من نعمياتك لي ” ( شعر بدوي الجبل )، و ” نحنا والقمر جيران ” وأيضاً أغنية عتاب.
أول لقاء حي مع جمهور لبنان
في صيف عام 1957 م، كان أول لقاء حي لفيروز مع أكبر حشد ـ على الإطلاق قدر بعشرة آلاف ـ في حفلة أقيمت في معبد ” جوبيتر ” في بعلبك، وتحت قمر بهيئة هلال، عمد المخرج ” صبري الشريف ” إلى إغراقها من أسفل بضوء أزرق من اتجاهات مختلفة حتى بدت كأنها تسبح في الفضاء، كان المشهد ساحراً للجمهور، وعندما بدأت بالشدو ” لبنان يا اخضر حلو ” اشتعل الناس تصفيقاً، مفتونين في موجة من التأثر والبكاء والغبطة.
المسرح الغنائي
مع توقف إذاعة الشرق الأدنى ودخول الرحابنة ” شركة التسجيلات اللبنانية ” ( لارك )، حلت المسرحيات الغنائية الطويلة لتصبح الفرصة الكبرى في حياة فنانة تواجه الجمهور وجهاً لوجه غناءً وتمثيلاً ـ مرة واحدة في السنة على الأقل في بعلبك ثم في دمشق ـ فتغدق عليه بأعماق انفعالاتها الصارخة للحب والحرية والإيمان فيعانق صدى صوتها بالفرح والامتنان والدهشة. ولم يخفوا الرحابنة أنهم استلهموا هذا الشكل الفني الذي أحدثوا به ثورة في الفن العربي من تجربة ” سيد درويش ” الرائدة، ومن ذلك الوقت تطور الأمر رويداً، رويداً إلى إبداع مسرحيات غنائية ضخمة وأكثر قيمة وتأثيراً.
وفيما كان صوتها يشع كاللقيا في ضمير الناس والفن، كانت خطوات ” فيروز ” الأم والزوجة تكتشف يوماً بعد يوم ما يخبئه لها القدر من أفراح وأحزان وعذابات لا يعرف طعمها إلا صمت المراة المؤمنة.
وبعد زياد أنجبت فيروز ابنها الثاني ” هلي ” عام 1958 م، أي في الفترة التي بدأ مجد ” فيروز ” يكبر في مهرجانات بعلبك الدولية ويرفرف صوتها بين هياكل جوبيتير، وراح الأهل والأصدقاء ينادونها ” بأم الصبيان “، كانت فيروز سعيدة بهذا المولود، وفرحتها كانت لا تحد، فهي الآن نجمة كبيرة، وزوجة لفنان كبير، وأم لطفلين.. بعد ذلك أنجبت ابنتها ” ليال ” 1960، ثم ” ريما ” 1965 م.
غير أن الحكاية لا تكتمل فصولها إلا بظهور أحداث تقلب المقاييس رأساً على عقب فتظهر الوجه الثاني للحياة، فبعد أسابيع قليلة من ولادة ” هلي ” بدأت حاله تتغير وشكله يتبدل، أما الطبيب فلم يطمئنها ولم يقطع عنها الأمل بالشفاء.
ومرت الأيام، وكانت ” فيروز ” خلالها تعيش عذاب الأمهات، تدعو الله أن يشفي ابنها ويأخذ منها بالمقابل كل المجد والشهرة والغناء والمال، ومع ذلك فقد أصيب بشلل جعله ” سجين المقعد والبيت “.
وبعد أن اعتصر قلبها ابنها المقعد، واختفت البسمة من بريق عينيها، جاءها نبأ وفاة والدتها لكي تحترق بنار الحزن واللوعة وفقدان حنان الأم والشعور بالأمان والهدوء..
و” فيروز ” التي خاطبت الناس عبر أغانيها في حالاتهم النفسية وأحزانهم وآلامهم وفرحهم وجدت نفسها وحيدة في خضم بحر هائج لا ينجو منه إلا من زرع في نفسه بذور الإيمان والتقوى والصلاة، فبعد وفاة والدتها فقدت ابنتها ” ليال ” ثم زوجها عاصي في 21 / 1 / 1986 م، ومع هذا ظل إيمانها بالله قوياً، وظلت تجابه المحن بنوع من الصلابة وإن كانت في أعماقها حزينة حتى آخر درجات الحزن.
وإذا كانت الأحزان قد سرقت الفرح من أعماق نفسها، فقد أعطتها بالمقابل شجاعة الموقف وصلابة الرؤية وقوة الصوت والحضور والقرار، وفيروز التي جبلتها المأساة، وأخذتها الحياة إلى الأضواء، بدأت عمراً جديداً من العطاء على المسرح والشاشة الصغيرة والكبيرة وفي كل أقطار العالم.
المسرح… عصر جديد في مسيرة الرحابنة
بشر عام 1960 بولادة عصر جديد في مسيرة الرحابنة، حيث بدئ بتقديم المسرحيات داخل لبنان وخارجه، في مهرجانات بعلبك والأرز وقصر بيت الدين ومعرض دمشق الدولي، بدءاً من: ( موسم العز، والبعلبكية، ولولو، وجسر القمر، وهالة والملك، و الشخص، وصح النوم، وناطورة المفاتيح، والليل والقنديل، وبياع الخواتم، وأيام فخر الدين، ودواليب الهوا، و جبال الصوان، وناس من ورق، والمحطة، ويعيش يعيش، وميس الريم، وبترا ).
وقد لعبت فيروز الدور المحوري في تلك الأعمال المسرحية، وكان المقوم الأساسي الأول للنجاح في كل أدوارها ـ إلى جانب الدأب والجهد الهائل ـ هو عملها على التمثل الصادق الحي لهذه الأدوار… وتتضح تلك الأدوار بجلاء من طبيعة المضامين المسرحية.. ففي ” البعلبكية ” تهجر الآلهة مدينة بعلبك بعد أن تهدمت، وتطلب من صبية ذات صوت شجي أن ترافقها، ولكن الصبية تفضل البقاء بين البشر حتى تعيد لبعلبك مجدها القيم. وفي ” جسر القمر ” تصنع صبية مسحورة طيبة السلام بين فرقاء يكرهون بعضهم، وفي مسرحية ” هالة والملك ” تتحدى هالة الملك وترفض الزواج به ( ! ) وتفضح مع شحاذ المدينة شبكة الفساد والقهر واستغلال النفوذ التي تحجب الملك عن شعبه الفقير، الذي يستعطف هالة في أن تقبل الزواج كي تدافع عنه. وفي ” الشخص ” تظلم العدالة العرجاء بائعة بندورة لمجرد أنها غنت أمام الشخص رمز السلطة، وأخلت بقواعد اللعبة التي وضعها أصحاب النفوذ. وفي ” ناطورة المفاتيح ” يحول حاكم مستبد بلده إلى سجن كبير، فتقاومه وترفض الهرب من بلدها وتبقى لتغني للحرية.
وعن الأدوار في تلك المسرحيات تقول:
” الدور كائن حي، من الخطأ أن ندعه يتجمد، وبمعنى آخر لا تجوز تأديته ليلة بعد ليلة، وكأنه دائرة حديدية تكبل الفنان داخلها، وعادة، تنشأ وتنمو صداقة متينة بيني وبين مختلف الشخصيات التي صورت غناء وتمثيلا، سرعان ما آلف طباعها، وامتزج ـ وأكاد أقول التصق ـ بها، فتصبح قطعة من حقيقتي، وقد جاءت كلها إلى حد ما مفصلة لي… بيني وبينها شبه قرابة ومودة “.
وتضيف فيروز: ” كثيراً ما أعود إلى أدواري في الاسكتشات القديمة، وأذكر مدى خجلي وخشيتي من الحركة، يتأكد لي أن حب الناس هو الذي يفجر في الفنان طاقات لم يكن هو ذاته يتوقعها، تطورت أدواري مع تطور شخصيتي، وكانت بطلات تلك المسرحيات صديقات سرن معي عبر دروب طويلة، وما من شك في أن حب الجمهور واستقباله الدافئ لي قد ساعداني على فك قيد الارتباك الذي كان إلى وقت قريب يكبلني ويشل فيّ الحركة “.
السينما…
مثلما أحب الناس فيروز وهي تغني وتمثل على خشبة المسرح، أحبوها أيضاً في أفلامها الثلاثة ” بياع الخواتم من إخراج ” يوسف شاهين ” و ” سفر برلك وبنت الحارس ” من إخراج ” هنري بركات “، لعبت فيروز في الأفلام الثلاثة دور البطولة وقدمت فيها مجموعة من أغانيها.
وقد لعبت فيروز في فيلم ” بياع الخواتم ” دور الصبية ريما ومثل ” نصري شمس الدين ” دور خالها، مختار القرية الذي يوهمها بأن القرية مهددة من شرير اسمه راجح ” جوزيف عازار “، فينشغل بعض الشباب بهذه الكذبة وتفاصيلها ولكن ريما تعرف اللعبة… وريما في ” بياع الخواتم ” فتاة بسيطة تقول لحبيبها: ” تعا ولا تجي / واكذب علي / الكذبة مش خطية… “، كما هي في الوقت نفسه صبية ذكية تتستر على خالها لكي يبقى السر في فرح أغنياتها وطلتها وخفة روحها.
بعد نجاح ” بياع الخواتم ” الذي عرض في المهرجان السينمائي الدولي الذي أقيم العام 1965 م في لبنان، ونجاح ” فيروز ” كممثلة، أراد ” عاصي ومنصور الرحباني ” أن يعيدا التجربة ولكن بقصة جديدة موضوعة خصيصاً للسينما وهي ” سفر برلك ” ( عبارة عثمانية تعني النفي إلى مكان مجهول ومن إنتاج نادر الأتاسي ).
تلعب ” فيروز ” في ذلك الفيلم دور فتاة يذهب خطيبها ” المكاري ” ليشتري لها خاتم الخطوبة فيعتقله العسكر العثماني في الطريق ويقتادونه إلى الغابة ليقتطع الأشجار لتسيير قطارات الحرب. وتبدأ ” فيروز ” مهمة البحث عنه فتلتقي بالقبضايات ومجموعة من الشباب الثائرين على وطأة الظلم العثماني، توكل إلى أحدهم مهمة تأمين القمح لإطعام أهل القرى، وتبدأ المطاردات التي تطاول الفتاة التي أصبحت في المقاومة من دون أن تدري، بعد ذلك تلتقي الفتاة بخطيبها المطارد، على سطح قارب وتقول له: “هون بلدنا وما منتجوز إلا ما نحرر بلدنا “.
نجح أيضاً فيلم ” سفر برلك ” لكن السفارة التركية قدمت احتجاجاً إلى السلطات في كل بلد عرض فيه الفيلم بعد بيروت ( تونس، العراق، الأردن… ) بحجة أن الفيلم ضدها، مع أننا، كما يقول منصور، كنا نستعمل كلمة ” عثمانيين ” لا الأتراك، وكنا نعلم أن دولة العثمانيين انتهت مع مجيء الدولة التركية.
أما قصة الفيلم الثالث ” بنت الحارس “، فتدور قصته حول حارسين ليليين قضيا على السرقات في بلدة ” كفر غار ” بسهر هما على مصلحة الأهالي فيقرر مجلس البلدية فصليهما من الخدمة لأن اللصوص قد انتهوا. فتقرر ريما ( فيروز ) ابنة أحد الحراس إعادة اللصوص إلى القرية عن طريق حوادث يفتعلها مجهول، وما المجهول إلا ريما التي تكتشف فساد أهل القرية، ويقرر مجلس بلدية القرية إعادة الحارسين لإعادة الأمن فيكتشفان أن المجهول هو ريما، غير أن مجلس البلدية لا يستطيع معاقبتها لأنها اكتشفت أسرارهم وفسادهم ويبقى الحارسان في ” كفر غار ” نجوم هذا الفيلم إلى جانب فيروز.
غنت ” فيروز ” في هذا الفيلم قصيدة الأخطل الصغير: ” يا عاقد الحاجبين “ كما غنت: “ نسّم علينا الهوى من مفرق الوادي، يا هوى دخل الهوى خذني على بلادي “.
قال ” عاصي ” يوم ذاك عن فيروز السينمائية: ” أن وجه فيروز للتمثيل السينمائي، كما للمسرحي، وجه رائع لما تحمله تقاسيمها من هدوء وصفاء داخلي… وهذا الوجه من الوجوه النادرة والمثالية، فهو يعطي انسكابا وتأثيراً كبيرين على المتفرجين “.
القضية الفلسطينية
قدم الرحابنة، أحد عشر عملاً غنائياً عن القضية الفلسطينية، عبّروا من خلالها عن مفردات شتى، واختزلوا فيها صوراً ووقائع وأحداثاً، بطرق مختلفة ومجددة بدءا بتركيزهم على معاناة التشرد واللجوء والانتظار كما في أغنيتي ” غاب نهار آخر و احترف الحزن والانتظار “. وخص الرحابنة معالم فلسطين بالعديد من الأغنيات، وبدأ الحنين إلى المكان بما يختزنه من ذاكرة وذكريات محوراً مهماً كما في الأغاني التالية: ” يا ربوع بلادي، يافا، بيسان ” التي صدرت ضمن ألبوم ” القدس في البال “.
وحظيت القدس باهتمام مميز في سجل الأغنية الرحبانية، وبشكل خاص بعد زيارة الأخوان ” رحباني وفيروز ” للقدس عام 1964 م، وكانت هذه الزيارة محرضاً أساسياً لمجموعة أغنيات سيصدرها الرحابنة لاحقاً، وفي أثناء تجوال ” فيروز ” في شوارع القدس، استوقفتها سيدة وحكت لها مأساتها وروت فصول معاناتها، فتأثرت ” فيروز ” وبكت، فأحبت السيدة الفلسطينية أن تخفف عنها فأعطتها مزهرية، ورجعت ” فيروز ” وحكت لعاصي الرحباني، فولدت الأغنية التي حملت عنوان ” القدس العتيقة ” والتي تقول كلماتها:
مريت بالشوارع شوارع القـدس العتيقة
قـدام الدكاكين اللي بقيت من فلسطين
حكينا سـوا الخبرية عطيوني مزهرية
قالـولي هيدي من النـاس النـاطرين
هذه الأغنية التي صورتها ” فيروز ” للتلفزيون اللبناني عام 1966 م، تمثل برمتها معاينة لواقع هذه المدينة التي كانت تقف على حافة المأساة، معاينة تصور مشاعر الناس وأحزانهم، وتستعيد نبض الحياة التي ترفد نهر الألفة بين البشر والحجر لتصنع معنى الارتباط بالمكان ومعنى الوطن في صيرورته التاريخية والإنسانية.
وعقب سقوط مدينة القدس عام 1967 م، قدم الرحابنة أغنيتهم الشهيرة ” زهرة المدائن ” حيث تنطلق الأغنية من حالة خشوع وجداني وروحي يمزج بين طقوس العبادة، التي تختزل المكانة الدينية للقدس، في التراث المسيحي والإسلامي، وبين الرحيل الرمزي إلى المدينة عبر نظرات الحزن التي تستجلي مأساة السقوط في يد الاحتلال:
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقـة المعابد
تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد يا ليلة الإسراء يا درب من مروا
إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم وإنني أصلي…
الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان
الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان
… وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن آثار القدم الهمجية
وهناك أيضاً الأغنيات التي تحدثت عن حلم العودة مثل: ” العودة، الرجوع، راجعون، سنرجع يوماً، أجراس العودة، جسر العودة، وتبقى الأخيرة هي الأكثر تعبيراً عن هذا الحلم، وتأكيداً وإصرارا على إذكائه.
واللافت أن الرحابنة استطاعوا أن يحققوا في هذه الأعمال فتحاً جديداً في مجال الأغنية الوطنية، وبشكل خاص في الأغاني ذات الطابع الحماسي والمليء بالحيوية كما في أغنية ” أجراس العودة ” و ” سيف فليشهر “.
لقد جاءت أغنيات السيدة ” فيروز ” و ” الأخوين رحباني ” عن القضية الفلسطينية نموذجاً يحتذ في التعبير الوطني الصادق، الذي يرتقي بالصورة الفنية كلمة ولحناً وغناء.
الأغنية الفيروزية
لقد جاءت الأغنية الفيروزية لتتجاوز التطريبة التقليدية، وكانت ذات مواصفات خاصة من حيث الأداء كما من حيث الموسيقى والمضمون والشعر، وازدهر تأثير ” فيروز ” في العالم العربي مع التأثير المتنامي لأماني التحرر والديمقراطية والعدل… فأغانيها التي كتبها كبار الشعراء العرب مثل: ” عمر أبو ريشة، ونزار قباني، وسعيد عقل، والأخطل الصغير، وأبو سلمى، وجبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وهارون رشيد، وقبلان مكرزل، وبدوي الجبل، وأسعد سابا، وطلال حيدر، وجوزيف حرب وآخرين، كما غنت كذلك بعض قصائد ” عنترة ” الذي غنت بعض أبياته خلال غنائها للموشحات الأندلسية “، كانت منسجمة مع الاتجاهات الاجتماعية والسياسية التي تسود العالم العربي، وكثيراً ما عبرت عن المشاعر العربية المشتركة على نحو واسع… حيثما حلت في الوطن العربي أو في خارجه.. فغنت على مسرح دمشق الدولي، وعلى مدرج فيلادلفيا الأثري في عمان، كما غنت في القاهرة وبغداد وتونس والرباط والجزائر والإمارات…
وسافرت إلى المهاجرين العرب في مختلف مدن العالم، وغنت في أشهر مسارحها مثل ” رويال ألبرت هول ” في لندن، و ” كازنيفي هول ” في نيويورك، و ” أولمبيا ” في باريس.
وفي عام 1981 م، صدح صوت فيروز في مقر الأمم المتحدة أمام مجموعة الدول العظمى، تنقل رسالة وطن يريد الحياة والحرية. في ذلك اليوم، وقبل أن يرفع المايسترو ” جوزيف إيغر “، مؤسس وقائد اوركسترا منظمة الأمم المتحدة عصاه ليرافق السيدة، توجه إلى الحضور قائلاً: ” يشرفني أن ألفت أنظار الجمهور إلى فنانة لبنانية عظيمة وحضورها في هذا المقر ترافقها فرقة جمعية الأمم المتحدة ما هو إلا تجسيد لمقامها العالي “.
صدى الذكريات وعاصي في البال
لم تلبث فيروز أن انفصلت عن الأخوين رحباني فنياً وعائلياً بعدما أحيت في عام 1979 م، حفلات في الأولمبياد في باريس، لكن الذكريات مع عاصي وشقيقه منصور كثيرة، وتبتسم فيروز لها حين تتذكر أيام العز والفرح والنجاح قبل أن يأتي شبح الحرب ويصاب عاصي بجلطة دماغية في 26 سبتمبر 1972 م، وذلك بعد مضي أقل من أسبوع على انتهاء عروض ” ناطورة المفاتيح في معرض دمشق الدولي، وبعد علاجه بسنوات يستسلم عاصي لرحيله قائلاً: ” أنا لم أعد أتذكر الزمن وقف عندي من زمان “.
وكما في القصص والحكايات وعلى المسرح، كذلك حياة فيروز لا تكتمل فصول التراجيديا إلا بموت البطل وانتصاره على الزمان والمكان، رحل عاصي في 21 / 1 / 1986 م، لكي يمتد أكثر في ذاكرتنا ويعطينا وعده بالحب والفرح والأغنيات، رحل لكي يرتاح وينام في بال شريكة عمره فيروز ويعيش في صوتها.
قدر فيروز أن تتابع الطريق مع زياد، ليس لأن زياد هو الوارث أو المكمل للطريق الذي رسمه والده، بل لأنه يكمل ذاكرة الأيام الماضية والآتية.
إن قدرها أن تبقى رحبانية، أي مع ” عاصي ومنصور، إلى ” زياد ” الذي خاض تجربة مع والدته ـ أساسها رحباني المنشأ ـ ولكنها مختلفة في الأسلوب والطريقة والهدف سواء في ألحانه أو أغنياته أو مسرحياته.
فنقل والدته من ” وحدن ” إلى ” معرفتي فيك ” إلى ” كيفك أنت “، حتى زياد نفسه انتقل من العمل مع الرحابنة في ” سألوني الناس ” و ” نطرونا ” و ” قديش كان في ناس ” و ” حبوا بعض “، إلى أغان ومسرحيات مختلفة أراد أن يكون بها فنان المستقبل.
وتختصر فيروز آراءها في هذه التجربة من خلال حوار معها نشر في ملحق صحيفة ” النهار ” حيث قالت:
” زياد تعلم في مدرسة عاصي، وهو ليس فناناً بالمصادفة، هو ابن موسيقانا، وهو كأبيه مغامر، ولكل منهما طريقته في المغامرة، أغنيات الماضي كانت مغامرة، تماماً كما يقال اليوم في أغنياتي الجديدة، التاريخ يعيد نفسه، والسجال المطروح عرفناه من زمان في بداياتنا قبل أن نعرف النجاح، يوم كسر عاصي ومنصور جدار الأغنية والموسيقى السائد، لقيا اعتراضاً واضحاً. أتذكر الحملة التي شنها علينا فخري البارودي، متهماً إيانا بإفساد الطرب وتشويه الغناء… لكن الجمهور سرعان ما ألفها وأحبها، كما جددت بالأمس مع الرحبانيين أنا أجدد مع زياد “.
وتضيف: ” أحب ” معرفتي فيك ” و ” كيفك أنت ” كثيراً، أحب فيهما الجديد في التعبير الموسيقي والأدائي، وهذا الجديد يخرج عن القالب الفيروزي المألوف، لكنه لا بقطع الصلة معه… غنيت ” ملا أنت ” وأنا مدركة ما ستثيره من سجال، في ” صح النوم ” غنيت في أحد الحوارات ” روح يا بلا مربى ” واحتج الكثيرون، فيروز لا يصح أن تلفظ مثل هذا الكلام، غنيت ” كيفك أنت ” وفي نفسي رغبة داخلية في كسر هذا الوقار ألبطريركي الذي يلبسني، يخيفني هذا القالب الذي أجد نفسي مصبوبة فيه… “.
من هنا يأتي دفاع فيروز عن تعاملها مع ألحان وكلمات زياد الرحباني، هي تعلم أن قديمها كرس كقيمة ثابتة في الذاكرة، ولكن جديدها مع زياد كان لا بد منه، كانت مغامرة خاضتها بجرأة.
هناك شيء مهم بالنسبة للذين يقفون مهللين أو مستنكرين لها، وهو فترة الحرب الأهلية في لبنان، صحيح أن فيروز تعاملت معها بالدعوة للحفاظ على ” لبنان الأخضر الحلو ” من جنون القتال والدمار، ولكن الأحداث حفرت في صدرها جرحاً عميقاً، ولهذا تقول: ” أشعر اليوم بحاجز كبير يفصلني عن ” بحبك يا لبنان “، ثمة لغة عاشت ودفنت، وأصبحنا مضطرين لابتكار لغة جديدة، لقد غنيت للحلم، وفي كل ما غنيت كانت هناك دعوة للحلم. عشت في زمن الجمال والفن… وأصبحت أقول ليتني لم أعرف الواقع وبشاعة الواقع الذي فرض علينا “.
لقد تعمدت ” فيروز ” ألا تقف إطلاقاً على أي خشبة مسرح في لبنان، طوال سنوات الحرب اللبنانية، رافضة دائماً الغناء في جزء من لبنان دون الآخر، ومنتظرة عودة العافية والسلام إلى لبنان الواحد، وتعمدت أيضاً ألا تغني في سنوات الحرب حتى لا يعد هذا انحيازاً إلى أي حزب، وبعد أن انتهت الحرب، أقامت حفلة لها في ساحة الشهداء في بيروت عام 1994 م.
شهادات
قال عنها حليم الرومي، مكتشف صوتها قبل عاصي الرحباني: ” صوت رائع، صالح للأداء الشرقي، وممتاز للأداء الغربي، صوتها كالأحجار الكريمة والنادرة. صوت له رنة يصعب إيجادها لدى الآخرين “.
وقال عنها فيلمون وهبي الذي لحن لها عدة أغنيات ناجحة: ” فيروز تمتلك طاقات هائلة نادرة، إنها حنجرة فريدة ومشاعر مرهفة، إنها لحظة البهاء في التاريخ اللبناني الغنائي.. “.
بعد نجاح فيلم بياع الخواتم قال عنها المخرج يوسف شاهين: ” لقد فوجئت بالموهبة التمثيلية الكبيرة التي تتمتع بها المطربة فيروز فانا أعرف أنها مطربة كبيرة ممتازة، ولكن فيروز أثبتت أنها ممثلة كبيرة وواحدة من كبيرات ممثلات الشرق، إنها تتمتع بالبساطة، والبساطة كما هو معروف هي منبع الجمال “.
وقال منصور الرحباني عن فيروز المطربة والممثلة للناقد السوري جان الكسان: ” فيروز إنسانة متفردة صوتاً وتمثيلاً، هي فنانة مجتهدة، تحترم نفسها، تحترم جمهورها، تخلص لعملها بصورة مثالية، لا تبخل على العمل بكل ما لديها من جهد وطاقة، ولو كان ذلك على حساب أعصابها وعلى حساب راحتها “.
كما تقول غادة السمان، صوت فيروز هو: ” هذا الطفل الخالد الوديع، الذي يثير فينا الحنان، ويثير فينا الإحساس بأن الدنيا كلها فجر جديد مليء بالندى والعطر، مليء بالتفاؤل الحلو الذي لا يخلو من حزن “.
قالت عنها مجلة نيوزويك 1987: ” سحر فيروز يكمن في انتمائها العميق إلى الأمة العربية، هذه الأمة التي تجد أفراحها وأحزانها في أغنياتها “.
وكتبت صحيفة ” لومانيتيه ” الفرنسية في 1988 م: ” على غرار أم كلثوم، تجسد فيروز الصوت الأعمق للعالم العربي المجروح بلا نهاية، هي ضوء صاف في كابوس الحرب، تغني أمل الشعوب الممزقة “.
أما مجلة ” اكتوييل ” فقد رأت: ” أن هذا الشرق الذي يدعوها سفيرتنا إلى النجوم يرفعها اليوم إلى مصاف أم كلثوم حارسة التراث العملاقة “.
لا نريد أن نطيل أكثر من ذلك فقد قيل عن صوتها وسيرتها الكثير، وتبقى حكاية فيروز المطربة في صوتها حكاية طويلة لا يعرف أدق أسرارها إلا ليل فيروز وسهرها الطويل مع الوحدة وذكرى الغياب.. وحقيقة عالم فيروز هي جوهرتها الثمينة… وسر فيروز أنها تملك كنزاً تهبه لكل الناس في أنشودة أغنياتها… وهي مشغولة دائماً بإسعادنا عبر صوتها وسفرها الدائم في الحب والحنان والفرح لحظة بزوغ الفجر العابق بالضوء والأمل، وتبقى لها المعاناة والقلق والتعب لكي تمد لنا جسر حبها كي نسافر مع أحلامنا.
ويبقى صوت فيروز، صوت طفولتنا الضائعة، ولحظات حياتنا الهاربة، وصراخ مكنونات مشاعرنا.. وخبزاً لراحة النفوس المتعطشة للوطن والحرية والتغيير والأمان، وسط الضباب الذي يلف الأمة، ويحاصر أناسها بالخوف والقلق والألم.
فيروز.. يا من أضاءت حياتنا بأغنياتها البديعة، و جعلتنا نسمو ونحلق في فضاءات لا تعرف إلا الحب… متعك الله بالصحة والعافية، وأبقى كل أيامك سعادة وأفراح..
الأوسمة والجوائز التي حصلت عليها فيروز:
حصلت فيروز على العديد من الأوسمة والجوائز منها:
ـ وسام الاستحقاق اللبناني عام 1957 م من الرئيس ” كميل شمعون ” وهو أعلى وسام في الدولة يناله فنان، ووسام الأرز رتبة فارس عام 1962 م، ثم وسام الاستحقاق اللبناني.
ـ ميدالية الكرامة التي قدمها لها جلالة الملك الحسين بن طلال، طيب الله ثراه عام 1963 م.
ـ وسام الاستحقاق السوري عام 1967 م.
ـ إصدار طوابع بريدية تذكارية عليها صورة فيروز عام 1975 م.
ـ وسام النهضة الأردني من الدرجة الأولى عام 1975 م.
ـ وسام الكوموندور الفرنسي عام 1988 م.
ـ جائزة القدس في فلسطين عام 1997 م.
ـ وسام الثقافة الرفيعة من تونس عام 1997 م.
ـ ميدالية الفنون للمرة الثانية من فرنسا عام 1997 م.
ـ ميدالية الإسهام الاستثنائي من الدرجة الأولى، عام 1998 م، وكانت تلك آخر ميدالية يقدمها جلالة الملك الحسين بن طلال قبيل رحيله.
أما حفلاتها فقد تجاوزت الخمسين حفلة منذ أيام الحصاد 1957 م، وحتى دبي 2002 م، متنقلة بين جميع أرجاء المعمورة، وقد اختارها الصليب الأحمر الدولي عام 1999 م، كسفيرة للعرب بمناسبة مرور 50 عاماً، وقد غنت ” الأرض لكم ” بدلاً من إلقاء كلمة.