فلسطينيو القصيدة الجديدة

راسم المدهون
عــــاشـت القــــصيـــدة الفلسطينيــة تــاريــخياً في مواجـــهة الحــدث اليومي، العاصف والمباشر فكان مادتها وعنوانها الذي يختصر عالمها ويضعها في صورة مستمرة في أتونه. القصيدة الفلسطينية أكثر من أية قصيدة عربية بحثت عن الألم والمعاناة وأيضاً المشاعر والأحاسيس في تلك البقعة العميقة من الأسى التي كانت تحدثها قنابل العدوان وتترك دوائرها تنداح في أرواح الفلسطينيين وكأنها صورتهم وصور حياتهم كلها.
ربما بهذا المعنى كانت تجربة الراحل إبراهيم طوقان مختلفة نسبياً، هو الذي كتب للقضية وحدثها بعض أهم ما قيل فيها وعنها ولكنه التفت أكثر من غيره نحو صور ومشاهد انسانية فكان استثناء جميلاً ومميزاً ترك رسالته لمن رغب بعد ذلك في الخروج عن العادات الشعرية الثابتة وشبه الراسخة. في سياق كهذا يمكن الحديث عن استثناء لامع وبالغ التأثير شكلته لاحقاً تجربة محمود درويش بل عمَقته الى حد غير مسبوق فدرويش الذي كرَس شعره للتراجيديا الفلسطينية كانت تجربته الشعرية أقرب للتعبير عن «الهولوكوست» بما هو فجيعة انسانية منها الى ملاحقة جزئيات يومية مهما تكن مهمة وخطيرة.
وبهذا المعنى كانت تجربته الشعرية تتميز بين جيل شعري فلسطيني كتب القصيدة الوطنية وكرس شعره لها، فهي تجربة نجحت دائماً في التحرر من أسر المساحة الضيقة للقصيدة الوطنية السائدة وحفرت مجراها في الأسطورة والتاريخ كما في الفلسفة والفلكلور وفي استبطان الروح الفردية للضحايا وقراءة ما هو أبعد وأعمق من المأساة بوصفها حدثاً واقعياً مباشراً. ذلك ما نراه بصورة واضحة عند شعراء الستينات الفلسطينيين خصوصاً وقد تجاورت تجاربهم زمنياً مع تجربة الثورة والكفاح المسلح الساخنة التي شكلت مناخاً يدفع نحو تسييد مفاهيم وشعارات غير شعرية تربط الشعرية بأفق ينحصر في مقولات محدودة أفضت بالضرورة لابتعاد واضح عن الروح الداخلية للشاعر ومن ثم عن طبيعة الشعر الأهم أي التعبير عن الشاعر وحياته بكل جزئياتها وما يسكنها من أحاسيس وموضوعات.
هـــكذا كــان عــلى الشعر الفلسطيــني أن يــنتظر الى سبعينات القرن الفائت ليدخل مع جيل شعرائه أفقاً مختلفاً وعوالم شعرية مغايرة تماماً: يمكن القول إنه شعر لم يعد يبحث عن البطولة أو هو بالأدق يعيد ترتيب الأدوار فيجعل البطولة تتنازل عن مواصفاتها وملامحها القديمة وتستبدلها بما كان قبل ذلك دليلاً على عكسها.
وهكذا أمكن رؤية الحزن بطلاً لا يؤسس للسواد واليأس قدر تأسيسه لرؤى ترسم صورتها خارج البلاغة وتقترب من وظائف أخرى منحت نفسها حق التجول بحرية لا تحددها اشتراطات مسبقة مهما تكن «قداسة» تلك الاشتراطات التي بات الشعراء الجدد يتنكبون عنها بوصفها خارج الشعر وعالة عليه وعلى تطوره في غالب حالاتها.
سأقول هنا إن هذه المسألة بالذات من تجعل بعضاً من قراء الشعر (وأيضاً بعض نقاده) يرون حتى في مجموعات محمود درويش الشعرية الأخيرة نوعاً من «التخلي» عن الوطنية وخروجاً على «وظيفة» الشعر التي رأوها وظيفة وطنية سياسية جعلتهم إذ يطلقون على ياسر عرفات لقب القائد العام، يطلقون على درويش لقب «الشاعر العام» في اشارة الى أنهم لا يرونه الا شاعر القضية التي يرون التعبير عنها محصوراً في مفاهيمهم للشعر وكيفياته.
هنا بالذات سطعت قصيدة السبعينات إذ توغلت عميقاً في شقوق الحزن ومراياه ونهلت من عوالمه المفتوحة على الحب والمنفى والخيبات الفردية والانكسار ونقائضها من الأمل أي من ما تحمله الحياة ذاتها من تنوع زاخر لا صيغة وحيدة له ولا صورة وحيدة لارتساماته الروحية والنفسية.
الأهم هنا أن شعراء القصيدة الجديدة من الشباب يأتون الى الشعر من الحياة ذاتها التي يعيشونها بانتباهات تعتني بالجزئي، الهامش أو بالأدق الذي رآه النقد التقليدي هامشياً وشاءت له الحياة ذاتها أن يكون العميق والمفعم بحيوية تستدرج حيوية الشعر وتنقله الى لغة مختلفة وحساسية نزعم أنها أرهف وأكثر انسانية في استلهامها ما في التراجيديا الفلسطينية من وشائــج الدم مع كل ما يعيشه الفلسطينيون فــي وطنــهم وفـي بلدان شتــاتهم من أسى عميــق لا يمكن احتجازه في العناوين السياسية وحسب فهو يفيض عنها وتضيق عليه. شعراء من أجيـال جديدة يذهبون بحلمهم الشعري الى ضفاف كانت حتى الأمس القريب غريبة وغير مأهولة بقراء الشعر.
هؤلاء وبعضهم يعيش في أوروبا يتوغلون أكثر في المساحات الحسية ممزوجة بمخيلات خصبة تستمد ثراءها من مناخات الخاص وما يتلقاه الشاعر والشعر من وعي جمالي جديد بات يؤلف مشهداً شعرياً له معالمه مثلما له شعراؤه ومنهم خالد الناصري، فاتنة الغرَة غياث المدهون وهم يتجاوزون بشروطهم الجمالية كما بحساسيتهم الشعرية المغايرة موجة من شعر «التقليدية الجديدة» انتشر في العقد الماضي وشجعت عليه بعض القنوات الفضائية العربية كما هو حال تجربة تميم البرغوتي مثلاً والتي أعادت إنتاج القصيدة السياسية من دون أن تتمكن من الخروج من رطانتها القديمة.
(الحياة)