فلسفة الانعتاق من أصفاد الجسد

الجسرة الثقافية الالكترونية-الاتحاد-
بداية أستهل الورقة بموجز عن تجربة الفنان التشكيلي المغربي عبد اللطيف الزين.. حين خرج عن المألوف واستدعى فرقة موسيقية روحية تعنى بالفن «لكناوي»، هذا الفن المتجذر في الثقافة الشعبية المغربية الذي يتميز بإيقاعه ورقصه الروحاني الصوفي بما يصطلح عليه بالدارجة المغربية «الجدبة».. كان الفنان يتوسط الأجساد التي تهتز وتنزل في خشوع.. ويصب بين الفينة والأخرى صباغته عليها.. ليطلي لوحاته بالرشات التي تتناثر مع الايقاع.. قمة الجنون في الإبداع التشكيلي ما يجعلنا نؤمن بأن عالم الإبداع روحي بالدرجة الأولى.
ومن وجهة نظري أن الابداع كيفما كانت تجلياته نابع من الوجدان السامي يتجاوز المنطق.. الابداع أصلا ينبعث من إفرازات خارجة عما هو مادي.. لا إبداع بدون تأمل، بدون انفلات من دائرة المكان والزمان، لتتجلى الرؤية وتتجلى الصورة الباعثة على تصحيح رواسب النفس وتهذيبها وتسكينها بعيدا عن الضجيج وفتنة الزيف الذي تقدمه الحياة في طابق ظاهره ورد.. وباطنه ديناميت قاتل..
الإبداع سفر روحي حالم وحليم.. وعنيد ضد القبح والخبث المستبد..
الإبداع قلق عارم لا يتأقلم بسهولة مع محيطه المادي ولا يستطيع الانتماء إليه، بل يختنق حد الغثيان..
الإبداع مقترن بالروحانيات ويستلهم منها فلسفة الانعتاق والتحرر من أصفاد الجسد.. من قيود الزمكان، ويتماهى مع الرؤى الأفقية والميتافيزيقية، لطرد هواجس الموت التي تسكنه، وتفاهة فواجع الأحقاد والاحتقان والضغينة المبيتة، واستباحة هدر الدم والفساد المنظم سياسيا.
الروحانيات هي روح الإبداع الإنساني.. والإنسان عموما في حاجة إلى التماهي مع كل ما هو روحي كي يعبث بالشر الذي يسكنه ويلغيه من خارطة جوارحه، لأن الروحانيات في حد ذاتها تقي النفس شر الفتنة الأزلية الضاجة ببشاعتها الموغلة في جذورنا..
وحين نفقد الجانب الروحي نفقد التوازن فينا، ويخرج المرء عن سيطرته فاحشا خارج إرادته، ويتحلل أخلاقيا ليصبح طوع غرائزه الحيوانية، مستذئبا مسعورا متجاهلا معالم الحب والجمال الذي خلق من أجلها ضاربا قيمها عرض الحائط، ليرضي جشع فطرته الجاهلية الفاتك.
بالروح نسمو ونترفع عن الجشع، وعن الملذات العشوائية التي تقتل فينا الإحساس الرهيف والمشاعر النبيلة اتجاه الحياة نفسها..
تتجلى الروحانيات إبداعيا في التخييل إلى حد التصوف، والإغراق في التأمل والبحث عن مصدر طاقته الهلامية المائلة إلى الخلود المعنوي خارج تفاصيل الجسد الفاني، والبحث عن كونية الأشياء وماهيتها، وطرح الأسئلة الكبرى، والغور فيها ليكون الإبداع بمثابة نتيجة واستلهام للغيب المبهم، وإدراكه بحس شعائري نستعيد فيه توازننا الإنساني ولو نسبيا،
فلولا الروحانيات ما عاد للحياة طعم.. وما طال امتدادها..