فم الذهب

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

*محمد علس شمس الدين

 

 

كان ذلك في عصر صيف من يوم من أيام العام 1988. كنت قد انتهيت للتو من قراءة كتاب “المعري ذلك المجهول” للشيخ عبد الله العلايلي، وصادف الكتاب في نفسي هوى كبيراً للتعرف إلى الرجل الذي عمّق معرفتي بأبي العلاء، لا سيما أنه كان لا يزال يعيش شيخوخته في منزله في حي “بيضون”، أول المنطقة الشرقية من بيروت لناحية رأس النبع، وكان منزلي في الناحية المقابلة، لا يفصل بيننا سوى ما كان يسمى يومذاك “خط التماس”. كانت الحرب الأهلية على أشدها والتراشق بالنار قائماً، لكن كانت تمر فسحات هدوء بين فترة وفترة. في هذه الفسحات من الهدوء النسبي، سعيت للتعرف إلى الشيخ العلايلي وفي رأسي صورة المعري كما رسمها الشيخ في كتابه المذكور. كان الشيخ قد بلغ الرابعة والسبعين من عمره، هو المولود في محلة الثكنات من بيروت في العام 1914، وكنت أنا شاباً لا أزال. فاجأني بحيوتيه الذهنية، وروح الدعابة التي يتمتع بها، والعمق الساخر لكلماته، فضلاً عن أنه في نظري، كان آخر إمام من أئمة اللغة العربية الكبار… إذ من بعد رحيله في الرابع من كانون الأول 1996 جاءت اللعثمة والهلهلة وساد اللحن في اللغة.

الشيخ أمام منضدته جالس جلسة العلماء. تحسبه قديماً وهو معاصر. قال: سرق اللصوص الأغبياء جزءاً من مكتبتي. سرقوا الكتب الجديدة لاعتقادهم أنها أثمن، وتركوا لي، لحسن الحظ، الكتب والمخطوطات القديمة.

المكتبة خلف الشيخ قائمة كظله. إنما مكتبته الباقية صدره. قلت له: أتيتك بلا موعد لأكون تلميذك لساعات. أنا أعرفك من زمان. تقتضي معرفتان لتفهم مراميك، مثلما تقتضي معرفتان لتفهم مرامي المعري.

قال: يعجبني فيك تجليك، وتجلي ربك فيك. أنا أعرفك ايضاً.

سرّني أن الشيخ يعرفني.

• فم الذهب

الشيخ فم الذهب، يتدفق مثل نهر. كان يدرك أن اللغة في حرج، بين أيدي الأساتذة والطلاب على السواء، في المدرسة والجامعة كما في الشارع، في الصحيفة كما في قلم المتأدب.. وحتى في أقلام بعض الأدباء المعدودين.

ذكر عابثاً، أن بعضاً من أعلام الأدب، كعميدهم طه حسين مثلاً، كان أحياناً يخطئ في عين الفعل، فيقول “يعجز” بفتح الجيم، وهو يقصد “يعجز” بكسرها، والفرق بين الكلمتين شاسع، “فيعجز” بالكسر، معناها يصبح عجوزاً، أما يعجز بالفتح فمعناها تكبر عجيزته، أي مؤخرته، فتأمل.

قال: صدر لي “المعري ذلك المجهول” لأول مرة العام 1944، في مناسبة المهرجان الألفي لأبي العلاء. دعوت فيه، وقد انفردت بهذه الدعوة، إلى ضرورة استخراج معجمية ابي العلاء قبل إصدار الأحكام عليه.. فقد قيل في فيلسوف المعرة أحكام وآراء كثيرة بلا سند محكم. قيل مثلاً إنه كان يؤمن بزمان ومكان قديمين، وإن فلسفته في هذا الباب مستمدة من فلسفة برهمية.. وذلك خطأ في ما يراه الشيخ. فالمعري لم يكن يرمي في اللزوميات إلى حقيقة بعينها. المعري كان يعتقد أن الكون بجميع ما فيه، هو أشبه ما يكون بالمنظومة الشعرية، وقافيتها الإنسان، وقافية القوافي في “لزوم ما لا يلزم”، هي ما اجتمعت فيه قافيتان معاً، وهو الإنسان المنتخب. هذا الإنسان الذي تتلاقى فيه خاصيتان تساويان “رهين المحبسين”، وهما الالتزام بالفكرة والتخلي عنها في الوقت عينه. فالمعري لم يقرر، في “لزوم ما لا يلزم”، أي رأي بحده، ولم يلتزم بفكرة بعينها. وهو تأثر بمنهجية الحسن الصباح، في ما يسمى “الكسر والإلزام على الخصم” ومفاده أن الرد على الخصم يكون إما بالتماس أدلة جديدة تكسر أدلة الخصم، أو بالعودة عليه بإلزامه بأدلته هو بالذات. ذلك ما يسمى في البحث والمناظرة، بالتنزل والتسليم. أرد منك عليك.

“قلتم لنا خالق عظيم قلنا: صدقتم كذا نقول”

فالمعري كان يملك العقل الجدلي، ويستخدم جدلية الشيء، في صميم الشيء.

واستخدم السفسطائيون مثل هذا المنطق الذي استخدمه المعري في اللزوميات. وكان أبو العلاء في عمله هذا، لا يرمي إلى ابتداع آراء قائمة بمفردها، بمقدار ما يرمي إلى آراء الآخرين، باستخدام هذه الآراء عينها. إنه يكشف عن فساد الرأي، من داخله، وبأدواته ذاتها.. وذلك أهم ما قدمه المعري في لزومياته. هذه الفلسفة بمنطقها تحصلت للمعري باللغة. اللغة التي هي منطق، معنى وأداة في آن. لذا اقتضى معرفة المعري اللغوي، من أجل معرفته كفيلسوف. هذا هو المعنى الذي يرمي إليه الشيخ بقوله: يقتضي لتفهم مرامي المعري معرفتان.

ورأيت أنه لمعرفة أغراض الشيخ عبد الله العلايلي، أيضاً، تقتضي معرفتان: اللغة ثم الفكرة، وربما الفكرة في اللغة.

 

• الجلد الجرماني

يتدفق الشيخ في علمه، هو صاحب الجلد العظيم. وصفه أنيس فريحة “بالجلد الجرماني”. الغوص والجلد جعلا منه آخر عقل جوال في اللغة العربية. فمن أين لنا بمثله؟

لقد حطم الشيخ عبد الله العلايلي ذرة الكلمة، وأطلعنا على القوى الكامنة في الحروف، كما قال فيه مارون عبود في “جدد وقدماء”

إلا ان الشيخ اليوم “اسيان”

– “أنا أسيان” قال لي كمن يقبض ريحاً

– لماذا أنت اسيان، يا سيدي الشيخ

– لأنه ما تغير شيء

مثله المعري أسيان. ألم يقل:

“تقضى الناس جيلاً بعد جيل

وخلفت النجوم “كما تراها”؟

كأنما لدى الرجلين: لا شيء ليحدث، لا شيء ليتغير.

وكلا الرجلين صاحب باطن عجيب. لعل سحر الباطن هذا هو الذي جعل لأبي العلاء المعري هذا الإشعاع المتجدد الذي اكتشفه الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه الفريد عنه. يضع الشيخ يده المبدعة على هذه اللقيا في فيلسوف المعرة بكثير من الفرح النفسي بغبطة الاكتشاف، قارئاً محللاً سابراً أغوار هذا العقل الخفي المختبئ في لغته مثلما يختبئ هدير المحيط في المحارة.

يغرف العلايلي من المعرفة بتلذذ وشغف وكأنه بعمله يشفي مواجيد نفسه، ويرسم التباساته الخاصة، في الوقت الذي يرسم فيه التباسات المعري.

إنه يعمل كمن يجد كنزاً دفيناً، ضل الطريق إليه سابقوه “مجايلوه”، وهو، إذ يكتشفه، أو يكشفه لنا مجدداً في كتابه، يشير إلى أننا لم نحسن قراءة الرجل في الماضي. يقول: “نحن لم نحسن قراءة المعري بعد.. فليس من الجائز أن يقرأ المعري قراءة معجمية ساذجة، كما تم ذلك في السابق، بل يجب أن يقرأ المعري قراءة لغوية معجمية، فالمعري عقل تأويلي كبير، عقل مستتر وعقل رامز، وهو عقل غامض، يتقصد الغموض ويفرح به”.

يقول:

“إذا قلت المحال رفعت صوتي

وإن قلت اليقين أطلت همسي”

نحن إذاً حيال هذا الفكر. نقف أمام شيء مستغلق أشد استغلاق، مبهم أشد إبهام. أمام شيء استوى في التعقيد وحبب إليه، فهو لا يفصح عن كنهه، وإذا أفصح أحياناً، فلكي يكون طريقاً إلى تعقيد جديد.

يقول المعري:

“أوف ديوني وخل إقراضي

مثلك لا يهتدي لأغراضي”

أغراض المعري هي المعاني التي حاول العلايلي كشفها من خلال تحديقه في فرائد ولآلئ لغته كما في شعره وكتاباته ورسائله. إن هذه الأغراض عجز عن الاهتداء إليها دارسو المعري السابقون على العلايلي، من أمثال مرغليوث وطه حسين والميمني الراجكوني والكيلاني وسواهم، لأنهم خاضوا إليها بحثاً دون منهج موصل إلى المعري على ما يرى العلايلي، فإذا كان المعري يعتقد في صلب معتقده أن اليقين محال، وأن أقصى طاقاته الحدس والتخمين، فكيف بإمكان دارسيه الوصول إلى أغراضه المبهمة، ومراميه الحدسية المستترة. كيف…. من دون التزود بطريقة تنطلق من “قاعدة موضوعية” بتعبير العلايلي.

إن الذي يقول:

“أما اليقين فلا يقين وإنما

أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا”

لا يوصل إليه بمنهج خاص. فما هي طريقة العلايلي للوصول إلى أغراض المعري؟

يقول الشيخ في مقدمة كتابه:

“لن نفهم المعري ما لم نتمكن من استخلاص طريقته، واستخدامها في سبيل الوصول إليه والنفوذ إلى أغراضه الفلسفية”…. “فالنقد القاموسي لهذا الفيلسوف نقد عاجز، والنقد الشهوي له هو نقد فاسد، ولا بد للوصول إليه من التزود بمعارف جمة، والاتصال بثقافات شتى، وبكل منابع الفكر البشري المختلفة، حيث يقتضي لنا دائماً معرفتان أو أكثر لتفهم مرامي المعري”.. فالرجل أولاً هو ابن عصر يعتبر أعظم عصور الحضارة العربية، عصر استكمال المدارس من كلامية وفلسفية وصوفية وحديثية وفقهية وما تفرع منها وانقسم عنها، من جهة، وما اختلب العصر من باطنية استغوت المعري من جهة ثانية.

إنه عصر إخوان الصفا، أي عصر الفلسفة الكثيفة المتشعبة الرامزة، وأبو العلاء يشبه فلسفة عصره، وأول ملامح فلسفته عزلته الاجتماعية، هذه العزلة التي اختارها لنفسه طوعاً ووجدها أوفق ما يصنعه في أيام الحياة. وقد أعلم الناس بعد عودته من بغداد إلى معرة النعمان ألا يزوروه “مخافة أن يتفضل منهم متفضل بالنهوض إلى المنزل، الجارية عادتي بسكناه، ليلقاني، فيتعذر ذلك عليه، فيكون قد جمعت بين سمجين: سوء الأدب وسوء القطيعة.. ورب ملوم لا ذنب له، والمثل السائر: خل امرأً وما اختار..” (رسائل أبي العلاء، طبعة القاهرة صص 34 – 36).

حساب الجمل

وعد المعري نفسه طويلاً بالانتباذ. وجاءت باطنيته مثل عزلته تحاول أن تخضع كل شيء للعقل الخالص، وتتوسل إلى ذلك رمز اللغة. فالفلسفة اللغوية، بحسب رأي العلايلي، مفتاح فكر أبي العلاء المعري، وبها يستقيم المنهج الموصل إليه.

“كم بلدة فارقتها ومعاشر

يذرون من أسف علي دموعا

وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى

لوداد إخوان الصفاء مضيعا”

أما رمزيته فمستمدة من روح زمانه، تسلك مسلك استنطاق الحروف، وتعتبر الحرف كائناً حياً له جسد ودم وروح وعقل. إن هذا المسلك الحرفي الرمزي الذي يفسر الوجود بحساب الحروف، هو الذي أطلق عليه تسمية “حساب الجمل” لاستنطاق الحروف من موحيات الأوضاع الفلكية وما يدعى “بالتنكيس”، وهو شبيه بالجناس التصحيفي لاستنطاق الكلمة والجملة. إن في هذا النمط من التعاطي الحسابي الفلكي، شيئاً من الشعوذة، لا يخفى على المعري. إن فيه ضرباً من التغرير، كما يغرر المنجم بصاحبة الجمال:

“غر صاحبة الجمال منجم بحساب جمل”

وهذه اللمسة في المعنى لا يتوسع فيها العلايلي كثيراً. إنه فقط يشير إلى العمق المستور في فلسفة المعري وأفكاره، ولكنه على خلاف ذلك، يتوسع في فلسفته اللغوية، ويتشعب في تأجج البحث اللغوي لديه، ففلسفة اللغة لدى أعمى المعرة، هي طقس نفسي وجسدي من ناحية، والتزام فكري في الحياة والخلق وما بعد الحياة ايضاً.

وجذبه إلى اللغة انطفاء حاسة البصر لديه، فاللغة هي الرمز المجرد الذي عوض به عن المحسوسات والمرئيات التي يثبتها البصر، كما عوض بها عن المكان غير المتميز له بسبب العمى.

إنه الشاعر الحائر بالفكر.

وكفر المعري بالفكر الاصطلاحي الذي كان سائداً في عصره، لكنه آمن بقيمة اللغة كبديل من كل شيء، بل كأساس لكل شيء في الوجود، حتى كان الوجود كله كلمة، متاثراً بإخوان الصفاء في هذا الباب. فاعتقد بأن اللغة إنما وجدت لتبطن سراً عميقاً. وها هم إخوان الصفاء يقولون في إحدى رسائلهم في اللغة والموسيقى:

“سريان القوى، وهي الأصوات والنغمات، أولاً في عالم السماوات، ثم في حركة الهواء، ثم في حركة النبات، ثم في أجسام الحيوان، ثم في عالم الإنسان…. وإن لكل صوت صفة روحانية تختص به”.

ثم تمضي الرسائل فتعلل لماذا كانت الحروف ثمانية وعشرين. إنها العدة التامة لأن منازل القمر كذلك، وأعضاء جسم الإنسان كذلك، فاللغة إذاً هي سر الكون وأساسه، وقيمتها قيمة فلسفية وعددية مطلقة، فاللغز الكوني يحل بالعدد، واللغة هي العدد.

“فيا ألف اللفظ لا تأملي

حراكاً فما لك غير السكون”

والشاعر والفيلسوف الكامل هو شاعر اللغة العربية، لأن العربية هي اللغة الكاملة.

ومما يقول:

“هذي حروف اللفظ سطر واحد

منها يؤلف للكلام بحار”

فالتزام ما لا يلزم في القافية، هو تقييدها في رويين هو في غنى عنهما. وهذا الالتزام يتضمن التسامي بها إلى ما هو أكمل…. والانسان هو قافية الحياة في سلسلة المنظومات الانبثاقية الكونية. ولزوم ما لا يلزم هو التوحد.

على التوحد المطلق يقوم جماع فلسفة المعري. وهو يرى أن التوحد درجة فوق التوحيد:

“وأرى التوحد في حياتك نعمة

فإن استطعت بلوغه فتوحد”

وهكذا تبعاً لتصوره اللغوي للكون، يصبح الكون لديه بيتاً من الشعر، أو منظومة لغوية، وحين يشعر المعري بإخفاق هذا التوحد في العالم، فإنه يقول بفساد العالم.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى