فينان عيسوي تبحث عن المواطنة في الفكر الإسلامي

محمد الحمامصي
أكدت د. فينان نبيل عيسوي في كتابها “المواطنة في الفكر الإسلامي” الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة أن النهضويين العرب الأوائل أمثال الطهطاوي وخير الدين التونسي وغيرهم حاولوا أن ينقلوا مفاهيم الأمة والمواطن والحرية والدولة والدستور، لتحل مكان المفاهيم المرتبطة بالدولة السلطانية، وصولا إلى مفهوم المواطنة وما يلزم لتحقيقها من دستور وديمقراطية وانتخاب، غير أن التجربة العربية المريرة مع الاستعمار الغربي وبروز المشروع الصهيوني، قاد الإسلاميين والقوميين إلى الحذر، ليس فقط من سياسة الغرب بل من ثقافته أيضا.
وقال “أثر هذا في موقف تلك النخب من نمط الحداثة السياسية الغربية، ومن التجارب الليبرالية الدستورية العربية التي بدأت طريقها في التطبيق، فشهدت السياسية العربية بروز أنماط مركزية عسكرية للحكم، عرفت باسم (الأنظمة التقدمية) تراجعت فيها فكرة المواطنة، والحريات العامة وكرامة الفرد، فلم تستعد فكرة المواطنة ومعها الديمقراطية إلا عقب انهيار التجربة السوفيتية، ووصول طريق التنمية الذي اتبعته تلك النظم لطريق مسدود، غير أن هذه المراجعة الفكرية لم تأخذ طريقها إلى الممارسة الفعلية، فلا تزال فكرة المواطن العربي مجرد يوتوبيا، على الرغم من ازدياد الاعتقاد بأن المدخل المناسب لخروج العرب من أزمتهم الراهنة هو تحويل المجتمع العربي من رعايا وسكان إلى مواطنين أحرار، وتأسيس سلطات مدنية ديمقراطية على أساس الرابطة الوطنية لأناس أحرار”.
وفي هذا الإطار يتناول الكتاب عددا من العناصر التي توضح مفهوم المواطنة وأسسها ومدى ارتباطها ببعض المفاهيم الأخرى مثل الحرية والمساواة وكذلك تحقيق مفهوم المواطنة في تأسيس الدولة الإسلامية الأولى على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مدى تحقق أسس المواطنة في الدولة الإسلامية في ظل اتساع الرقعة الجغرافية وتعدد الأجناس والأعراق والعقائد ـ الدولة العباسية نموذجا ـ ثم يتنتقل الكتاب إلى دراسة أبعاد مفهوم المواطنة في الفكر الإسلامي الحديث ومدى تأثره بمفهوم المواطنة في الفكر السياسي الغربي، وكذلك التغيرات التي طرأت على مفهوم المواطنة نتيجة لعصر ما بعد العولمة.
ورأت د. فينان عيسوي أنه إذا كان التطور الحضاري الغربي لم يعرف المواطنة وحقوقها إلا بعد الثورة الفرنسية ـ أواخر القرن الـ 18 بسبب التمييز على أساس الدين ـ بين الكاثوليك والبروتستانت، وعلى أساس العرق ـ بسبب الحروب القومية ـ وعلى أساس الجنس ـ بسبب التمييز ضد النساء، وعلى أساس اللون ـ في التمييز ضد الملونين ـ فإن المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق والواجبات قد اقترنت بظهور الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية الأولى ـ في المدنية في السنة الأولى للهجرة ـ سنة 13 من البعثة الموافقة لسنة 622 ميلاديا ـ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحت قيادته، وإن لم يكن هناك وجود للمواطنة بوصفها فكرة واقعية ومعيشة وحاضرة في أكثر من نص وأكثر من حادثة في التاريخ، فلقد وضعت الدولة الإسلامية فلسفة المواطنة هذه في حيز الممارسة والتطبيق وضمنتها في المواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الأولى لقيام هذه الدولة في أول دستور لها على أساس التعددية الدينية، وعلى المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين المتعددين في الدين، والمتحدين في الأمة والمواطنة، فضم هذا الدستور معاهدة بين المسلمين وطوائف المدينة، وهي الوثيقة السياسية الأولى والمشتملة على 47 بندا.
وأوضحت أن أحكام هذه الوثيقة جعلت كل الأفراد والجماعات التي اتخذت من المدينة وطنا، المؤمنين واليهود والنصارى وغيرهم مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن المعتقد الديني وهذا يعني ـ بمفهوم المخالفة ـ أن الإسلام لم يعتبر حينها شرطا في المواطنة، فالأمة التي تقوم على عاتقها دولة الإسلام يجب أن تقوم على أساس المواطنة والمساواة في الحقوق، وإن مفهوم الأمة لا يجب أن يقوم على أساس العقيدة في دولة الإسلام بل على طبيعة أشمل يدخل ضمنه أصحاب العقائد الأخرى، ليشكلوا مع بقية المؤمنين أمة سياسية واحدة.
وخلصت د. فينان في رؤيتها لمدى تحقق أسس المواطنة في الدولة الإسلامية في ظل اتساع الرقعة الجغرافية وتعدد الأجناس والأعراق والعقائد ـ الدولة العباسية نموذجا ـ إلى أن الدولة العباسية فشلت في تحقيق مفهوم المواطنة حيث تميز حكم العباسيين بالعصبية الفارسية أو الشعوبية، فقد كان العجم والموالي عصب الثورة على الدولة الأموية التي قامت على العصبية العربية، وكان ذلك من أهم أسباب الثورة عليها ومهد حكم العباسيين ومن هنا يتضح أن الدولتين الأموية والعباسية قد خالفتا أصلا عاما للإسلام وهو التسامح وعدم التعصب وتجاوزوتا مبدأي الوحدة والمساواة بين الجميع. وقيدتا حرية الطوائف التي تعارضهم في التعبير عن نفسها وعزلتهم عن المشاركة في الحياة السياسية ومارست عليها ضغوطا وتضييقا على الانتقال وفي الأرزاق فكان غياب مفهوم المواطنة في الدولتين عن حيز التطبيق كما طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، سببا رئيسيا في نشوب الفتن وقيام الثورات المتوالية ضدهما، وبالتالي ضعف الدولتين وانهيارهما.
وأشارت د. فينان إلى أنه يمكن تعريف المواطنة بأنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون الدولة وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق ـ متبادلة، متضمنة هذه المواطنة درجة من الحرية مع ما يصاحبها من مسئوليات بناء عليه فعلاقة الفرد بدولته، علاقة يحددها الدستور والقوانين المنبثقة عنه، والتي تتضمن معني المساواة بين المواطنين، وأن المواطنة الكاملة متمثلة في الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات قد اقترنت بتأسيس الدولة الإسلامية الأولى في المدينة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد وضعت الدولة الإسلامية فلسفة المواطنة موضع التطبيق وقننتها بالمواثيق والعهود الدستورية منذ اللحظة الأولى لقيام هذه الدولة في أول دستور وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسس فيه الأمة على التعددية الدينية عندما جمعت الأمة أصحاب الديانات المتعددة على قدم المساواة لأول مرة في التاريخ.
ولفتت إلى أن مفهوم المواطنة بمعناه القانوني والديمقراطي لم يحظ بتأصيل عميق في الفكر القومي العربي التقليدي في القرن العشرين، كسائر المفاهيم المتعلقة بالديمقراطية أو المؤسسة لها، فقد ظل هذا المبدأ مهجورا في النظرية القومية العربية وظل بعيدا عن التطبيق والممارسة وكان تجاهل الفكر القومي لمبدأ المواطنة نتيجة طبيعية لعدم الاهتمام الجوهري بالديمقراطية التي ترتبط بالمواطنة ارتباطا عضويا فغياب واحدة منهما يؤثر على غياب الأخرى.
وخلصت د. فينان إلى أن مفهوم المواطنة بمرتكزاته الحرية والمساواة مطلب قديم قدم البشرية ذاتها لكن الأمر الجديد في التاريخ البشري هو صياغة هذه الطموحات للحرية في صورة قوانين ملزمة للحكام قبل المحكومين وفي صورة وثائق تصون هذه الحقوق وتمثل معايير للعمل بمقتضاها وفي صورة أساليب وآليات لحمايتها ومؤسسات تسهر على تطبيقها وعدم مخالفتها، ودساتير تلزم الحكومات قبل الأفراد بحقوق الإنسان والمواطن.
والإسلام كان له السبق في صياغة هذه الطموحات حيث انفرد بدرجة من الاحترام للحرية لا يوجد لها، أولا لأن الإسلام يجعل الإنسان مسئولا عن عمله، ومعنى أن تكون مسئولا أن تكون بالتالي حرا، وإلا انتفت عدالة التكليف، والإسلام يعرف حرية واحدة ملتزمة وهي أن تكون حقا واجبا. كما يرفض الإسلام أي نوع من أنواع التفرقة بين أبناء الجنس البشري على أي خلفية دنية أو عرقية. وأن التشريع الإسلامي وضع نظاما عاما حدد أبعاد حقوق الإنسان والمجتمع والقيم والحقوق والوجبات وأن شواهد التاريخ تؤكد على عظمة الإسلام في صياغة وبناء المجتمع الآمن الذي يحقق أسس المواطنة وأنه متى ابتعد أهل الإسلام عن المنهج الذي وضع الشارع سبحانه وتعالى وأحدث خلالا في التطبيق سرعان ما يحدث الضعف والانهيار.
(ميدل ايست اونلاين)