في الأعمال القصصية والروائية لإبراهيم زعرور: سخرية لاذعة وفضاء رعوي وريفي مميز

الجسرة الثقافية الالكترونية –

سليمان الشيخ

كأنه كان «يصرصر» (من صرة) حاجاته الإبداعية ويجمعها ويغربلها وينقي حبها العفي من زيوانها، كما تفعل عجائز الأرياف، و»حكيمات» مضارب البدو: حكمة من هنا، ومثل من هناك، حكاية من زمن مضى، وحكاية أخرى من زمن أبعد. وحوادث وأقاويل وأساطير عن رجال ونساء وأطفال وحيوانات وطيور ونباتات وينابيع، واقعية وخيالية وأسطورية.
كل ذلك وغيره اختزنه إبراهيم زعرور بين جنبات وحنايا ذهنه، الذي يجيد الالتقاط والتوظيف والتسجيل الإبداعي المميز والساخر بامتياز؛ وأمضى زمنا في عزلته و»تقيته» الكتابية، وانقطاعه عن الناس إلا لماما واضطرارا، يمارس التعليم في إحدى مدارس الكويت بجزيرة فيلكا، ويداوي الحاجة إلى الرزق وتربية الأطفال وتعليمهم، بصمت هامس وخجول وبسخرية لاذعة صاخبة مؤقتا واضطرارا أحيانا.
هو المتخم بأجواء الريف والرعاة، وما يموج فيها من صراعات وخرافات وأساطير وحكايات غريبة عجيبة مدهشة، عن الناس في الريف قبل النكبة الفلسطينية، وخصوصا بعدها، واجتراح معجزاتهم في البحث عن الماء، أو مواجهة هواجس الجفاف والترحال والآلام والأوجاع التي استجدت، و»التهريب»* والتهرب من كمائن الاحتلال بعجائب وقدرات يمكنها أحيانا أن تنفذ من بين الرصاص! واستثارة حكايات مخبوءة لدى بعض الأفراد، خصوصا الكبار في السن والكبار في عائلاتهم وعشائرهم عندما تدلهم الخطوب وتزداد أخطار الحصار والمتابعة والرصد، وتبرز حينها أعاجيب التخاطر والإيحاء و»اللجم»- تعطيل قدرات الحواس- في ما يمكن تسميته بـ «الواقعية السحرية»، أو الفانتازيا أو الخيال المجنح، هي حكايات تتخلق من حكايات واقعية وسحرية، عن عدو صادر الأراضي وينابيع الماء والمراعي، ومحاولات المواجهة والقتال والقتل ومعاناة التشريد والفقر والحاجة، واجتراح معجزات مواجهة قساوة الحياة الجديدة التي تشبه الجنون والموت، وجهل الجاهلين، وادعاءات المدعين، والانحرافات وبروز بطولات أسطورية، عن رجال ونساء وأطفال كانوا ضحايا لظروفهم، أو تحدوها وخرقوا نواميسها، كما في روايتي «ذئب الماء الأبيض» و «رعاة الريح».
اختزان وتفريغ
كل ذلك وغيره، كان يختزنه إبراهيم زعرور في ذاكرة تجيد الكمون والتخفي، ثم التوهج فيما بعد؛ إذ أنه كان يجيد «تقية» البساطة والسذاجة والادعاء، بعكس ما هو مترع ومختزن في خلاياه الإبداعية. جاء في الإهداء الذي سجله في مجموعة قصص «مشاهدات عائد من هناك» ما يلي: «أصالة تتظاهر بالغباء أحيانا.. لا بأس، فالزمن كفيل بالكشف».
هكذا تفجر الكمون الإبداعي، عن كشف إصدار أول مجموعة قصصية، صدرت له في ثمانينات القرن الماضي، تحت عنوان «آخر الطيور السود»؛ أي عندما أخذ بالاقتراب من بداٍيات زمن الكهولة، إذ أنه من مواليد بلدة (عانين) قضاء جنين في العام 1939. وقد برزت في المجموعة القصصية سخرية معتقة ومختزنة طويلا، كما وبرز في بعض قصصها تلك الأجواء التي قلما تم التطرق إليها في القص الفلسطيني، أي أجواء الريف الفلسطيني، وخصوصا أجواء الرعاة والأساطير وأنماط العيش والحياة، وما يسود فيها من حكايات واقعية، كان يشبكها بخيال ما يسمى الواقعية السحرية المشغولة بعناية العارف والباحث في نسج الخيوط الإبداعية، وإظهار جماليتها من بين واقع البؤس والتشريد والحرمان والحب المجهض، والصراعات المجنونة أحيانا على أبسط ما في الحياة من حياة.
جاء في الغلاف الأخير من مجموعة قصص «مشاهدات عائد من هناك» ما يلي: «إن هذه المجموعة القصصية هي إضافة نوعية تحمل قيمة فنية متميزة، تتراوح أحداثها بين الواقع والفنتازي، وتواجه القارئ بجرأة فنية عالية بسخريتها المستترة والمكشوفة من الواقع الذي بلغ حدا لا يحتمل. كما وجاء في تلك الشهادة «إن غزارة تجربة الكاتب وهيمنته الواضحة على تكنيكه القصصي قد أثرت القصص بتكوينات غرائبية، تم توظيفها بذكاء وسلاسة، وبغنى لفظي وتعبيري يغوص في التفاصيل عميقا».
ويمكن الإشارة إلى أن ميزتي السخرية والأجواء الريفية، استمرتا في حضور طاغ في المجموعات القصصية والروايات التي أخذت تصدر تباعا، بعد عودة إبراهيم زعرور من غربته في تسعينات القرن الماضي للاستقرار في عمان بالأردن. مع إضافات تتعلق بالتنويع والعمق وتأصيل التجربة. كأن بوابة الأسرار والحكايات أزيح عنها ختم الموانع وثقل التروي والتردد والتجميع، لتنفتح المسام والبوابات، وليتم إطلاق سواقي الروايات والقصص، ومن بينها عدة قصص قصيرة جدا. كما جاء في مجموعة «الشارع الذي رحل» الصادرة في العام 2009. ومن بينها قصة قصيرة بعنوان «سفينة نوح» جاء فيها «السفينة التي أتشبث بها كلما طغى الطوفان الذي غمر حياتنا في السنوات الأخيرة، هي نفسها سفينة نوح.. نوح حزيّن». ونوح حزين (صلاح) هو زميله المثقف الكاتب والمترجم، وصديقه الحميم الذي لم يكف عن تشجيعه والكتابة عن تجربته إلى أن توفي منذ سنوات قليلة.
وكما في قصة «تأملات في الصمت» حيث جاء فيها على سبيل المثال «ليس هناك ما هو أكثر انتهاكا لحرمة الصمت من الهمس، لأنه يسرق منه مغزاه وجلاله، صمت الكاذب، كالعجوز المتصابية، كلاهما شروع بالفحشاء. ولعل أكثر أنواع الصمت فحشا، هو ذلك الذي يعقب صمت المدافع، حينما يأخذ السماسرة أهبتهم للكلام».
ثم توالت الإصدارات، وأصبحت روافد دالة ومتميزة في نهر الإبداع العربي، كما في رواية «رحلة خير الدين بن زرد العجيبة» التي صدرت في العام 2012 واشتركت في مسابقة «البوكر العربية» في العام نفسه، لتستمر بعدها الإصدارات المترعة بالسخرية وبالمحسنات البديعية، منحوتة في سلاسة وطواعية واقتدار «على السرد وابتكار الصور الفنية المدهشة، من خلال لغة مطواعة، تبدو للوهلة الأولى وكأنها متداولة، وأنها في متناول اليد، في حين إنها لا تذكرك إلا بالسهل الممتنع». كما جاء في الشهادة المثبتة على غلاف مجموعة قصص «مشاهدات عائد من هناك».
فرن الإبداع

بعد ذلك توالى تثبيت أجواء فريدة من نوعها، هي من مزج العيش والتعايش وحفظ وتخليق من أمثولات وتراث السابقين، وجدلها وتظفيرها بواقعية سحرية تعطيها نكهات الإبداع والابتداع، كأنها من طبائع فرادته ومكوناته الإبداعية، أساطير ووقائع مشغولة ومنقولة بحرفية مبدع عارف وباخن ومعايش، ربما بالاستماع، وربما بتشرب وامتصاص ما كان يتداوله أبناء العائلة والعشيرة، ثم تشبيكه والشغل عليه وتظفيره مع غيره، ليأتي طازجا ساخنا من فرن الإبداع المتوهج، قصا مليئا بالمعقول واللا معقول. رجال ونساء ليسوا كالرجال والنساء أحيانا، كأنهم وجدوا وولدوا في قلب «التراجيديا»، فتحدوها ونازلوها، غلبتهم وتغلبوا عليها مرات ومرات، وبعضهم «انضبعوا» في هذه الدنيا الغرورة والمغرورة، فتاهوا في «الطرق» وساروا وراء سراب الأشياء ومتاهات النزعات الفردية والمصالح الأنانية. وما لم يُضربوا بحجر الوعي والإدراك، فإنهم سيستمرون في حالة «الانضباع» والدوران في متاهات الضياع والحيدة عن «طرق» الحق والحقيقة. والتي يمكن أن تؤدي إلى الخلاص، بعد المرور بمرجل التضحيات والمعاناة.. ودفع الثمن الغالي والنفيس.
«التهريب» هو ما كان يقوم به أبناء القرى والبلدات والمدن الفلسطينية في سنوات النكبة الأولى، حيث يقومون بالتسلل إلى بيوتهم وأراضيهم ليجمعوا أرزاقهم من طحين وقمح وذرة وزيت زيتون وغلال التين والعنب والرمان والتفاح وغيرها من الفاكهة الطازجة أو المحولة إلى مربيات، أو يحملون فراشهم وأغطيتهم وما يمكن حمله، لتواجههم القوات الصهيونية فتقتل من تقتل وتعتقل من تعتقل، وينجو من ينجو. وكان يطلق على الواحد منهم «متسلل» أو «مهرب».

من إصدارات إبراهيم زعرور القصصية والروائية:
آخر الطيور السود- مجموعة قصص صدرت في ثمانينات القرن الماضي.
ذئب الماء الأبيض- رواية صدرت في العام 2002.
مشاهدات عائد من هناك- مجموعة قصص صدرت في العام 2003.
الشارع الذي رحل- مجموعة قصص صدرت في العام 2009.
رعاة الريح- رواية صدرت في العام 2010.
شير أنا قتلتك- رواية- وشير هو كلب الراوي.
مكان ضيق شديد الضيق- مجموعة قصص.
رحلة خير الدين بن زرد- رواية صدرت في العام 2012. واشتركت في مسابقة «البوكر العربية».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى