في المخيم حكاية الذات لخالد ابو حمدية – بقلم عيسى ابو الراغب

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص
وعلى حائط في المخيّم ،
كانت تنام الحروف مكفّنةً بالطباشير ،
لكنّها
حين تنفلُ شمسُ الصباح جدائلَها في الوجوه ِ،
نراها عصافيرَ شوقٍ ،
تطير بطول وعرض السماء ِ
وتأتي بقمح البلاد إلى ضارعات اليدينِ
طريّاً معافى
وعلى تـيـنـَةٍ في زقاق المخيمِ ،
غصنُ اغترابٍ نقشنا على قشْرِهِ الغضِّ
أسماءَ بلداننا والقرى والعوائلِ ،
حتى كأنّا نرى في حنايا اللّحاءِ
حليبَ الطفولةِ فاضَ بأفواهنا ،
حين بلّ الرؤى
والشِغافا
لا فلسطينُ ظلّت ،
ولا في المخيّم ظلّ الذين عشقنا بملمحِهم حسنَها
وقرأنا بمدمعهم حزنها
منذ أوّل قطفةِ شهدٍ لعنقودها ،
منذ أوّل دفء لزيتونِها ،
ولآخرٍ روحٍ قضتْ في عراء الصقيع ِ
ولّمّا تجدْ
غيرَ صمت التراب سريراً
وغيرَ الثلوج التي كفّنتها لِحافا .
من الندرة أن يختلف الشعراء الجادون على أن القراءة للشاعر خالد أبو حمدية قراءة ماتعة ،ذات مذاق خاص متفرد حيث انه مزيج من فاكهة طيبة الطعم طيبة الرائحة بهية اللون فهذا الشاعر أطلق طاقته الشعرية وسار حسب منهجية الارتكاز الواثق وليس الأعرج وهذا يحسب إليه فمواثيق عهوده للحرف صارمة فكلما أتى الحرف يقول قال لي شيخي أي انه سلالة شعرية ، إحداثي بالشعر وعمره في الشعر مديد ،
وما بين دفتي الروح اليوم نص للشاعر خالد أبو حمدية استهواني لما فيه من فيض وحنين وشعورية عالية داساً في الحرف الرفض المبين للرضوخ لمناكفات الحياة أو الانصهار فيها والتعري بما يؤمن فيه بوطنه
لم يكن يسير أبو حمدية في نصه بمنهجية متعبة ولكنه سار بإيمان مطلق حيث خرج من السردية والتقوقع داخل الصورة المفردة ليطلق للقارئ العنان بان يحيا الصورة كما يشاء / فساق الدلالات والتشبيه والصور ورتبها كأنها أرجوحة للنجمات تطير به وفي القارئ أينما أراد .
وفي النص حث مستديم للنبش والتشريح والاكتشاف لتلك الرؤى العميقة الشاعرية في دواخل الشاعر .
فمن المعروف أن من يملك القدرة على محاورة الذات بصدق يمتلك الحرف صدقا ويظهر كوامن الأمور ويوضح انعكاسات الذات على وقع الحياة / فتلك الأحاسيس تراكمت سنوات غربة طالت ومنفى بعيد /حتى انه كون من خلال أشعاره مفاهيم متفردة أرسى البصمة له واضحة المعالم /وارتبط بالجميع ليعبر عن الألم والوجع أو حتى الفرح ولكن يصر أن لا يتنازل ، وان الحالة الشعرية حالة انصياع أو سيطرة على الورق والحبر عندما يفور كما التنور
في نص المخيم للشاعر أبو حمدية مكاشفة واقعية عن الذات المغموسة بالهم والحزن ولكن بنفس الوقت هي مكاشفة واقعية للهوية المنقوشة على جسد /الشوق والغياب والحضور الذي لا يموت وقدرة على تحديد العنصر الابقى والأظهر للحياة ويظهر جليا هذا بقوله في بدء النص
وعلى حائط في المخيم ،
كانت تنام الحروف مكفّنةً بالطباشير ،
فهو يندس بين الحياة والموت والكتابة والمكان والزمان ، فهو حدد المكان بقوله في المخيم وحدد الزمان بما مضى بقوله كانت/ثم يريق دمها ليقول وما زالت / أما الوجودية عن التعبير بالكتابة فهي بقوله مكفنة بالطباشير
وهنا يظهر التجلي في الانتماء للمكان صاحب الحكايات سواء كان بذكراه المشينة أو الكونية المرسومة على جباه أهل المخيم وعلى حوائط المخيم
وهنا إدراك أن هناك قدرة على يضع الشاعر نفسه في قلب الحدث بلا أي ابتعاد
أما في قول الشاعر في المقطوعة الشعرية الثانية
حين تنفلُ شمسُ الصباح جدائلَها في الوجوه ِ،
نراها عصافيرَ شوقٍ ،
فنجد تعمق في الفكرة والصورة وليس غريبا أن نجد الشاعر يستخدم كلمة تنفل والتعمق بصورتها وربطتها مع شعاع شمس الصباح وقدرته على التركيب الممزوج بسهولة بين النفل والشمس والجديلة
ثم ينفلت الشاعر بقوة ليعلن بحرفه عن عدم المكوث بالمكان والرفض المطلق للقيد بقوله نراها عصافير شوق / فالعصفور طائر بأجنحة بعيدا رافضا للقيد حتى لو في قصور من ذهب
وتلك قدرة تعبيرية يرتبها الشاعر في دواخله كموسيقة ويعبر بطريقته وتفرد ويعلن المعرفة للقيمة العليا للصورة المسكوبة في باطن الحرف وسره
لا يكف الشاعر عن لوعة الشوق والجوهر لهذا الإنسان ويرسل طيفه يسابقه
وهذا بقوله
تطير بطول وعرض السماء ِ
وتأتي بقمح البلاد إلى ضارعات اليدينِ
طريّاً معافى
فأي فكرة أراد الشاعر إيصالها لنا من خلال كسر حاجز المكان وكان يسبقه الزمان في انفلات الشمس
هو ما زال يترنم مغنيا واستشهد بالقول من وحي حبر سكبته ذات يوم وليس إلا للدلالة
أنا لست حزينا يا الله أنا فقط اغني
أمرن اسمي على البقاء
امرر الغيم من تحت الباب
والشوك من تحت جلدي
والقضية كلها أني ابن البلاد
كل الأرض لي
ما تحت الأرض لي وفوق الأرض لي
أنا الممسك بجديلة الشمس الأولى
اكتوي بجمر الشوق في جسدي العاري
………..يدخل الشاعر الآن مرحلة جديدة ولكن بدون أن يقطع الحبل بالقارئ ولا أن يرهقه صعودا بقوله
وعلى تـيـنـَةٍ في زقاق المخيمِ ،
غصنُ اغترابٍ نقشنا على قشْرِهِ الغضِّ
أسماءَ بلداننا والقرى والعوائلِ ،
حتى كأنّا نرى في حنايا اللّحاءِ
حليبَ الطفولةِ فاضَ بأفواهنا ،
حين بلّ الرؤى
والشِغافا
أهي توثيق سلس يستحث الروح والجسد لاعتلاء صهوة جواد الشوق / أم هي حالة من الاندساس الذاتي في التعبير عن القداسة لتلك الأرض /
أم أنها الروح التي تناشد كل حجر وشجر هناك للحكاية الطويلة وترسم كل محاورها بطريقة تراكمية مبسطة ليجعل للقارئ القدرة على السفر والترحال
قد يكون هو انعكاسات الروح الواثبة للشوق الغزير لدى الشاعر أبو حمدية
فهو هنا يعبر عن ذات لم يمحو تكوينها طول الزمن ولا عبر المنفى حيث يمتد بين الذات والأشياء والمكان ويوثقها برموزها
وهي حالة تعبير عن المكمن الوجودي
ووفق هذه المقطوعات ندرك أن الشاعر يمتلك الكثير من الأدوات التعبيرية بطريقة عميقة وفق قدرة التعبير عن ما في ذاتها /الطريقة العميقة متخذا من الرمز والصورة الشعرية بطريقة الانزياح أي أن الشاعر يلامس ذاته ويعرف أي يكمن سر المعاناة ولكنه لا يريد عن يعبر عنه بصورة مباشرة لكي لا تفقد عمق وقدسية هذا المعاناة في روحه أي أن لديه اللغة هي أداة تعبير وليس أداة فضح
لا فلسطينُ ظلّت ،
ولا في المخيّم ظلّ الذين عشقنا بملمحِهم حسنَها
وقرأنا بمدمعهم حزنها
منذ أوّل قطفةِ شهدٍ لعنقودها ،
منذ أوّل دفء لزيتونِها ،
ولآخرٍ روحٍ قضتْ في عراء الصقيع ِ
ولّمّا تجدْ
غيرَ صمت التراب سريراً
وغيرَ الثلوج التي كفّنتها لِحافا .
ويستمر هنا الشاعر بتفصيل هذه الأوجاع وعمقها في داخله حيث وكأنه يعلمنا أن الإسقاط للكلمة والمعنى هنا هو إسقاط وجودي عميق الحس في دواخله وليس مجرد حرف مسكوب بحبره على الورق
وهي حالة نهوض وليس حالة انكسار وكأني أرى ظل البلاد بدواخله مركونا بحياته في المخيم أو وجعه وألمه
والاستشهاد بالمدن والكروم والنبات هي حالة رسم للوحة للأرض التي يناديها أو تناديه شوقا
وبعد كل هذا البوح وبنيان معمور الكلم داخل الذاكرة والروح والقصيد تنفرج هذه الأزمة الذاتية المتكونة داخل الأروقة الخفية للشاعر حيث يرتقي الشاعر بالمعنى الدلالي والتوضيحي في بعض المقاطع إلى مستوى المعنى الكامل في السطر الأخير من النص
غيرَ صمت التراب سريراً
وغيرَ الثلوج التي كفّنتها لِحافا .
حيث نشعر بقدر ما أن الماضي هو الذي عشناه هو المعنى الحقيقي في حياتنا ولكن انتهى ولكن ليس انتهاء الوجود بل انتهاء التواجد المكاني اللازم في حدث الزمن وكم انه أحدث الفراق من وجع
بمعنى بسيط سلس بدون تكلف إن الإيقاع متوازن بكامل النص الشعري وافر الصورة الشعرية بلا تكلف ولا ابتعاد لمنحى بعيد من الأصول الأدبية الشعرية وان العضوية التكوينية في النص استمرت بكل ترابط بين أجزاء النص حتى كون وحدة جسدية مكتملة وتركها الشاعر تتنفس من رئة غير مصابة بأي الم ولا اختلال
نص الشعر للشاعر أبو حمدية تكوينية للوحة مكتملة وافرة الجمال شيقة التركيب