في ترتيب العلاقة بالنصّ الشعري: عود على بدء

الجسرة الثقافية الالكترونية

*منصف الوهايبي

المصدر / القدس العربي

يكاد يكون من الثّابت عند جلّ الدّارسين أنّ أكثر الشّعر القديم الذي وصل إلينا لم ينقل من أصول مكتوبة، فلم يكن التّدوين من أوضح صفات الطّور الجاهليّ ولا من أظهر خصائصه. وإنّما يُعزى حَمْلهُ وحفظه من الضّياع إلى الرّواية الشّفهيّة، وإلى النّقل عن العرب الأعراب. فإذا كان هذا الشّعر قد حُمل حملا شفهيّا فما الدّافع إلى التّحقيق في مسألة كتابته على ما يكتنفها من خفاء ويحفّها من غموض؟
هذا الموقف القديم من صحّة بعض الشّعر الجاهليّ واضطراب رواياته ونسبته إلى أصحابه، ما كان لِيعفّي عليه الزّمن ويطويه النّسيان، بعد أن استتبّت للأسلاف علومهم النقليّة والعقليّة، وتشاغلوا عنه بما جدّ عندهم من مسائل الأدب والنّقد. فعلى أُسٍّ منه انبنتْ نظريّة الشّكّ في الدّيوان الجاهليّ عند المستشرق الألماني تيودور نيلدكه، ثم نمت المباحث فيها واتّسعت عند فلهلم ألفرت وغولد تسيهر، ومرغوليوث وغيرهم من المستشرقين. وتلقّفها العرب المحدثون، فكان مصطفى صادق الرّافعي أوّل من شقّ منهم طريق البحث فيها بكتابه «تاريخ آداب العرب». وتلاه طه حسين في كتابه «في الشّعر الجاهليّ» وبديله المعدّل «في الأدب الجاهليّ». وكان عمله حدثا ثقافيّا في العشرينات من القرن العشرين، أخرجَ الثّقافة العربيّةَ من مألوف مداراتها. وكادت صدمته تأتي على كثير من حقائقها ومسلّماتها، حتى غدت نظريّة الشّكّ في الدّيوان الجاهليّ، بسبب منه مشغلا من مشاغل هذه الثّقافة، وقادحا من قوادحها.
بعد ربع قرن على صدور كتاب طه حسين، يخطو البحث في مسألة الرّواية والكتابة عند العرب خطوة كبيرة برسالة ناصر الدّين الأسد «مصادر الشّعر الجاهليّ وقيمتها التّاريخيّة». ويعنينا من هذه الرّسالة في السياق الذي نحن فيه، بابها الثّاني الموسوم بكتابة الشّعر الجاهليّ وتدوينه». وقد مهّد له الباحث بحديث تاريخيّ مفصّل استهدى فيه بالنّقوش النّبطيّة القليلة والوثائق التّاريخيّة الجاهليّة والإسلاميّة. وقصر بحثه فيها على الجانب الخطّيّ المتّصل بصورة الحروف وأشكالها ليستنتج من ذلك: أنّ الكتابة كانت منتشرة في البيئات المتحضّرة مثل مكّة والمدينة والطّائف والحِيرة والأنبار. وهذا الانتشار يدفع عنهم ما وُصِموا به من جهل الكتابة والقراءة.
ويستند الباحث إلى هذه النّتائج ليشرّع بالقول في موضوع كتابة الشّعر الجاهليّ، فيميّز الفروق بين تقييد الشّعر وتدوينه؛ أي بين صورة ضيّقة من صور الكتابة لا تعدو مجرّد تسجيل القصيدة أو المقطّعات التي لا تبلغ مبلغ القصيدة الكاملة، وأخرى كان فيها للرّواة منادح رحبة في جمع الشّعر على أسس علميّة متينة. وهي مرحلة التّدوين التي شملت مشاهير الشّعراء واغفالهم ومُقلّيهم مثلما شملت شعر القبائل والحماسة وما عرف بالاختيارات وشعر المعاني الغريبة.
أمّا تقييد الشّعر في الجاهليّة فيكون له، عند الباحث، ضربان من الأدلّة: أدلّة عقليّة استنباطيّة وأخرى نقليّة صريحة:ىوهو يربط الأولى برباط واحد هو علاقة السّبب بالمسبّب. فإذا كان من نتائج الاستقراء التاريخيّ إثباتُ الكتابة للعرب واتّساعُ ميدانها وتشعّبُ موضوعاتها، حتى أنهم كانوا يقيّدون عهودهم ومواثيقهم وسواها من الأمور التي تتّصل بمعيشهم، فإنه من الرّجاحة بمكان أن يكونوا قد قيّدوا الشّعر وهو ديوانهم وسجلُّ مفاخرهم ومآثرهم. وربّما نهض بهذا التّقييد الشّعراء أو رُواتهم، خاصّة أنّ منهم طائفة كانت تعرف الكتابة وتستخدمها.
وربّما نهض به رواة القبائل، والممدوحون من ملوك الحِيرة وملوك غسّان وأعيان مكّة والمدينة والطّائف ونجران واليمن، حتّى إذا استكمل الباحث هذه الفرضيّة واستوفى شروطها وحدودها قدّر الأمر على نصوص وشواهد من «شعر الصّنعة « في الجاهليّة وصدر الإسلام. وهو الشّعر الذي يقوم على انتخاب اللّغة وتهذيب القصيدة وتنقيحها.
ويرجّح الباحث أن هذا الضّرب من «شعر الصنعة»، وهو ليس من المرتجل، كان يفرضُ على أصحابه أن يقيّدوه ويثبّتوه بالكتابة فـ»كيف يستطيع هؤلاء الشّعراء أن يقوموا بهذا العمل العقليّ الذي يستغرق هذا الوقت المديد، من دون أن يكون الشّعر مقيّدا أمامهم على صحيفة يرجعون إليها بين وقت وآخر: يزيدون عليه أو ينقصون منه، ويستبدلون لفظة بلفظة، وقافية بقافية؟ وهل يصحّ بعد هذا أن نذهب إلى أن هؤلاء الشّعراء الذين كانوا يصنعون الشّعر صناعة، بل يصنعونه تصنيعا، ويعرفون من بحوره وقوافيه ولغته وإعرابه ما لا يكتسب إلا بالتّعليم والدّراسة… كانوا أمّيّين ويستطيعون أن يقوموا بهذه « العمليّات» المعقّدة المتراكبة فطرة وطبعا، والشّعر معلّق في ذاكرتهم لا يعدوها؟».
ويمضي الباحث قدما في استنباط الأدلّة العقليّة التي تؤيّد افتراضاته فيقف، كما فعل كرنكوف والبهبيتي قبله، على أبيات من الشّعر الجاهليّ فيها حفاوة صريحة بمفردات الكتابة والقراءة جاءت في صور شعريّة مركّبة تنبئ عن أنّ «قائلها لا بدّ أن يكون عالما بهذه الصّور، وأنّ الجاهل بما لا يتأتّى له ذكرها ووصفها على هذا الوجه المفصّل». وهي لأبي ذؤيب الهذلي وابن لوذان السّدوسي ولبيد ومعقل بن خويلد. ولعلّ أقربها إلى ما يذهب إليه قول أبي ذؤيب الهُذلي في وصف الأطلال:
فهو يشبّهها بالكتابة وبأنّها «رقم» و»وشي» و»نمنمة»… وفي وصف الصّحف بأنّها ناعمة رقيقة يمحوها الكاتب الحِميريّ ليكتب عليها، ما قد يدلّ على أنّ هذا الشّاعرالمخضرم كان على علم دقيق بأنواع الكتابة والحروف. وربّما جارينا ناصر الدين الأسد، في هذا الاستنتاج، ولكن من دون أن يصحّ في تقديرنا أن نقطع بكتابة القصيدة من شفهيّتها، ولا بصيغة هذه من صيغة تلك.
وليس في معرفة الشّاعر بالكتابة ما يجوّز القول إنّ قصيدته من الأدب المكتوب، فشتاّن ما بين الأمرين! بل لعلّ الأصوب أن نقول إنّها لون من التّشبيهات اللّطيفة التي تنشأ في حيّز «المتخيّل الطّلليّ»، وقد تعاودَ فيها شعراءُ العربيّة، واحتالوا لها بطرائق فنّية شتّى؛ عسى أن يجدّدوها أو يزيدوا عليها.
ولعلّ في تعاودها ما يجعلها بالكلام الشّفويّ أمسّ رحما إذ يلمّ التّعاودُ أنماط التّعابير ويوحّدها ويؤمّنُ انسيابها في ذاكرة المتلقّي، فيتسهّل استقبال الرّسالة الشّعريّة، ويترسّخ بالصّيغ المكرورة والصّور المتعاودة على نحو أيسر. فليس لنا إذن أن نحمل مثل هذا المتخيّل محملا لفظيّا قاطعا أو نقصرهُ على ناحية قد تكون من أبرز معانيه وأقربها إليه، أو نملي عليه ما ليس منه. وفيه على وضوحه شيء من سرّ غامض وشأن خفيّ: فأي مشترك دلاليّ يمكن أن يقوم بين عالم الأطلال وعالم الكتابة إلاّ ما تنشؤه لغة الشّعر وتسوّغه؟
نحن لا ندفع أن يكون لهذه التّشبيهات المتواترة في كثير من الشّعر القديم ولتخريجها، أكثر من وجه من أوجه التّأويل والتّقدير، ولكن ليس من حقّنا أن نلتمس فيها الذّرائع لعلاقة سببيّة بين الشّعر والبيئة التي درج بها ونشأ فيها. فهذا مسعى لا يذود عنه طبع الشّعر فحسب، وإنّما ينحرف بهذه التّشبيهات عن الغاية المنشودة منها، وهي على ما نرجّح، إضفاء صفة السّحر على صورة الطّلل لا إخراجُها إلى العلن؛ كما يقع في وهم النّاظر فيها أوّل وهلة.
والكتابة في ما يقرّره أهل الذّكر من الباحثين المعاصرين، إنّما اقترنت أوّل نشأتها، أو في المجتمعات التي لم تكن ذائعة فيها، بالسّحر والأسطورة، وكثيرا ما كانت مثار دهشة وفتنة وإعجاب. فليس بالمستغرب إذن أن يجد هؤلاء الشّعراء ضالّتهم من هذه التّشبيهات في الكتابة، من دون أن يعني ذلك أنّهم كانوا يمارسونها حقّا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى