في حضرة محمد شكري / إدريس علوش ( المغرب )

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

 

يصعب علي أن أنسى يوم أنحنى محمد شكري على الطاولة واضعا يده على رأسه جهة عينه اليسرى وقد استسلم للحظة تفكير طويلة،هل كان يفكر ساعتها في الحياة أو في سر الأبدية..؟ عداه لا أحد كان يعرف،لكنه بالتأكيد كان يفكر في شأن كبير يتقاطع جدلا بأسئلة الوجود وبنيته الضدية والتي هي الموت والغياب وأقصاهما العدم .حدث ذلك بعد أن غادر كل المحتفين بتكريم محمد شكري من أصدقائه الكتاب في أصيلة  فندق “الخيمة” مقر إقامة الكتاب المشاركين في هذا اللقاء الثقافي الذي رسخ بشكل أو آخر قيم ثقافة الاعتراف معنى ومبنى.طيلة أيام التكريم الثلاثة كان محمد شكري سعيدا بالتفاف شلة من الكتاب المغاربة حوله،وكانت كل إشاراته تعبر عن مدى امتنانه لأصدقائه الذين جاءوا من ربوع المملكة ليقولوا له بعبارات متعددة:

-محمد شكري أنت كاتب في النص والحياة.

محمد شكري و ادريس علوش 

بقينا ثلاثة أنا ومحمد شكري والناقد يحيى بن الوليد وإن كانت الذاكرة لا تزال تسعف قد يكون المصور الفوتوغرافي أحمد غيلان الذي ظفر بحصة الأسد للتوثيق لصور محمد شكري في آخر مراحل ومحطات حياته. بقينا ملتفين حول طاولة محمد شكري الذي ظل مستغرقا في لحظة تفكيره وتأمله،وحتى أخرج شكري من لحظته التأملية الشاردة التي بدت لي لحظة قلقة،قلت له:

-السي محمد اللقاء كان ممتازا أليس كذلك؟

لم يهتم كثيرا لكلامي لكنه قال لي:

إني أفكر في هذا الانتفاخ الذي طرأ على وجهي.

-عادي السي محمد،إنه بفعل الأدوية التي تتعاطاها،وستزول مع مرور الأيام،وكما تعلم للدواء مضاعفات على الجسد.

وكأن هذا الرد أعاد له حيويته،وانخرط معنا في الحديث حول تقييم ايجابيات هذا التكريم،والحديث في شكل بورتريهات شفوية عن بعض الكتاب الذي شاركوا في هذا اللقاء.   

بعدها لم أر شكري ولم ألتقي به،فقط مرة اتصل بي وكنا أنا ويحيى نشرب قهوتنا في مقهى فندق “زيليس” بأصيلة،وهو غاضب  ومرد هذا الغضب كان نص الحوار الذي أنجزه الناقد يحيى بن الوليد مع الأستاذ حسن العشاب في أحد الصحف المغربية،هذا الأخير كان له فضلا كبيرا في التحاق محمد شكري بالمدرسة للتعلم رغم كبر سنه آنذاك.حاولت أن أهدئ من روعته،لكنه ظل غاضبا وطلب مني  أن أخبر يحيى بأن محمد شكري غاضب من تصريحات الأستاذ حسن العشاب وهو ما فعلته في حينه لأن يحيى كان إلى جواري.بالنهاية قلت له:

-ما عندكْ ما تْدير ْ السي محمد هو هاذا.

بعد ذلك بأيام معدودة سأعلم بوفاة محمد شكري،المرحوم أحمد المياح  الصديق الحميم للكاتب المغربي الراحل محمد زفزاف هو الذي أخبرني عبر اتصال هاتفي ،وسنذهب  في سيارته لطنجة لتوديعه إلى مثواه الأخير في مقبرة مرشان في أحد أيام رمضان.وكان ذلك في 15 نونبر 2003 علما أن محمد شكري حسب الوثائق الرسمية التي تشير أنه من مواليد 15 يوليوز1935 كما هو وارد في شاهدة قبره الآن ،لكن هناك من يذهب في كونه قلص من عمره 5 سنوات ليستفيد منها ساعة دخوله لسلك وظيفة التعليم،وهذا ما تؤكده “فتحية”التي عايشت “محمد شكري” في محطاته الأساسية وعملت مساعدة له في بيته لسنوات.     

كنا قد جلسنا في مطعم القصبة في مستهل خريف أصيلة، سنة 1990 على ما أذكر. 

ساعتها كان المطعم لمالكه”برناردو”  ،وكانت تديره “كارولينا” الغجرية  حفيدته التي أدمنت حب أصيلة وانساقت إلى أفقها الحالم.

محمد شكري،سيف الرحبي،و مي غصوب رفقة زوجها حازم صاغية إن لم تخن الذاكرة،وأنا.

مجمل الحديث كان حول نشر كتب محمد شكري في دار الساقي الخبز الحافي كان أولى هذه الحلقات.

بعدها بأيام قليلة قرأت بالصدفة خبر عن رواية للروائي المصري خيري شلبي تحمل عنوان “الشطار” في أحد المجلات العربية،نسخت نسخة من الخبر الثقافي  يتضمن غلاف الرواية،وأرسلته لمحمد شكري.ساعتها لم يكن قد نشر الجزء الثاني من ثلاثية السيرة الذاتية الخبز الحافي رقم أن الجزء الثاني صدر باسم الشطار عن دار الساقي،والذي غير عنوانه بعد تلك الرسالة محمد شكري إلى عنوان”زمن الأخطاء”. ونشر في طبعته المغربية.

احد رسائل محمد شكري لادريس علوش

وإلى الآن لم أعرف لمَ لمْ يشر أبدا أني كنت أول من أخبره بوجود نفس العنوان للروائي المصري الكبير خيري شلبي،لا أعلم لأني لم أسأله أبدا رغم أننا جلسنا معا لمرات تحت سقف سماء طنجة العالية. 

جالست محمد شكري مرات تعددت فيها الأمكنة في أصيلة ،طنجة والرباط هذا ما أذكره جيدا.

كان يحذونا ذاك الفخر بسر الريف والانتماء إلى البطل ألأممي مبتكر حرب التحرير الشعبية الأمير “محمد بن عبد الكريم الخطابي” على حد تعبير “هوشي منه” 

وكانت النية أن أنجز حوارا معه،وسبق أن تحدثنا  فيما سبق عن إنجاز كتاب في شكل حوار مطول،ساعتها أخبرني محمد شكري أن هذا الموضوع يتطلب أن أقرأ  تقريبا كل ما كتب عنه.

ما أن أجلس إلى طاولة محمد شكري في فضاءاته الثقافية والحضارية وأقصد بها حانات طنجة الوطنية والدولية.

يستقبلني بابتسامته العريضة المألوفة:تفضل اشرب كأسك بعدها نتحدث عن الحوار

كأس تلي أخرى ويكبر العالم ويفر الحوار في اتجاهات أبجدية الغياب.يحدثني محمد شكري  عن جديد مواضيعه وكتبه وسفرياته ولقاءاته،يحدثني عن حفاوة واهتمام واعتناء الألمان به ،خصوصا في الجانب المتعلق بصحته حيث أجروا له فحوصات متعددة،واكتشفوا ساعتها أنها مصاب بمرض تشمع الكبد،وأوصوه أن يعتني ويهتم بصحته لأن الموضوع لم يعد يتقبل التأجيل،بما فيه أن يقل من الشرب وإن شرب يشرب كمية بسيطة مع إضافة الماء وهو ما كان يفعله ويشرح أسباب ذلك ساعة شربه للنبيذ. 

حدث هذا مرات،هذا النوع من اللقاءات أقصد.

مات شكري ولم أنجز الحوار بعد والأسئلة ظلت عالقة .لكني في مقابل ذلك استمتعت بشهوة الحكي عند محمد شكري وهو الذي امتهن السرد في حياته النصية خصوصا عندما يجد أذانا صاغية-وكنتها دوما ساعة مجالستي لمحمد شكري-فهو يسهب في الحكي ويتحدث عن كل ما يخطر في باله  دون تحفظ أحيانا،بما فيها أنه حزنه عن عدم بنائه لصرح أسرة تكون امتدادا لسر وجوده.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى