في ديوان «قبل أن تستيقظ طنجة» للشاعرة المغربية نسيمة الراوي

الجسرة الثقافية الالكترونية
احمد هاشم الريسوني #
صوت شعري أنثوي سلسبيلي دفّاق يدندن بإيقاعاته الحلزونية الخافتة والخفيضة بجرأة العاشق، وطلاوة الجُلنار. كانت شاعرة قبل أن تستيقظ من حرفها المنسي: مثلما كانت تجوّد معابر القصيدة، وهي تنفسح برهافة اليد البليلة صوب عبّار المساء..لم تجروء أن توقظ القصيدة من غفوتها البحرية الواطئة، لم تجروء أن تسيج المرافئ الناعسة..لم تجروء أن تقول لكم إنها القصيدة التي تقرؤون..
بشغف مفعم بالغبطة والامتنان استقبلت ديوان شاعرتنا الجميلة «نسيمة الراوي» الذي يحمل عنوان»قبل أن تستيقظ طنجة» هذا الامتنان، وتلكم الغبطة نابعان من كون هذا الديوان يؤثث لفضاء حميمي وحالم هو فضاء طنجة، ثم كذلك يشكل استيقاظا شعريا متسامقا لهذه الشاعرة التي تخوض غمار القصيدة بنفس أوريفيوسي خالد..أو لنقل بنفس أنثوية لماحة كما علمنا بشلار. وهي ذات النظرة التي انطلق منها الراحل محمد الصباغ في بحر حديثه عن الشعر، حيث يقول»الشعر، هذا الجميل-و كدت أقول الجميلة..» وهو في مقام آخر يرفض أن يكون الشعر مذكرا، بل ينظر إليه بوصفه أنثى، وليس ذكرا كما علمنا التاريخ الطويل للفهم التقليدي المؤسس على عقدة الذكورية أو الفحولة..هذا الشعر منبعه الذات، ومن ثم نجد منفذا آخر للأنوثة يتسلل خفافا صوب رحيق القصيدة..ونحن حين نقرأ القصيدة الأنثى في المشهد الشعري المغربي نجدها مضمخة بالتعدد والتلون والتشاكل، في تعالقها بالذوات الشاعرة، كما نقف على إشراقات متوثبة لها الجرأة الكافية، والمغامرة المطلة على حافة الخطر، والسمو الإبداعي الخالص. وتلك لعمري ملمح شفيف، ومطمح عارف بسر الكتابة وأريج الحرف. هذه القصيدة الأنثى المتحولة في سيرورتها المخملية الناعمة، كما تمثلها الشاعرة مليكة العاصمي في جانب، وتحمل مشعلها وفاء العمراني في جانب ثان، ونراها قد أينعت في بساتين وداد بنموسى في موقع آخر، ثم عاجت على صهباء ثريا مجدولين تارة أخرى، وطوحت بمقام لطيفة المسكيني غبَّ ليلٍ كحيل، وهفهفتها تراتيل زهرة المنصوري، ذات روح، هي الآن تستيقظ بقامتها الهيفاء وقدها الأثير، وجلالها النازل دُرْجَ بحر نسيمة الراوي..والداخل لهذا البحر سيقف على مرسى القصيدة وهي تُجَمِّع شباك الصور الأليفة عندنا، فَتَفْتقُها خفيفا حانيّاً ثم تَغْزِل لها خيطا شفيفا تِلْوَ خَيْطٍ شفيف؛ وكأن القيامة تنظر من عيني إبرتها مفتونة بالأمالي. هكذا تتبرعم القصائد وتنمو في رحابة الهزيع الأخير من الثغر العليل قبل أن تستيقظ الحواشي الميساء من غدها النحيل. أول الدهشة. هذا الغلاف المدوّخ بالغبش البليل، الراوي للحكايا السفلية، ثم تلك اللوحة/ الأثر المسائي الحالم، نوتاتٌ مدلهمة لسمفونية القصيد، والواقع أن الشاعر الفنان الصديق عزيز أزغاي يشرب نخب القصيدة ثم يستقطر تقطيراً أفروديتيا فوق مسحة الغلاف. اللوحة قصيدة بظلال ظليلة. وحبذا تكون ضليلة فتآزر الملك الضليل في غفواته الديمومية..فالمرفأين: مرفأ أول بعنوان «قبل أن تستيقظ طنجة»، ثم مرفأ ثان يحمل عنوان «البحر أسطورة زرقاء»، وبمجرد ما نحزم حقائبنا ونشرع في المسير في المرفأين يتملكنا إحساس جارف أن الحدود تظل مقيمة في الوهم. وأن المساحة عبارة عن مرفأ واحد واسع وشاسع، تتولد من أعماقه الفسيحة مرافئ متوالية، وكأنها بيوتات عسلية مشرئبة الهوى، أقيمُ فيها هنيهة لأخرج مثقلا بالصدفات البلورية والحبيبات الرملية المذهبة..هكذا أشم رائحة الأسطر الشعرية الطازجة.
هناك ثيمتان محوريتان تتجاذبان وتيه البحر هما ثيمة الماء وثيمة الموت. والعجيب أن ثمة ميم المتصوفة تعقبهما عقفا طريا لينا دانيا حنيّاً..والبحر أول القصيدة، والبحر آخر النشيد. لقد استوقفني هذا البحر طويلاً في ديوان «قبل أن تستيقظ طنجة»، وقال لي خُذْ قليلا من غفلة الغافلين، واقرأ ما تيسر منه: أولا «البحر جسد موزع بين المراقص»..ثانيا «البحر روميو الشمس».. ثالثا «البحر أسطورة يسردها المد للبر».. رابعا «البحر تنورة زرقاء»، «النوارس أزرار الزبد أهداب»..»الأرض أنثى الغجر»، خامسا «البحر كورال الراحلين»، «الغرق رغبة في الغناء».. سادسا «البحر حنجرة المدينة»، «الهدير صوتها»، «المد صرخة..الجزر طلقة صمت».. سابعا «أفتق أنسجتي فما حاجتي لثوب يكسوني إذ ألبس البحر»..
هذه المزارات السبعة، أو قل هي مقامات سبعة، يمكن أن تظل بابا كبيرا لولوج عالم الشاعرة نسيمة الراوي، وهي مقامات متشابكة ومتقاطعة في الآن ذاته..كما لو أنها تولج الموت في الماء وتولج الماء في الموت، وبينهما برزخ الميم لا يبغي، كأنه معمدان للمدينة..تلك عين أخرى لرؤية المدينة وهي تميل على كعبها العريان رويدا رويدا. أستحضر هنا»ديوان طنجة» لسعدي يوسف الذي جعل من اللحظات العابرة مقاما لصور متوالية..هي عينه اللاقطة توقف اللحظة مثلما الأبد، في حين أقف مع نسيمة الراوي على هاوية قلب ناطق يتملّى في طلعة كينونة المدينة، وهي ترتجف قابضة على جمرة الحنين..هما رؤيتان مختلفتان حد الغسق، رؤية سعدي يوسف العابر في اللحظات.. ورؤية نسيمة الراوي المقيمة في الكينونة. في حين نجد أن الشاعرة بمقامها الروحي الغميس تقترب من عالم في زاوية من زواياها من عالم الشاعر أحمد الطريبق أحمد أحد الذين تغنوا روحا بـ «طنجة العالية» اقرأ نموذجا من قصيدة لها بعنوان» طنخرينا»:
«أَتَعَثَّرُ فِي أَهْدَابِ حُلْمِي،
أَزْحَفُ سَدِيمَةً،
طِيناً يَتَمَادَى فِي الاغْتِرَابْ،
أُشَارِكُ صَوْتِيَ الصُّعُودَ،
أُغَنِّي لِلْمَدِينَةِ..
…
أُهَدْهِدُ أَوْجَاعِيَ عَلَى سَرِيرِ الرُّوحِ
بِالْحُلْمِ، لاَ بِالنِّسْيَان؛
طَنْجَةُ لاَ تَنْسَى وَضْعَ ذَاكِرَتِي فِي سَلَّتِهَا،
كُلَّمَا نَزَلَتْ إِلَى الْبَحْرْ..».
كما أنها تقترب في زاوية أخرى من مآثر العزيز الفقيد منير بولعيش الذي استنفر في قصائده القوية والمتفردة جراحات طنجة الأزلية..أقرأ مثالا من القصيدة الأخيرة بالديوان، والتي تحمل عنوان «نكاية بالمدينة»:
«عُشْبٌ مِنْ أَقَاصِي الْقَلْبِ يَسْقُطُ،
وَأَنَا أُمَشِّطُ عَلَى طُولِ «الْبُولِڤَارْ»
هِپِّيّاً يَسْتَعِينُ بِقُبَّعَةٍ
كَيْ لاَ تُزْعِجَ أَصْوَاتُ الْمَطَارِقِ
قَصِيدَةً تَتَدَرَّبُ عَلَى الْغِنَاءِ بِالْبَالِ،
قَصِيدَةً مُصَابَةً بِفُوبْيَا الضَّوْءِ..
هِپِّيّاً يُخْفِي وَجْهَ شُكْرِي
دَاخِلَ حَقِيبَتِهِ؛
كَيْ لاَ تَتَّهِمَهُ الْمَدِينَةُ
بِالْخُبْزِ الْحَافِي،
أَوْ زَمَنِ الأَخْطَاءْ..
هِپِّيّاً يُشْبِهُنِي
فِي التَّمَاهِي مَعَ مُوسِيقَى پَاكُو دِي لُوسِيَا»
ذلك الأنين البولعيشي الصاعد من كينونة المدينة نتحرى زفراته الرابضة في هذا المقطع الآنف الذكر للشاعرة نسيمة الراوي، وكأنها تنسج دفقات الشاعر بغُلالة أنثوية مقيمة في الأعماق، أعماق القصيدة وأعماق المدينة مثلما هي أعماق الكينونة. لقد تغنت الشاعرة بمدينة طنجة، كما تغنى آخرون، لكنها عزفت على وتر منفرد متفرد يحمل بصمة روحها، وهي بذكائها الشعري الأنيق وضعت صورة شعرية للوركا، وكأنها تحيل على حالها تقول الشاعرة:
«فِي طَنْجَةَ لاَ نَرَى الصُّوَرَ مُتَعَدِّدَةَ الأَبْعَادِ فِي قَصَائِدِ لُورْكَا،
بَلْ نَشُمُّ مِلْحَهَا مَمْزُوجاً بِرَائِحَةِ الْبَحْرْ…»
وها نحن نشم ملح الشاعرة ممزوجا برائحة البحر في قصائدها، وهو في الآن نفسه ممزوج بملح المدينة؛ لأن البحر والمدينة صورتان لروح واحد: تقول في مقطع آخر:
«فِي طَنْجَةَ يَخْرُجُ الْبَحْرُ مِنْ قُبَّعَةِ سَاحِرٍ
تَخُونُهُ خِفَّةُ الْيَدِ..»
ولكي تكتمل صورة البحر والمدينة في تعالق دلالي آسر، نقرأ في مقطع آخر:
«كُلَّمَا أَوَجَعَتْنِي الْحَيَاة،
أَذَبْتُ قُرْصَ شَمْسٍ
فِي كُوبِ بَحْرْ..»
هنيئا لك يا بحر..هنيئا لك يا طنجة بهاته الشاعرة التي أفاقتنا قبل أن تستيقظي
#القدس العربي