في رواية «آخر حبات العنقود» لفتح الله هشام

الجسرة الثقافية الالكترونية –
#عبد السلام دخان
سعت رواية آخر حبات العنقود لفتح الله هشام الصادرة عن مطبعة تارودانت، والمزينة بلوحة تشكيلية للمؤلف نفسه، في مساحة ورقية من الحجم المتوسط تنحصر في 210 صفحة. سعت هذه الرواية إلى الاقتراب من حقبة زمنية دقيقة من تاريخ المغرب المعاصر من خلال تتبع حياة عائلة الحاج الصويري. فمند الصفحة الأولى ندرك الجهد الذي يبدله الروائي من أجل وضع المتلقي في حقبة زمنية توصف بمرحلة الاستعمار وما بعده مستخدما مرجعياته التاريخية والمعرفية لتأطير هذه الفترة الزمنية على مستوى الخطاب السياسي وتحولاته وعلى مستوى اللباس والفن والموسيقى، واللباس والأكل وغير ذلك. إنها مغامرة من نوع خاص وفق أسلوب اختاره عن عمد ليمكنه من استحضار هذه الفترة بكل عنفوانها وابدالاتها السياسية والأخلاقية طالما أن الأدب والتاريخ يتوسطهما الوعي الذي يغذي كل منهما الأخر على حد تعبير أدوار سعيد.
«آخر حبات العنقود» تضعنا بشكل مباشر في حقبة زمنية خصبة على مستوى الفكر السياسي والتحولات الاجتماعية والثقافية، وهي الفترة التي تزامنت بتخرج السارد من معهد الصحافة وبداية رحلة تحقق الذات في مهنة المتاعب، وهو الذي تربى في بيت متماسك، ومنفتح على الثقافة من خلال مكتبة الأسرة .
سنتمكن عبر السرد الخطي من معرفة سيرة الوالدة الحاجة فاطمة ومعها سيرة الحاج الفقير على الله العرف به أحمد شكري الملقب بالصويري كاتب المحكمة الشرعية بحي الأحباس العتيق، وهو الشخصية التي تتسم بالحكمة وإشراقاته الصوفية. فضلا عن أخ السارد المختار. غير أن تحولات أسرة جميلة وابنتها وردة التي ستتزوج بعبد القادر المدمن على المخدرات والمجاورة لجارتها البرتغالية الكثيرة الكلام والشكوى، بفرنسا ستجعل من رواية «آخر حبات العنقود» حاملة لأسئلة حارقة تتصل بالهوية والأخلاق والثقافة المغربية مقابل الثقافة الفرنسية. مما سينتج عنه مفارقة سردية سيوظفها الكاتب للكشف عن اختلالات أسرية من خلال العلاقة الصادمة بين وردة ووالدتها.
الرواية تأمل في البيئة من خلال رفض التلوث المرتبط بالإنتاج البتروكيماوي والإشعاعات الخطيرة، والأكياس البلاستيكية، وثقب الأوزون. واستحضار لمغرب 1956، حيث السارد يتحول بفعل مهنة الصحافة إلى كائن فضولي متوتر.مقابل زمن آخر يتطور في الضفة الأخرى، وبشكل دقيق باريس حيث استقرت وردة بضاحية « جوان فيل» ذات الطبيعة المخضرة الساحرة. وهنا تبرز مهمة السارد وهي وهو إبقاء جذوة العقل النقدي متقدة، لرصد تشابكات التحولات الاجتماعية والسياسية ورصد منعطفاتها، ونقصد بذلك الاستعمار والاستقلال وانتشار الفضائيات وماصاحبها من تحولات اجتماعية وأخلاقية ، فضلا عن تحولات الوعي السياسي وانتشار البرغماتية في ظل النزعة الرأسمالية. الهزات التي عرفها المجتمع المغربي والمتمثلة في الاستعمار، الاستقلال، الانفتاح، الاحتجاجات. وإثارة قضايا خاصة تتصل بعائلة شكري ومعها تعالقات الأسرة المغربية في علاقتها بمفهوم الهوية والوطن والانتماء، والاغتراب من خلال سفر جميلة إلى فرنسا، وقيم الغرب المتمثلة في النزعة الفردية المتخلصة من التكافل من خلال علاقة وردة بأمها.وهو أمر يؤشر على التوتر الذي يطبع العلائق الأسرية في فضاءات خاصة وعامة غير مستقرة.
السارد سعى إلى رسم معالم مراحل متعددة من تاريخ المغرب المعاصر بكل عنفوانها السياسي والأخلاقي. ومتغيرها الاجتماعي والحضاري. واستحضار السياقات المساهمة في تحولاتها. وهو ما يبرر خضوع «آخر حبات العنقود» لزمن يتسم بترتيب دقيق للأحداث فيما يصلح عليه بالسرد الخطي، مع مزاوجته للمفارقة السردية بإعادته ترتيب الأحداث وتوظيف تقنية الاسترجاع. ربما استجابة للمتغيرات الاجتماعية والحضارية ، وللسيرورة المجتمعية المتسمة بحركية متعددة تقدم مؤشرات على التحول في الفن من خلال أسرة الحاج شكري ورصد الانتقال من العائلة الممتدة إلى الأسرة النووية، لكشف العمق السوسيولوجي في التعليم من خلال استحضار تحولات النظام التعليمي بالمغرب، وفي الفن من خلال الحديث عن الأغنية، وفي الساسية من خلال استحضار انتفاضة الدار البيضاء. وفي الإعلام من خلال الحديث عن القنوات التلفزيونية – قناة دوزيم المغربية على سبيل الذكر- ومن خلال الحديث عن محمولات الثقافة الإلكترونية من خلال الحديث عن الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
«آخر حبات العنقود» تؤشر على مفهوم الهوية وعلاقة الذات بالآخر، وهي تذكرنا بتحفة الراحل الطيب صالح « موسم الهجرة على الشمال» حيث العلاقات متشابكة بين الشرق والغرب من خلال علاقة الجنوب بالشمال. ومن خلال رحلة سيرة البطل الإشكالي «إدريس» وكشفه لطبيعة الهوية والعلاقة الملتبسة بالآخر.
في «آخر حبات العنقود» تساوق بين الذات والآخر من خلال رحلة السارد إلى فرنسا وإلى باريس وعوالمها، شارع الشانزه ليزه الذي يضم أفخم المتاجر ، والمطاعم والمقاهي والمراقص والمحلات التجارية في العاصمة الفرنسية، ومتحف اللوفر، وحديقة النبات، وميدان الكونكورد. فضلا عن الضواحي، خاصة ضاحية جوانفيل حيث سيعمل السارد على تتبع مسار حياة وردة وكان الروائي فتح الله هشام كان يطبق فهم أرسطو للزمان بوصفه تتبعا للأفعال السردية وتنظيما لها.
مما يجعلنا نتساؤل عن قصدية الانتقال من فضاء المغرب نحو فضاء فرنسا، وتعمد السارد تعميق ممارساته السردية خاصة في رهانه على الوصف الخارجي.هل الأمر يرتبط برغبة في تتبع مسار عائلة ومعها رصد تحولات ومعها تعالقاتها الاجتماعية والأخلاقية والسلوكية؟
إن الأمر إذن يرتبط برغبة في إداراك الزمان كمدخل لفهم الحياة والوجود. والحالة هذه فالسرد ليس بنية جامدة بل حرية متحولة « حاضر الماضي،و حاضر الحاضر، وحاضر المستقبل» ولأنه كذلك فهو يسمح بتعميق الرؤية السردية وفي تنوع المصائر ارتباطا بهذ الفاعلية الممتدة عبر صفحات رواية «آخر حبات العنقود». وهنا نستحضر فهم بول ريكور لهذه الفاعلية بقوله: « تتمثل فرضيتي الاساسية في ان بين فعالية سرد قصة، وبين الطبيعة الزمانية للتجربة الإنسانية، تعالقا ليس بالعرضي، بل يمثل شكلا ثقافيا متبادلا من اشكال الضرورة. بحيث يصير الزمن إنسانيا، فيصاغ بصيغة سردية، و يكتنز السرد بمعناه الكامل حيث يصير شرطا للوجود الزماني» الزمان و السرد، ج 1، ص 53.
وتبعا لسياقات الرواية فإن الشخوص تتسم بفاعليتها السردية، وقدرتها على تكوين العوالم التي بدونها لا يستقيم السرد ولا يتطور. لأن الممارسة السردية بفاعليتها البلاغية تتوسط المسافة الكامنة بين الذات و العالم الخارجي. وهي تكشف في قدراتها التعبيرية عن مرجعياتها الفكرية سواء منها الفردية أو الجمعية، ومن خلالها تتحقق الذاتية داخل الزمن السردي، كزمن مشكل لهوية السرد في رواية « آخر حبات العنقود لفتح الله هشام. ومنتج للسنن الثقافية عبر ما يسميه أمبرتو أيكو في كتابه»العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه» بالممارسة الإنسانية.
إن السرد ليس استعادة لزمن ما، وليس رغبة في خلق عوالم تخييلية، ولا تعويض عن الفراغ الهائل في الذات الإنسانية. السرد في رواية « آخر حبات العنقود» إقامة في الزمن، وفي الخطاب تبعا لرؤية إدوار سعيد طالما أن الخطاب هو « تشكيل عالم متماسك متخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتندغم فيه أهواء، و تحيزات، و افتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات و تكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بتجلياته و خفاياه، كما يصوغها بقوة و فاعلية خاصتين، فهم الحاضر للماضي و انهاج تأويله له، و من هذا الخليط العجيب، نسج حكاية هي تاريخ الذات لنفسها و للعالم، تمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة و توجيه سلوكهم و تصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تاريخيا» ادوارد سعيد: الثقافة و الامبريالية، ت كمال أبو ديب، ص 16.
تشابك الاجتماعي والسياسي في رواية آخر حبات العنقود لفتح الله هشام مرتبط بمكونات الهوية التي تجد في السرد أحد تحققاتها الجمالية لتبلغ ما يسميه بول ريكور بالهوية السردية. ومن ثمة فالسرد في هذه الرواية هو صيغة فاعلة في الوجود تنظيم العمل وفق علاقات جديدة بين الشخوص والمصائر والإبدال الدلالي، والوسائط الرمزية التي تربط المتلقي بمجموعة من الممارسات الأفعال والقيم والمعتقدات والمؤسسات والكيانات الثقافية والأنظمة الأيديولوجية ومختلف الخطابات الفاعلة في الثقافة. إننا إزاء ثالوث الذاكرة واللغة والخطاب. وإذا كان من المتعذر استعادة التاريخ واقعيا ،فإن الوعي السردي لدى فتح الله هشام مكننا من تملسه تخييليا عبر فاعلية زمانية مرتبطة بقدر كبير من الحرية في الحركة داخل حيوات النص الروائي في أحداثه وإبدالاته النصية، وقدراته التخييلية بوصفه احتفاءا بصوت الحياة .
#القدس العربي