في لوحات الفلسطيني نبيل العناني حقول الزيتون والشخص الوحيد يستدعي أشباهه

الجسرة الثقافية الالكترونية
#بسمة شيخو
لكي تتعرف على تفاصيله اليوميّة وعلى بيته وأهله لا تحتاجُ أن تزورَ المعرضَ الحميمي الذي أقامه في منزله (أو كعبته كما يحب أن يدعوه) حين تربّعت لوحاته في صدر البيت، وأقبل الفنان المحترف والهاوي والمتذوق والفضولي والأصدقاء والمعارف عن رغبة حقيقية في مشاهدة الأعمال وتناول كأس من الشاي والدردشة.
فالتشكيلي نبيل عناني (مواليد اللطرون عام 1943) ببساطة يُحضر فلسطين- بيته الكبير معه دوماً للجمهور في صالات العرض في كافة أنحاء العالم، أوروبا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط وشمال أفريقيا واليابان، ليعرّفهم عليه ويدعوهم لتأمله وحبّه، و كأي فلسطيني، فلسطين عنده أكثر من وطنٍ على خارطة، هي كائنٌ حيٌّ يتنفس في قلبه وفي عيونه ومع أنفاسه وعلى أجساد لوحاتُه ومن الصعب جداً أن يخطو خارج حدود فلسطين وآلامها و تاريخها، فهي قدريّةٌ من الصعب أن ينجو منها مع خياراتٍ يفرضها هو على الهالة الفنية المحيطة به، فعندما تتأمل لوحةً من لوحات نبيل العناني تكون وكأنك تقرأ بصرياً حكاية شعبٍ يبحث عن الجمال الدائم في زوايا وطنه، فمفردات الهوية والانتماء لديه تعكس موقفاً سياسياً مباشراً يحتفي بمشاهد الطبيعة والإنسان الفلسطيني، لكنّ ذلك لا يُفسد مناخ لوحاته المكتفية ببعض الأسى بل على العكس تماماً الحياة واضحة في أعماله، لا مكان للموت ضمن خضرة بساتين زيتونه، حقول الزيتون المرسومة أمام البيوت خلفيةٌ شعريّة لشخص وحيد في مقدمة اللوحة وفي لوحات أخرى، يستدعي الشخص الوحيد أشباهه ويصنعون حشداً يشبه تماماً بستاناً من الزيتون.
الحشود تعيد لأذهاننا صورة أرتال النازحين في سنوات فلسطين العجاف، مما يؤجج الغضب في لوحات العناني، لكنه غضبٌ لا يُفسد مناخ اللوحات بل يكتفي بنوع من الأسى الشفاف يغلّف به أعماله لتخاطب المتلقي بأصوات خافتة.
الحس الفني في بنائية اللوحة وواقعيتها التصويرية المتوافقة مع الرؤية بشكل عام، مستمد من تشكيل سينوغرافي يسعى من خلاله نبيل عناني إلى خلق مشاهد واقعية بعيدة عن التقليد، ومرتبطة بالبساطة التعبيرية البعيدة عن العبث والفوضوية ومنسجمة مع رمزية المعاني المتعلقة بسيمترية الخطوط، وتأثيراتها البصرية على الحواس لدى المتلقي الذي تُعاد المنمنمات لذاكرته من خلال الأبعاد المنظورية المغفلة أحياناً في غياب البعد الثالث والاعتماد على التسطيح في بناء الحدث الفني و التتابع الحركي للألوان و التي تبرز أيضاً في تناسق الألوان ورهافة الحس التصويري والتعبيري وفي الطابع التزييني للشكل في بعض أعمال العناني حيث تظهر شاعريته الرفيعة في اختياره لعناصر الطبيعة (أزهار، أشجار، جبال…) والتي تعكس ارتباطه ببيئته وطبيعته وهي نزعة رومانسية تميّز الروح الشرقية كما نلاحظ مسألة الاهتمام بالتفاصيل في بعض اللوحات كالنقش في الملابس فقد كان لتصاميم الزخرفة المستخدمة في أشغال الإبرة الفلسطينية دورها في استنهاض حسه الإبداعي بالأشياء، وكانت المجال الحيوي لرصف بنيان مكوناته الشكلية في متواليات من الأشكال الملونة الصريحة في تجلياتها السردية و التي تعكس حقيقة الواقع الفلسطيني في مدنيته وريفه وبداوته، باعتبار أن «القطبة الفلسطينية» التراثية هي الرمز الأكثر تواجداً في لوحاته، و باعتبار التراث ذاكرة شعب وتاريخ ، وتعبير عن حقيقة وجود ماثلة للعيان وعبر الأجيال المتعاقبة.
لذلك سعى الفنان الفلسطيني منذ بداياته إلى إنجاز ترجمات تشكيلية معاصرة توازي تغريبته الذاتية فهو المؤسس الرئيس للحركة الفنية المعاصرة في فلسطين ومن أهم الفنانين الذين قارعوا الاحتلال الصهيوني بلوحاتهم، وأكثرهم ارتباطاً بالهوية الفلسطينية حيث لم يكتفِ بتقنيات سرد بصري نمطي وحسب، بل خاض تجارب تقنية مشغولة بمواد متعددة كالجلود والحناء والأصباغ الطبيعية ومجسمات الورق والخشب والخرز والنحاس ودخل من بوابة التراث الشعبي ومواضيعه المفتوحة على الأرض والتاريخ والإنسان، فمواضيع التراث محطة أساسيّة من محطاته التصويرية التي وجد ذاته الإنسانية في أحضانها وراح يختصر أناه الفردية بلوحاته وهناك التقت مع الأنا الجماعية في الهم المشترك فدوّنها الفنان نبيل العناني كرموز مُستعارة بأناقة وحالات تصويرية متمايزة يجمعها في متن لوحاته مع كمٍ كبيرٍ من الخطوط والألوان في عناق ضمن المساحات الحاضنة لجميع أصناف الزخارف الفلسطينية التي تجعل عين المتلقي وبصيرته أسيرة لمضامينها الشكلية وحالاتها الدلالية و تبقي روحه في طوافٍ دائم حول قبلة الفن الفلسطيني كعبة
#القدس العربي