في \”وليمة للنصل البارد\”: خليل ناصيف يلصق التهمةَ بشخوصه / سلطان القيسي ( شاعر من فلسطين )

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
عندما التقيت خليل ناصيف في رام الله، سحرتني بساطة هذا الشاب وألفته، قربه إلى إلى القلب، تارة كنتُ أحسّه طفلاً، وتارةً كنت أحسه واحداً من هؤلاء الأجداد الذين فقدوا أسنانهم، ولم يفقدوا مبادئهم، لفتاته أليفة و عميقة، أستطيع أن أتذكر جيداً ما حصل في محطة الباص وأنا أغادر فلسطين بعد زيارتي الأولى لها، حيث كان خليل ناصيف بمحض الصدفة آخر المودعين، هكذا ظننتُ لكنني فوجئت أن الأمر لم يكن صدفةً بالنسبة إليه، فلقد خرج من عمله لكي يودعني، لمحتُ في عينه جملة: ” لاتبتئس ..ستعود” ، لم آبه كثيراً فالأمر مبنيٌّ على الظن. لأفاجأ برسالة قصيرة منه بعد قليل تحمل المعنى نفسه.
خليل ناصيف كاتب تشعر أحياناً أنه يأخذك إلى المتوقع بالضبط، ولكنك تكتشف أن المتوقع هذا تغير شكله أو تحوّر، هذه هي صنعته الماكرة الجميلة، ففي كتابه الجديد “وليمة للنصل البارد” يروي ناصيف كلَّ قصص الأطفال التي سمعناها أو شاهدناها في أفلام الكرتون في طفولتنا، لكنها يكشف النقاب عن حقائق لم نكن ننتبه إليها، ربما لأننا كنا قاصرين، أو لأن هذه الحقائق ليست على ما تبدو عليه في نصوص خليل، وهذا مؤشر على اختلافه، فهو صاحب قراءة مختلفة، وهذا هو السبب وراء كتابته المختلفة.
ناصيف لا يتورّع في كتابه الأول أن يصوغ معانٍ جديدة لمفرداتٍ ألفنا معانيها، ولا يتحفّظ على تسمية الأشياء بغير مسمياتها، يعلن عن ذلك بثقة عالية، فلديه مسوّغات تدفعه لذلك، ولديه من الرؤى ما يجعله يعرف عناصر كونه كما يريد، وفقاً للمتغيرات القاسية التي تحل به و يحل بها، ليس من شأني أن أحلل نصه وفقاً لواقعه الذي رأيت منه جانباً، ولكنني أستغرب من جرأته العالية في نصوصه تلك التي لا ألمحها في شخصه، وأستغرب أيضاً من انشغالات شخوصه التي لا تشبه انشغالاته.
بطل قصة “توت بري” المتهور والمجنون، أخاله صورة عكس الأصل من خليل، وهذه قدرة عالية، كما يتقمص أحياناً دور الشاعر، دون أن يعلن عن نفسه شاعراً، وهذا دفء الأنا المطلوب ربما من شعراء كبار، فخليل في هذه المجموعة التي لا أجد لها تصنيفاً حتى الآن أنسب من “نصوص”، يتجوّل بين الرواية و الشعر و القصة و الخاطرة والومضة أحياناً.
“لم أكتب لغزاً، أو أعزف لحن تفجّعٍ غامضٍ، لكن عينيها مسلوبتان من كاهن مصري .. لا ترى في حرفي سوى نقش هيروغليفي”
يفتتح خليل أحد أطباق كتابه بهذه الجملة، ولا أظنها شكلاً من أشكال السرد، إنها شعر كامنٌ في ثوب سردي، فاللغة هنا لا تتخفف لصالح السرد، إنما تتجزّل وتمشي في شارع السردِ بلا كسل، وهذا ما يشبه لزوم ما لايلزم.
لست ممن يشجعون أحداً على خوض الشعر، وأذكر مرةً أن صبيةً كانت تكتبُ نصاً رائعة ومكتنزاً وراحت بعد ذلك تتعلم أوزان الشعر، فنصحتها بالكفّ عن ذلك، فإن كثافةً تعتري نصاً نثرياً أو سردياً قد تفاجئ القارئ وترفعه مزاجه عالياً عالياً، ستكون ضعفاً لو أنها وقعت في بحر الشعر. لأن الشعر طبقٌ مُعجِزٌ حين يجيء بين الأطباق، ولكنه عاديٌّ أحياناً إذا جاء وحده في لحظة الجوع السردي، فهو لم يعد يشبهنا في العالم الثالث، إن الشعر كثافة تحتاج جهداً ليفكها، الشاعر يَعْقِدُ والقارئ يفكّ، و على الشاعر الحاذق أن يترك خريطة الفكّ للقارئ في زاوية ما من زوايا القصيدة، وإلا رمى القارئ الكتاب بعيداً، فإن قراء العالم الثالث يتجهون إلى الأسهل دائماً، وهذا ما يجعل الشعر وحيداً في هذه الأيام. لو ادعى خليل الشعر لسقط في الفخ، لكنّه حمّل ذنب الشعر لأحد شخوصه وتنصّل من التهمة بذكاء باذخ، وحافظ أيضاً على مهمته السردية بالذكاء نفسه.