قاصون أردنيون يؤكدون حضور القصة في ظل هيمنة الرواية / بريهان الترك

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
لاقت القصة القصيرة اهتماما لدى النقاد والقراء في الغرب، وشغل هذا الجنس الأدبي حيزا كبيرا بين أجناس الكتابة الإبداعية، كذلك كان حالها في العالم العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم حيث كان لها ظهورا باهرا ما لبث أن خبا وهجه أمام الاهتمام الكبير من قبل النقاد والقراء بالرواية، اضافة إلى احتفال النقد بالنص المفتوح حيث سعى كل ذلك إلى تراجع مكانة القصة القصيرة مع مطلع الألفية الثالثة بانزياح كتابها إلى الرواية والنص المفتوح بل الرواية تحديدا، إلا أن بعضا من الكتاب تمسكوا بها، ولا تزال بعض التجارب الشبابية الجديدة تسعى إلى تأثيث القصة بالأساليب والأدوات الجديدة لإعادتها إلى مكانتها في المدونة الأدبية ولتقريبها إلى ذائقة واختيار القراء.
وحول الأزمة هذه القضية تقول القاصة والكاتبة الأردنية سامية العطعوط: “منذ سنوات حين أطلق بعض النقاد تساؤلاتهم حول القصة القصيرة وحول احتمالية (موتها) والمقصود بذلك تراجعها إلى الصفوف الخلفية بين أجناس الأدب الأخرى من حيث الانتشار والإقبال عليها كتابة وقراءة واهتماماً ونقداً، عارضتُ هذه التساؤلات أو التوقعات آنذاك، وكنت أرى العكس من ذلك، فالرواية كجنس أدبي على سبيل المثال، مرّت بمثل تلك الأزمة، وتم إنقاذها عدة مرات، سواء على أيدي روائيي أمريكا اللاتينية الذين قدموا لنا روايات (الواقعية السحرية) الرائعة وأغنوا بها الرواية العالمية، أو على (يد) كتاب الأدب الأوروبي الحديث وأدب المجتمعات المهمشة على حد سواء، الذين قدموا لنا تجارب جديدة في فن كتابة الرواية، بتنويع مصادرها وتقنياتها وآلياتها، كالاستفادة من التاريخ وإعادة كتابته بأفكار وأساليب ورؤى جديدة، أو من خلال التجديد في التقنيات السردية لهذا الفن، كاستخدام الميتاسرد وغيره من أساليب كتابة ما بعد الحداثة، التي تعتمد على تقنيات جديدة متنوعة تماماً.
وتضيف العطعوط: “ربما مرّت بفترة مؤقتة من السبات البسيط مع نهاية التسعينات من القرن الماضي، لتعود إلى الساحة الأدبية الآن، بشكل أكثر تألقاً وغنىً. وقد كانت لدي نظريتي الخاصة حول القصة القصيرة تحديداً، بأنها من الصعب أن تنتهي كجنس أدبي له حضوره، ولو بعد مئة عام..! وذلك لأسباب عديدة فالقصة القصيرة الفن الصعب والجميل، الفن السهل الممتنع، الذي يختصر الحياة والموت والمواقف بتناقضاتها، ببضعة كلمات أو أسطر أو صفحات، ما زال يحمل في جعبته وبين طياته إمكانيات هائلة للتطور والتنوع والتجدد، ولن ينتهي طالما أن هناك كتاباً جريئين يخوضون غمار التجارب في كتابته، وتثوير أساليبه وارتياد آفاق جديدة له”..!
وتوضح: “فالقصة القصيرة التي كانت في ستينيات القرن الماضي تعتمد على الحبكة الصارمة وعلى تقنية محددة من حيث (البداية والوسط/ لحظة التنوير/ والنهاية) تغيرت كثيراً. وقد عايشتْ القصة عدداً من التحولات من القصة الواقعية المباشرة إلى القصة القصيرة التي أدخلت إليها اللغة الشعرية، مروراً بالقصة القصيرة التي استفادت من فني السينما والمسرح والفن التشكيلي، وحتى القصة القصيرة جداً… ولعل ما يميّز القصة القصيرة أنها فن مطواع وقابلة للتجدد اعتماداً على الظروف المجتمعية للكاتب وعلى ثقافته وأدواته، فنحن ما نزال نجد بعض الكتاب والكاتبات يكتبون حتى اللحظة القصص الواقعية والرومانسية المباشرة، إلى جانب كتاب نفضوا عن القصة غبارها، وأدخلوها في مختبرات تجاربهم الحياتية والثقافية لتنتج لدينا تجارب قصصية متميزة إن على صعيد الموضوعات أو التقنيات السردية”.
وحول منجزها القصصي وعلاقتها بهذا الجنس الأدبي تقول: “بالنسبة لي، وبعد ست مجموعات قصصية، أشعر بأنني كتبت في أنواع عديدة من القصة القصيرة، ولدي تجارب تجديدية فيها من حيث اللغة والأسلوب وطرائق السرد والحبكة.. من القصة ذات اللغة الشعرية إلى القصة القصيدة إلى القصص التي تعتمد على عدد من الحركات (المقاطع) إلى القصص القصيرة جداً ومن الجدير بالذكر هنا، أن المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك كان لها أثر ذا بعدين على فني القصة القصيرة والشعر، الأول سلبياً والثاني إيجابياً… حيث انضم عدد كبير من كتاب المدونات ومرتادي الفيسبوك إلى ركاب الكتاب والشعراء، وهو أمر جيد من حيث الاهتمام بالكتابة والثقافة، ولكن السلبي فيه هو استسهال الكتابة وعدم وجود نقد موضوعي صارم وبناء لما يتم نشره…!
وحول تصدر الرواية خاصة في العشرين عام الماضية تؤكد العطعوط على وجود اهتمام كبير لدى الأجيال الشابة في كتابة القصة القصيرة وخاصة القصيرة جداً، ولعل أكبر دليل على ذلك وجود مجموعات ومنتديات عديدة تهتم بالقصة القصيرة والقصيرة جداً على مواقع التواصل الاجتماعي، كما لاحظنا مؤخراً اهتماماً واسعاً بفن القصة القصيرة على الصعيد العالمي وليس العربي أو المحلي فقط، ولعل فوز كاتبة (القصة القصيرة) الكندية آليس مونرو بجائزة نوبل الآداب في عام 2013 أكبر دليل على التفات العالم لهذا الفن الجميل، وعودة فن القصة إلى صفوف متقدمة في الحياة الأدبية الإبداعية، إضافة بالطبع إلى فن الرواية..!
وتخلص قائلة: “يستطيع كتاب القصة إنجاز الكثير، ولعل أهم الوسائل لتطوير أدوات وأساليب الكتابة والتجديد، هي القراءة في مختلف المجالات وخاصة قراءة الشعر والرواية والفلسفة والمسرح، جميعها تؤدي إلى كتابة قصص متميزة، مختلفة وثرية، وتترك أثراً كبيراً لدى متلقيها..! أما بالنسبة للقصة القصيرة جداً، فإنا بحاجة بالتأكيد إلى إرساء الحد الأدنى من القواعد لها، وهذا يعتمد على النقاد من جهة وعلى المبدعين فيها من جهة أخرى، كي لا يختلط الحابل بالنابل، وكي تحافظ (ق ق ج) على تماسكها وانطلاقتها، ولا تتحول إلى مجرد طرائف أو أمثال أو جمل اعتباطية لا وزن لها ولا معنى”!
من جهته يرى القاص والكاتب محمود الريماوي أن الظرف التاريخي وآليات التسويق رجحت الرواية على غيرها.. وحول القضية التي يطرحها هذا الاستطلاع بحسب رأيه يوحي إلى أن فن القصة يعاني من عارض خطير، وهو لا يتصور الأمر على هذا النحو الكارثي، ويضيف: “في سبعينات وثمانينات القرن الماضي كان هناك عزوف عن خوض غمار الفن الروائي، ولم يكن احد آنذاك يتصور أن الفن الروائي سيشهد ازدهارا بعد نحو عقد واحد من الزمن، ففي واقع الحال إن من تأثر سلبا في المقام الأول بصعود الرواية هو الشعر. ومع ذلك لم يختف الشعر، فهناك طلب عليه في المنابر وهناك مهرجانات مخصصة له ما زالت تقام. ويرى أيضا أن الجمهور العربي في هذه الآونة بالذات هو غالبا من المستمعين للشعر، لا من قارئي المجموعات شعرية.
وحول فن القصة يضيف الريماوي: “أما تأثر فن القصة فكن أقل حدة. فقد استمر نشر المجموعات القصصية وظل الطلب قائما عليها في الصحف وفي المجلات الورقية والمنابر الثقافية الالكترونية ومنابر الجمعيات والاتحادات والروابط الثقافية. وظهر مبدعون جدد لهذا الفن في غير بلد عربي. لكن الذي حدث منذ مطلع الألفية الثالثة على الأقل، هو تخصيص جوائز عربية لفن الرواية(يكتب الكاتب هذه الكلمات في يوم إعلان القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية للروايات الصادرة عام 2014) ومع تخصيص الجوائز نشطت حركة ترجمة روايات عربية إلى لغات أجنبية وبالذات الانكليزية والفرنسية). وبدأت تقام مؤتمرات خاصة بالرواية. وانصرف النقاد عن متابعة القصة القصيرة بصورة كبيرة والعديد منهم آثر أن يكون محكما لجوائز الرواية. ونالت الرواية قدرا من الحظوة لعدد من النقاد. ونشطت في المقابل حركة ترجمة لروايات أجنبية أميركية لاتينية لماركيز خصوصا وروايات يابانية ثم لروايات من مختلف أرجاء العالم. هكذا تضافرت وسائل تسويق للرواية واحتفاء بها. فيما ظل فن القصة القصيرة في عالمنا العربي يعتمد على وقوة الدفع الذاتي فقط.
من جهته يلفت القاص والصحافي خالد سامح إلى أن القصة القصيرة ومنذ بداية انتشارها في العالم العربي كجنس أدبي، مستهل القرن الفائت، لم تلق الاهتمام الذي حظيت به أجناس أدبية أخرى كانت وافدة إلينا من الغرب وروسيا أيضا وأهمها الرواية وقصيدة التفعيلة الحرة ثم قصيدة النثر، أي أن ما يمكن أن نسميه بأزمة القصة القصيرة ليس بالأمر الجديد فهي ومنذ ولادتها في بلادنا لم تحصل سوى على جزء بسيط من الاحتفاء النقدي والصحفي كباقي أشكال التعبير الأدبية، وبقي ينظر إليها كعمل نخبوي غير جماهيري، وهذا يعود ربما لطبيعة القصة القصيرة وأفقها التعبيري، فهي نص ذهني، موجز، مكثف وتأملي وغالبا ما يلجأ كاتبها إلى الرمز لا سيما في طرحه لقضايا ذات صلة بالثالوث المقدس (الدين والسياسة والجنس)..
وحول هيمنة الرواية على الأشكال الأدبية الأخرى يرى سامح بأنها تتسع ببنائها الحكائي المشوق لسرد طويل وأكثر مباشرة وجرأة في طرح القضايا الخلافية سياسة منها أو اجتماعية أو فكرية. إلا أن المتتبع للمشهد الأدبي العربي خلال العقدين الفائتين يلاحظ تعمق حضور الرواية بصورة مضاعفة وتراجع لا يمكن إنكاره ليس لفن القصة القصيرة فقط وإنما للشعر بكافة أشكاله، فقد باتت الرواية كما يقال “ديوان العرب” وأصبحت الشكل الأدبي الأكثر جماهيرية مما دفع بدور النشر-وهي مؤسسات تجارية في النهاية- لتجاهل القصة القصيرة والترويج للأعمال الروائية التي تدر أرباحا أكثر لا سيما مع تخصيص جوائز عربية وعالمية لها سنويا وتسليط الضوء عليها إعلاميا وصحفيا
ويخلص سامح: “رغم كل ذلك إلا أنني لا اتفق مع ما يروجه البعض من “موت القصة القصيرة” ونهايتها، فقد اثبت التاريخ أن لا شكل إبداعي يمكنه إلغاء الآخر، وسيبقى لدينا كتاب مبدعون قابضون على “جمر القصة” مخلصين وأوفياء لها في مواجهة مزاج شعبي ونقدي عربي يميل- للأسف- لكل ما هو سهل وسريع وآني.