‘قال لي عبدالله’ سيرة الكتابة رغم الموت البطيء

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سليم النجار
يأتي كتاب “قال لي عبدالله”، للشاعر العراقي حميد سعيد، الصادر عن “دار دجلة”، بعمان، في سياق منعطفات زمنية تتوقف فيها الأمم من خلال أسئلة كبرى، بحثا عن تجليات الواقع وهويات الجذور واستشرافا للمستقبل.
يتساءل حميد سعيد عن دور السيرة الذاتية في سلطة الشخص العامل في مجال المعرفة، وهل تحمل هذه الشخصية في تجلياتها، صورة السلطة السياسية؟
وهو هنا لا يرى الكتابة من منظور كونها حدث تاريخي لأحداث مضت، ليسقطها على الواقع، لاقتناص العبرة من هذا الحدث التاريخي ولا يراها جسا لحتمية الواقع، وإنما هي استنطاق العقل لتحديد الفكرة، ومن ثم تحليلها من أكثر من زاوية، لمعاينة الإشكاليات التي نعيشها بعمق لا في سطوحها.
والقضية الملحة هي: هل الحضارة أفضل مفهوم معرفي للصراع؟ وإذا كان الجواب بـ”نعم” فهل نقبله بإطلاقه؟ يقول حميد سعيد، وهو يضع مقولته على لسان عبدالله: “في تاريخ المجتمعات الإنسانية، منذ طفولة الحضارة حتى يومنا هذا، حيث تتشكل المفاهيم الحضارية في ظل تأثير خارجي، الدعاية وتراجع الخصوصيات لصالح التعميم العولمي، أو خسارة حيويتها بتأثير التمركز والانغلاق، لم ينحسر الصراع بين ما هو مظهر وما هو جوهر في الجمال”.
ينتقل الكاتب من موضوع الجمال، إلى سرطانات المبدعين، يشير إلى من أصابهم هذا المرض الخبيث منهم، وكأن لسان نصه يندرج تحت مقولة لا ضرورة للاهتمام بالفن ولا أهمية له عندنا، لا أهمية للمهم، وهذا ما جعل الفن هامشيا إلا في ما ندر، كما الثقافة العميقة في ندرتها.
سرطانات المبدعين
نقرأ هذه السيرة لعدد من الأدباء على أنها رسالة ضد الخوف، وليس من إبداع بعيد عن الحقيقة. يقول حميد سعيد “لقد لفت نظري الولد العبقري محمد طمليه في علاقته الحميمة بسرطانه في حياته اليومية، وفي ما يكتب، وكان يصر على إقامة علاقة حميمة معه، فهو ليس شوية سرطان، ومجرد ورم في اللسان، وإنه ليس مريضا، ومرضه إشاعة كان قد روجها لإقناع الآخرين، إن السرطان أقل خطورة من تبسط القدمين! وسيهزمه. وإن سرطانه سكرتير مجتهد عينه على جسده، ليذكره كل صباح بمشروعه الأدبي”.
ولم يكتف حميد سعيد بسرد سيرة محمد طمليه، الكاتب الساخر من الحياة والسرطان معا، بل تناول أيضا سيرة الروائي المغربي محمد شكري الذي سخر هو الآخر من سرطاناته، لكن على طريقته “وإذ أتيح لي أن ألتقي بطمليه كما التقيت بشكري من قبل في مرحلة كان السرطان قد تجاوز خط الدفاع واقترب منالهدف، وجدت كل واحد منهما يعيش على سجيته غير آبه بما هو فيه”.
سعى حميد سعيد في كتابه “قال لي عبدالله” إلى التأكيد على الحب، بعيدا عن أقلام النقاد وعيون المتربصين، إذ لا معنى لعمل مجرد من الحب، ولا جدوى من حب، دون أدنى عمل، أن نحب ما نفعل هو أجمل مثال على التوازن، وعلى حسب رأي حميد سعيد، التوازن هو خير دليل على الإبداع، وليست آراء النقاد، حيث اعتقد بعض الأدباء بأنها الطريق إلى نيل الجوائز.
صراع الألوان
يوضح حميد سعيد للمبدع وهو يخاطب المتطفل داخل كل منا، أن الجوائز الأدبية العالمية لا تنظر فقط للإبداع كمعيار وحيد، هناك معايير أخرى لم يرد سعيد الدخول في تفاصيلها، لكنه اكتفى بالإشارة إليها، ولم تفته الإشارة إلى أهميتها.
وهناك فكرة طريفة يطرحها حميد سعيد في نهاية كتابه حيث تناول موضوع التمييز العنصري من خلال طرح الكاتبة الأميركية من أصول أفريقية أليس ووكر التي نالت جائزة البولتزر للرواية في العام 1983 عن روايتها ”البشرة الأرجوانية” إذ تحدثت عن طفولتها بالقول “منذ تلك الفترة، منذ وضعي المنعزل المتوحد، منذ وضعي كمنبوذة، بدأت أرى الناس والأشياء، حقا، وأن ألاحظ حقيقة العلاقات وأتعلم أن أصبر، كي أظهر اهتماما ومتابعة لما يثبت في النهاية”.
وبالمناسبة، ليست ووكر هي الروائية الوحيدة التي تناولت هذه الحالة، فمن قبلها الروائية الأفريقية ايفون فيرا من زمبابوي في قولها “أكره الصمت، والروايات التي أكتبها تسعى إلى إنهاء حالة الصمت وعدم القدرة على التعبير، التي ظلت ترزح تحت وطأتها النساء الأفريقيات قرونا عدة”.
وبين ووكر وفيرا، يحدد حميد سعيد رؤيته “إن تجربة ووكر، كونها ملونة في مجتمع التمييز العنصري، وامرأة في مجتمع ذكوري، جعلها تعي ما تسميه ‘البلوى المزدوجة’ أي العنصرية والتمييز بين الجنسين، وهذا الوعي الذي جعلها أعمق إنسانية في رؤية ما يحدث في العالم، فترفع صوتها وتشد قبضة يدها معترضة على سياسات بلادها”.
وبعد ذلك يبحث حميد سعيد، في “قال لي عبدالله” عن رؤية فكرية يمكن وصفها بالبلاغة الفكرية، ينفتح بها على القارئ، وقد نجح في ذلك واستطاع أن يعبر عن دلالة دور الكلام، حيث مقولة “تكلم حتى أراك” التي تنسب إلى الفيلسوف الإغريقي سقراط وهي مقولة تجعل اعتراف الآخر بوجود المرء مرهونا بما يقول.
المصدر: العرب