«قبرصلي بوك»: عندما يتحوّل «فايسبوك» إلى لعبة لبنانية

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-

*منير الخطيب

صار «فايسبوك» من عاديّات الناس. هو يشبه الحاجة الملحّة للبعض، تماماً كضرورات الحياة أو الاستمرارية. لكنّ لهشام جابر رأيا آخر في «المسألة»، عرضه على مسرح «مترو المدينة». فكرة العمل الكوميديّ تلك، ربّما تكون غريبةً. عرض متواصل من دون استراحة لنحو ساعتين من الزمن لاستعراض «تايملاين» تقرأه عموديا بدقائق قليلة بمعونة السبابة، التي اكتسبت سرعة ومرونة أعلى من باقي الاصابع، لوظيفتها المستجدة مع عجلة «الماوس».

ينطلق «قبرصلي بوك» بالاستعراض قبل الدخول إلى المسرح. (النزول من أعلى إلى أسفل) نزول درجات «المترو» المشحونة بهواء رطب، وكراسٍ وصور مبعثرة تشبه «اسكتشاً» بحد ذاتها. سينقلك إلى عالمٍ غامض، أو ربما يحاول الإيحاء بذلك، خصوصاً أنه بخلاف الأمكنة الأخرى، تتصاعد منه رائحة الدخان كلما نزلت الدرج، بدلاً من أن تخفّ.

الجمهور متنوّع، يختصر روّاد شارع الحمراء بكثافة لطيفة، غابة من التسريحات والملابس التي لا تشبه إلا أصحابها، تتواطأ مع «جزمة» هشام الذهبية المنتظمة مع زيه الأسود، وربطة عنقه الريترو، المتناسقة حفراً وتنزيلاً، وشاربيه اللذين يتوسطهما بذوق، مشروع سكسوكة دائرية تحت الشفة السفلى.

منذ لحظة دخوله المسرح، يكسر قبرصلي الجليد بينه وبين الجمهور، فيستدرجه إلى تفاعل كامل بعد نطقه بالعبارة الأولى. وكأنّ الجمهور تهيّأ لذلك، ولضيق المكان طبعاً، خصوصيّة تجعل نمط التفاعل معه، أمراً واقعاً.

يُفاجئك هشام جابر بالبديهيّ، بطرافة غير مصطنعة، تشبه السهل المُمتنع. لـ«فايسبوك» تاريخ، ومسار تطوّر موصول. لم يولد فجأة، بل تسلّل إلى كومبيوترات الناس، واستوطن الشاشات بسياق طبيعي وسريع. لكن نحن المستخدمين نسينا، كنا بحاجة لهشام جابر ليحيي ذاكرتنا القريبة.

أرجعنا إلى «الحائط» والرسائل العلنية، وإدمان التلصّص على «الأصدقاء»، وهوس «الليكات»، وعدادات الأصحاب..

وبسخرية مرّة أعاد هشام جابر تذكيرنا بسوء تلقّينا للاختراعات ووسائل العصر. كان من المفترض أن يستذكر بيت المتنبي: «كلما انبت الزمان قناة ركب الإنسان للقناة سنان»، في المقاطع الشعرية التي اقتبسها من قصائد العرب الشهيرة، والتي اعتبر أنّها السبب في تدنّي مستوى الشعر اليوم. فبالنسبة إليه، ما يُكتب اليوم عن الحالات الشخصية في «كتاب الوجه»، يعدّ تقليداً مشوهاً، أو نتاجاً فاسداً لنمط شعريّ عند قدامى العرب، كان يعتبر الحديث عن الحبيب أجدى من الوصل به.

السخرية المرّة لم تقف عند استعراض تلقينا السلبيّ للحداثة وتفاعلنا التسفيهي معها، بل تطال نواحٍ أشمل. فنحن الذين فشلنا في الحرب والسلم وغرقنا في تحالفات مضادة دوّخت القريب والبعيد، عجزنا عن فهم جوهر الاتصالات والتواصل الحر. عجزنا أيضا عن الفصل بين الحقيقي والافتراضي. لا بل دفنَّا الحقيقي على حساب عالم لا نملك ناصيته، ولكننا على الأقل نمارس فيه صغائرنا ونستمتع بالحدود التي نستطيع رسمها، أو التي يسمح لنا «فايسبوك» برسمها.

صرنا نعتبر الافتراضيّ بمثابة الحقيقيّ المَعيش، لا المبتغى. صار هناك نجوم لهذا العالم، لهم سطوة وحضور، لكنّهم لا يقرّشون بالواقع، تماماً كجماعات المناصرة والحشد الذين يطالبون بحقوق وتحديث قوانين. على الصفحات هم بالملايين، وفي الشارع لا يتعدون أصابع اليدين. جماعة الأصابع، وعلى قلة عددها، لم تنج من لسان هشام جابر، مثلها مثل نجوم السياسة الحقيقيين، وإن راعى بنصه توزيع النقد والنكات عليهم بالعدل والمساواة، مستهدفاً «حزب الله» أكثر من غيره بحجة أنّ جسمه لبيس وبدنه يحتمل.

لم تغب عن «قبرصلي بوك» السخرية الإباحية والسياسيّة، وما يطلبه الجمهور من شتائم وبذاءة. لكنّه حافظ مع ذلك على نمط كوميديّ غير مبتذل، ومتوازن من أوّل العرض إلى آخره. نجح في تقديم عرض كامل بزخم ووتيرة واحدة، لا هبّات ضحك صارخ، ولا نكسات رتابة. نص وأداء متماسكان تخرقهما حرتقات من الجمهور المسيّس الذي خضع فوراً، وبانصياع محبب لصاحب الخشبة.

تجربة «الستاند أب» كوميدي في بيروت لم تعد تقبل بأداء دون الجيد، فالجمهور اعتاد مؤدّين شبانا كبارا، من لبنان ومن خارجه، من ماز جبراني إلى نمر أبو نصّار مروراً بجو قديح وماريو باسيل وغيرهم. وبات تقديم عرض أحادي لمدة ساعتين بموضوع واحد، مغامرة حقيقية، حتى لو كان بحجم واتساع «فايسبوك».

هشام جابر قدم عرض الأربعاء الماضي على أنّه من العروض الاخيرة، ولكن مع «فايسبوك» وتطوراته المتسارعة، وتبدّل عادات اللبنانيين معه وفيه، سيجعلنا بالتأكيد ننتظر عرضاً مجدداً يستحقه المشاهدون، ويليق بسمعة «المترو».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى