«قبل أن تستيقظ طنجة»… «ما قـبـل» وتكوين الشعر

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبد الرحيم جبران

المصدر / القدس العربي

إنني حين أقرأ الشعر أُلفيني دوما أمام سؤال صعب، ما المنطق التي يتحكم فيه، فالمنظرون المعاصرون، وفي مقدمتهم رولان بارت، حسموا أن الشعر لا يخضع لنسق معين، كما هو الحال بالنسبة إلى السرد. لكن بمزيد من الإمعان في فهم السبب في ذلك، وبإعادة تأويل البلاغة ونشوئها، وامتدادها في الزمن، أدركت أن لا بد من وجود نسق يتحكم في الحالة الشعرية. لا يهم كيف يمكن تنظير ذلك الآن، بيد أنني أكتفي بالنتيجة المتوصل إليها، وهي أن منطق الشعر يتأسس على التبادلات بين عنــــاصر العالم بغية تلافي نقصه، والشكل الظاهري لهذه التبادلات استعاري يقدم ذاته في هيئة دفق. لكن هذا الدفق لا بد أن يستند إلى استعارة كلية تتحكم في السيولة الشعرية للقصيدة، وفي إنتاج جل الصور التي تتحقق في هيئة ترابطات بين أطراف معينة من العالم.
أظن الاستعارة الكلية التي تتحكم في ديوان «قبل أن تستيقظ طنجة» ماثلة في (ما قبل التكوين). لكن كيف عثرت على هذا الجامع لشتات يتخالف في بسط عناصره شعريا، وعلى مستوى تحقق كل نص على حدة؟ ينبغي التأشير إلى شيء مهم أولا. إننا نكون دوما في علاقة المبدع بمنتجه أمام حالتين: إما أنه يكتب انطلاقا من تصور مفكر فيه منذ البداية، وإما أنه يكتب انطلاقا من لاوعي بحالته الانفعالية. وفي كلتا الحالتين كيف نتصرف، إذا لم يوجد أمامنا أي ميتا- نص واصف للمبدع؟ المعول في هذه الحالة هو الاعتماد على النصوص ذاتها بالبحث خلفها عما يجعلها متقاربة، وهذا التقارب هو الذي يسمح ببناء تصور ما. هذا الإشكال واجهني وأنا أحاول الاقتراب من عالم نسيمة الشعري. لكن وأنا أفكر في ذلك تنبهت إلى الإهداء الذي خصتني به، وعددته مفتاحا لدخول هذا العالم، والقبض على الاستعارة الكلية التي تؤسسه.
تقول نسيمة في هذا الإهداء: «إلى عمو جيران، وخالتي فاطمة، «مثقلة أنا بذاكرتي لذلك ألقي بها عند أول البحر قبل أن تستيقظ طنجة…» اليكما هذا الضجيج الأزرق. أحبكما». ليس أمامنا- إذن سوى هذا الإهداء، وعلينا أن نتعامل معه بنوع من المهارة. فهو يتضمن نوعا من الوعي بما يحدث في العالم الشعري. وقد لا أجازف إذا قلت إنه يتضمن المفتاح الأساس لفتح مغاليق هذا العالم. لكن يجب فعل ذلك في علاقة بالعنوان، لأن هذا الأخير يعبر بدوره عن رغبة في اختزال معنى ما يشير إلى المقصدية التي تحرك الإنتاج الشعري في الديوان. وأظن أننا سنبدأ من العنوان وننزل نحو الإهداء. فطنجة ليست سوى استبدال مركزي لكل الأمكنة الأخرى الواردة في باقي قصائد الديوان، لكن كل هذه الاستبدالات يمكن قراءتها في ضوء مجمع اسمي عام هو المدينة، فيصير العنوان هو «قبل أن تستيقظ المدينة». والمدينة هي إشارة إلى ما هو تمدني، أي مؤسساتي قواعدي، وما يشكل الوعي، من حيث هو إدراك للحدود، وتشرب لما هو فواصل وتسميات. إذن الاستعارة الكلية هي كامنة في ما قبل تكوين هذا القاعدي المؤسساتي. وهذا القاعدي المؤسساتي يشكل الظاهر الذي تسعى القصيدة إلى تحويله إلى أصل ما يشكل خفيه أو باطنه التأويلي.
إن المدينة منظور إليها انطلاقا من فسحة مجاورة لها بوصفه حدا ألا وهو البحر، فأسماء الأمكنة هي دالة على هذا الأمر، ومن ثمة فاستحضارها تام انطلاقا من الحد الفاصل الذي يجمع داخله التضاد بين المائي والترابي، وهو تضاد مؤسس للحياة، تضاد يتضمن الأصل من حيث هو تفاعل مزيجٍ «بقدمين بيضاوين يتزلج البحر على الرمل/ بلا قدمين يسبح الرمل في البحر/ وأنا عند الشرفة أعبئ ذاكرتي» (ص9). لم يعد المكان مكانا فيزيائيا تتفرسه العين، بل صار تفضية للذاكرة من حيث هي سؤال مفتوح على ما قبلها، أي قبل تكونها بواسطة الأسماء والألفاظ. ومن ثم يصير الزمن موضوعا خارج حدوده الممفصلة، أي أن القصيدة تحتفي بالحاضر، لكنها تفعل ذلك لتعود به إلى ما قبله، إلى ما قبل الماضي ذاته، أي تكونه بوصفه ذاكرة ممفصلة. ويصير الزمن هو البحر، قبل أن يكون مكوّنا عبر اللغة، زمن الأسطورة الأبدي «البحر أسطورة يسردها المد للبر» (109).
بعد تحليل الاستعارة الكلية «ما قبل التكوين»، وربطها بتجاوز المفصلة والحدود والقواعد انطلاقا من العنوان لا بأس من معرفة كيف يفضح الإهداء هذه المعادلة المنتجة للشعري في قصائد الديوان. وسنركز على ربط الذاكرة بمفتاحين اثنين هما: أول البحر، والضجيج الأزرق. مع الإصرار على أن البحر يعد ناظما رئيسا للدفق الشعري من خلال مادته ولونه، أي المائية من حيث هي تكثف داخلها ثنائية المحو (الغرق) والحياة (العشق)، التي يمكن ترجمتها بالتوليف بين الموت والحياة. إن المركب الإسنادي «أول البحر» لا يعني على الإطلاق بداية امتداد، أي الشاطئ، وإنما تشكله في الذاكرة، ومن ثم تحوله إلى ذاكرة يصاغ من خلالها المكان ويعاد إنتاجه. وحين تمتد هذه الذاكرة إلى الحياة، فهي لا تستعيدها كما هي في هيئة مجموعة من الأحداث، وإنما في هيئة أصل قديم فقد شكله، ولا يستعاد إلا بوصفه أثرا عالقا بالأشياء، ويترجم هذا الأثر إلى لون وصوت. إن البحر- الذاكرة لا يستعاد- إذن- من حيث أوّله بوصفه إدراكا حاليا، وإنما بوصفه ما قبل إدراكه بصفته بحرا، قبل أن يصير مثقلا بالحدود، والقواعد ومشبعا بالرمز. ولهذا لا يحضر إلا من خلال الصوت (الضجيج) واللون (الزرقة)، فقد كانهما في الأصل قبل تحوله إلى اسم ومعنى.
يسلمنا التحليل السابق إلى تضاد آخر مؤسس للشعري في الديوان، والمقصود بذلك ما يستدعيه الأصل من خفة، وما يستدعيه الممفصل من ثقل. فالخفة هي دليل على ما قبل التكون (المفصلة والاسم والقاعدة) ما كانه البحر من قبل، لما كان صوتا ولونا فقط، بينما الثقل دليل على التكون المستند إلى المفصلة والاسم؛ أي حين صار البحر اسما مكتنزا بالحدود والرمز. ويجب هنا فهم البحر بوصفه ذاكرة، أو بوصفه يسكن الذاكرة. «استلقي على البحر المتدفق/ من محيط ذاكرتي/ خفيفا خفيفا/ كي لا أوقظ اوجاعا/ تتعلم كيف تستلقي خفيفا). فالخفة المسندة إلى البحر النابع من الذاكرة تعني تجاوز الثقل الآتي من الاسم (تشكل البحر في هيئة اسم، وحد، وفاصل)، والخفة المسندة للأوجاع هي التدرج في الألم إلى أقصاه، لكن الوجع هنا لا يعني الألم الفيزيقي، بقدر ما يعني الوجع الانطولوجي، وجع السؤال. ومن ثم فهو رمز للثقل بوصفه قيودا ناجمة عن الحد. ويمكن لنا أن نقول إن الخفة تفجر إلى ضدها (الثقل) حين توضع في الحد الفاصل بين البحر القديم (قبل التكون)، والبحر الحالي.
فهي خفة خفيفة حين تصير مرتبطة بالذاكرة البحر المنتجة من خلال الصوت واللون، حيث الوحدة متوفرة بوصفها كلّا أسطوريا غير قائم على الحد (البحر تنورة زرقاء/ النوارس أزرار / الزبد أهداب/ الأرض أنثى الغجر).
يصير البحر كلّا أسطوريا يعطي ذاته في هيئة مشهد يقبل أن تتحول عناصره إلى ملامح ثوب، هذا الثوب يمكن تأويله بمماثلة بينه والعروس- اللعبة التي تؤشر إلى زمن قديم هو زمن الطفولة. والعروس اللعبة هي ذاتها الأرض الأنثى الغجرية، وعلينا أن نتنبه إلى الصفة «الغجرية»، فهي تتضمن مطلق الحرية خارج حدود الانتماء أرض معينة. ومن ثم فالخفة الخفيفة مفهومة في هذا الإطار الذي يتعلق بالوجود ما قبل التكوين، حيث حدود الاسم منتفاة.
نعود مرة أخرى إلى العنوان من أجل إعادة قراءته بموجب المتوصل إليه على مستوى تحليل بعض المقاطع من الديوان. وذلك وفق آلية لتصويب الذاتي التي تعيد بناء الفرضيات المنطلق منها في أفق تنامي الاستعارة الكلية، عبر تنامي النص الشعري. فالعنوان جملة ناقصة، وهذا النقص يعبر عن السؤال عما هو مشروط بقبل استيقاظ طنجة. ولنا أن نتكهن بما هو.
ولا نستطيع ذلك إلا باستنتاجه من جنس «القبل»، أي الزمن. ومن ثم نحبذ أن نكمل العنوان على الهيئة الآتية: زمن ما قبل استيقاظ طنجة. وكما هو مركوز في اللغة وأنطولوجيا الزمن فإن هذا الزمن هو الفجر، أو السحر. وهو زمن يجمع في طياته ما هو ملتبس، الزمن الرمادي، حيث تتداخل الظلمة والنور معا. فتبدو في هذا الزمن معالم الأشياء في هيئة أشكال من دون وضوح محتواها على نحو تام (الشكل الشكل: الديوان). هكذا يصير العنوان منتجا بدوره انطلاقا من الاستعارة الكلية «ما قبل» التكوين، لكن هذا الإنتاج يفيد بأن المكان ليس موضوعا فحسب للدفق الشعرية بتبادلاته، وإنما أيضا هو تجديل بين الزمن والذات. وإعادة إنتاج هذا التجديل، عبر مفهمة محددة، وما هذه المفهمة سوى التضاد بين الماقبل والمابعد، فالفعل الشعري يقيم في المسافة الفاصلة بين اللحظتين. وهذه الإقامة ليست منتجة عبر ما هو عمودي (السماء/ الأرض) كما هو الأمر في تحليل هايدغر لنصوص هولدرلن، وإنما منتج عبر الأفقـــي، حي التقابل بين القابل بين الماء والتراب، بين السيولة والصلابة. بين ما لا يقبل الحركة، وما لا يكف عن الحركة، بين ما يقبل الحدود والمسافة والقياس، وبين ما لا يقبل ذلك.
إن المكان وهو يعاد إنتاجه انطلاقا من الاستعارة ما قبل التكوين، هو مكان قائم في المنطقة الفاصلة بين وجوده الأول في الذاكرة بوصفها صوتا ولونا، ووجوده اللغوي حيث التعين يفرض عليه تضمنات رمزية تفقده سحره، وهيئته الأولى بوصفه تذكرا بعيدا. وهكذا يصير المكان امتدادا لزمن ما قبل التاريخ الشخصي الذي تدونه الكلمات، وينتج عبرها، كما أنه يصير مضاعفا لذات أنتجت بدورها من خلال الحدود والقواعد التي تهيؤها اللغة لفهم العالم واستبطان هويته. ليست طنجة في النهاية سوى الذات، وقد أثقلها الحد- الاسم، فحاولت البحث عنه من خلال خفة ما هو طبيــــعي، أليست نسيمة مشتقة من النسيم، هي تقــــول ذلك في أحد المقاطع الشعرية، لكن يجب أن نتـــبنه إلى أن هذه الخفة منتجة أيضا من خــلال تكرار الفراشة، فهي دالة على التحرر من الجاذبية بوصفها ثقلا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى