قبل أن نسقط

الجسرة الثقافية الإلكترونية
المصدر: رأي اليوم
المعتصم خلف
من صور التاريخ العربي على الصعيد الأدبي القرار الذي صدر عام 1971 الذي منع الأدب (الانهزامي) أو الأدب (المظلم) , ولقد كان الخبر عبارة عن بطاقة نعوة واضحة باسم الأدب والأديب وجنازة لمصداقية النص وروحه الإبداعية , ولقد كان القرار دليلاً واضحاً على خلق دور جديد للأديب ونقله من مرحلة كتابة الكلام على سجيته إلى موظف, يُملى عليه كلامه الذي سيكتبه , في مرحلة كان يجب أن يكون الأديب سيد نفسه وسيد قراره.
أكبر المشكلات أو التساؤلات التي فرضها القرار هي صورة أن يكون هناك كاتب مهمته عكس الواقع والكتابة بطريقة تفاؤلية أو إيجابية , وفكرة أن يكون هناك آلية لفرز الأدب بين تفاؤلي وتشاؤمي أي سلبي وإيجابي كانت تثير سخط الأدباء والشعراء وكانت تقود ثورة فكرية ,وحتى عملية إطلاق النار على قصيدة أو كتاب يتكلم عن مأساة المواطن أو همه سببت أزمة مصداقية بين جميع الفئات الثقافية, وغير ذلك الكثير من الأحداث التي أنتجها فرمان يجعل من الأسود أبيضاً لا رمادياً بل أبيضاً تماماً.
ولكن قبل أن نسقط في تراجيديا التذكر التي أدمنّاها في هذه المرحلة , يجب أن نخوض حرباً أخيرة مع الذات والواقع , لكي تسلك هذه الروح طريقها الطبيعي , ولنتأكد من اكتمال التجربة , هذا الكلام معقد على صعيد اللغويات ولكنه واضح أمام تجليات الأنسان العربي ككل.
بعد ما يقارب الأربعين عاماًعلى نص قرار لهُ أبعاده السياسية واللغويةوالاجتماعية أيضاً التي تتجلى صورها بقول الكاتب مالايجب أن يقال في مرحلة يجب أن يكون صادقاً وبحيث يبتسم الناس بفرمان أو يتفاءلوا بقرار لأن الكاتب خضع لسلطة النص , وبهذه الصورةلم تكن الكلمات هيالدليل نحو ذات الكاتب بل بنود القرار دلتهُ نحو الكلمات, وأنا لن أذكر أسماء الشعراء ولا نصوصهم لأن ماكان كان وماحصل قد حصل , ولا بد أن نذكر أن البعض نام تحت الأرض في غرف التفتيش والبعض نام تحت العرش في ظل التمثيل الماهر أمام النص الشعري والنص النثري , ولكن الأهم أن الناس لم يبتسموا بنص قرار أو بفرمان.
واليوم وبعد ما يقارب الأربعين عام على نص القرار , ماذا بقي من أثره حتى اليوم هل تغيرت طريقة التفاعل مع التشاؤمية أم تقلص القرار أو تطور ,أظن أن تطبيق القانون تجاوز هذا النص بكل ذكاء , وأصبح تطبيقه ليس ضمنالطريقة التي كتبت بها , لا . بل بالطريقة التي يمكن أن ترضي بها الموظف النشيط .. نعم ذلك الموظف النشيط الذي يريد جملاً محددة ليوافق لكَ على عملك , ذلك النشيط الذي ظن أن غطاء القرار يجعله أقوى من الكاتب وأذكى منه , هذا الموظف المنتشر اليوم في كل أرجاء الوطن العربي من دول الخليج التي كفرت بعض الشعراء إلى الجزائر ومصر والبحرين , حتى كل البلدان لها ذات الموظف , الذي لا أعرف كيف يمكن أن أصف لكم حماسه ونشاطه في شطب الكلمات ورفض النص وتكفير الأدباء ومنع الجميع من النشر.
وأظن أن القانون خلع عباءته القديمة ولبس عباءة أخرى تتبدّل حسب تجديد النص وحسب طريقة طرح المفكر لفكرة الكتاب , ولقد تكاثر هذا القرار تكاثر بنهم وتكاثر بالفطرة اللفظية والحنكة اللغوية للكلمة , حتى أصبح جديراً بخطوط حمراء وجديراً بمنصب شرطي مرور, يسمح بالمسير ويمنع الانزلاق في هاوية التجديد , طالما هذه الهاوية لا تخدم خطوطه المحددة والمتطورة بفعل الزمن , فلا هاوية أقسى من إملاء ما يجب وتكرار ما يقال , ولا مرض أقوى من الخوف , ولاشخص يخاف مثل الكاتب الذي صرخ ليوقظ داخله الحبيس وليشعر بخطورة النص ولفظه العميق الذي لا يخدم التكرار بل يخدم الروح الحبيسة بين الأحمر والإنزلاق.