قراءة في بينما ارقد محتضرة للكاتب وليام فوكنر

الجسرة الثقافية الالكترونية

*ضحى عبد الرؤوف المل

المصدر /مدى


يتساءل المرء وهو يقرأ رواية “بينما أرقد محتضرة” التي ترجمها الى العربية”توفيق الأسدي”ما سر المرأة،  وكيف يمكن لها أن تكون مؤثرة في حياة عائلة بكاملها في حياتها وبعد موتها؟  ولماذا عليها الالتزام بالبقاء قرب زوجها واولادها حتى في مدفنها؟

 هل في هذا انتهاك لحقوقها في الحياة وبعد الموت؟ أم هذا يتبع خياراتها لكونها لب المجتمع والعائلة، ومحور التربية برمتها؟  فهل هذا يجبرها على الالتزام بقوانين اجتماعية لا علاقة لها بالمشاعر والاحاسيس؟ يبدو ان الروائي”وليام فوكنر”يمس جرح المجتمعات وتكويناتها من خلال ما طرحه من افكار واقعية يترجم من خلالها معاناة توحي بالتناقض والتضاد بين افراد عائلة ينتمون لام واب،  ولكنهم في الحقيقة! كل فرد منهم ينتمي لذاته ولقناعاته،  ولموروثاته الجينية الشبيهة بالأم او بالأب،  ولو بنسبة خفيفة زادت او خفّت من خلال السلوكيات التي نشأ عليها وتطورت تبعا للبيئة وللمحيط،  ولاضافات ايجابية او سلبية،  ولكن الاهم من هذا كله هو تلك الثرثرات الاجتماعية التي لا تنتهي حتى عند احتضار انسان يرغب في أن يدفن قرب عائلته وبين اهله.”حتى اذا ما رقدت احتضر واعية بواجبي وجزائي، ستحيط بي وجوه محبة وسأحمل قبلة الوداع من كل فرد من أحبائي وأضمها الى اجزائي. ليس كآدي بندرن التي تموت وحيدة، كاتمة كبرياءها وقلبها المسحوق.”فالمعاناة الانسانية التي يجسدها فوكنر ضمن مشهد الام المحتضرة،  واستعداد الابناء لتأمين نعشها بصنعه امام عينها  هو واقع حزين مرسوم بدقة روائية تثير المشاعر المتقدة من وصف يحمل تفاصيل نفسية لافراد متألمين من رحيل ام ارادت الابتعاد عن ارض لم تحمل لها الا الشقاء والتعاسة والالم. 
 كسب لثلاث دولارات يقلب الامور رأسا على عقب في رواية”بينما ارقد محتضرة”التي تحاكي بواقعيتها اوجاع فئة من الناس ما زلنا نراها في حياتنا اليومية،  فالمال هو رأس اولويات العائلات الفقيرة،  وحتى الناس الميسورة ماديا هو راس الهرم دون استثناء، ولكن لتقدير الامور ودراساتها ضعف عند من يحتاج هذا المبلغ الذي يريد به قضاء حاجة مهمة او تحصيله.  ليبعده عن العوز والحاجة، وايضا ليكمل الحياة من خلال منظاره هو،  وربما بأنانية لا نعرف باطنها،  فالظاهر منها هو السعي وراء ثلاث دولارات بينما الام تحتضر.  لاننا لا نستطيع معرفة ماهية الموت او كيف يأتي وما هي اسس بدايته ونهايته.”وربما لو لم يقرروا تحميل ذلك الحمل الأخير، لكانوا قد حملوها في العربة على لحاف وعبروا بها النهر اولا ثم توقفوا ومنحوها الوقت لتموت.” فميزة الانسان هي ما يحمله من مشاعر واحاسيس تخدم الانسانية برمتها وتساعد في بث السعادة والفرح للآخرين.
الارتباط العائلي ميزة فطرية ترتبط بالقدرة على العطاء الذي يتسع لخلق محبة دافئة لمن هم حولنا،  ويحتاجون لرعاية تليق بهم،  وبالاخص الام التي تمضي حياتها في العطاء،  فهل نبخل عليها عند ساعات رحيلها او قبل مغادرتها الدنيا حيث يسلط الروائي”وليم فوكنر” سيف واقعه الروائي على رقاب افراد اسرة حبك شخوصها بتشابك يؤدي الى خلق تحليلات موجعة احيانا، ومضحكة في مواقف لا بد وان يندهش منها القارئ عند فهم مضمونها وخلفياته الانسانية حيث أورد معالم العائلة بأسلوب التفافي.  لندرك كنه كل شخص من شخوصه الرئيسية،  وحتى الثانوية التي تحاور بعضها البعض، كما تحاور القارئ ايضا. مما يخلق تأثيرات تنطبع ذهنيا في النفس،  لينقش المشهد بديناميكية مبنية على رؤية حركية تكرّس في انعكاساتها رؤية الابعاد في مسار الشخوص وانفعالاتها واختلافاتها في تحديد النهاية.
ينتظر القارىء تطور الاحداث الساخنة،  وهي في تطورها المشهدي تساير الحس التصويري من خلال حبك اطراف المشاهد بعضها ببعض،  لتؤدي عرض معاناة تتراكم في الرواية، وتنتقل تصاعديا مع البداية التي رسم خطها”وليام فوكنر” بفنية  تقنية قادرة على تخطي الاسس التخيلية من خلال واقعها المرير واثاره السلبية على الانسان.اي تلك التي تترسخ في العمق الانساني النفسي،  فيصعب نسيانها  حتى ضمن الخطوط الروائية المؤثرة على القارئ بتفاصيلها العقلانية والعاطفية.”وقف هناك ونظر الى أمه المحتضرة، وقلبه متخم الى حد لم يعد معه للكلمات مكان.”
بؤس اجتماعي يصوره بواقع ذي دور فعال اصاب القيم الانسانية بوجع تسبب بالتعاطف الموصول مع العناصر الروائية برمتها حتى القارئ الذي تجلى ببصيرته متأملا الاحداث،  ومدى تأثيرها على الواقع المتخيل المنضبط روائيا ضمن العقدة والاحداث التصاعدية،  المكتفية بتجسيد المعاناة الانسانية  العاصفة بالانسان وبقيمه الكامنة في المغزى مع المناداة بحقوق المرأة المغلوب على امرها حتى في لحظات الموت ومراسيم الدفن المتقيدة اجتماعيا بحقوق الزوج وحقه في دفنها في مدفن عائلته”انها لحياة صعبة على النساء  وهذه حقيقة”فالبعد التصويري في رواية”بينما ارقد محتضرة”يبلغ أوجه في اكثر من لوحة انطباعية شاعرية يرسمها” وليم فوكنر” بالكلمات ليفوح من روايته جمالية مضحكة مبكية.  اذ تبدو بوصفها الدقيق ما هي الا”انعكاس لورقة ميته”كما وصفها وهو ينظر الى وجهها الهادىء القاسي وهو يتلاشى مع الغسق،  وكأن الظلمة نذير بالارض النهائية، حتى يبدو الوجه اخيرا وكأنه يطفو منفصلا فوقها” فيشعر القارئ بشحنات حزينة تسري حسيا من واقع ايقظ ملكات الانسان العاطفية،   ليدرك من خلال البعد التصويري لمشهد قاس برمته.  ان الانسان يسقط كما ورقة خريفية تنتظر انقلاب التربة عليها لتدفن حيث هي بين التراب. وربما في هذا نوع من لفت اهتمام القارئ الى ان الطبيعة ارحم على ذاتها من الانسان العاجز في تحقيق امنية موتاه.
 لغة تداعب العقل بمفاهيمها الحكيمة يفصلها” وليام فوكنر” عن فنه الروائي بحكمة كاتب،  يترك من المعاني ما هو كاللؤلؤ يضيء الذهن ويبث استنتاجات متعددة مثل قوله”لا بد من شخصين حتى يخلق المرء وشخص واحد حتى يموت. بهذه الطريقة سينتهي العالم.”وفي هذا تعبير لتأثيرات وجدانية تهدف الى اشارات تكمن في ما وراء المعنى المتذبذب بين العدم والوجود،  ليتلاعب بمستويات الحدث وهو الاحتضار منطلقا من شخصياته البسيطة التي ترى الموت امامها، بل وحتى صنع التابوت بهذه الطريقة المتوازية مع احتضار المرء الصامت تاركا للغة العيون ترجمة رحيله،  وكان الانسان لا يحتفى به حين مغادرته الدنيا،  وهو يرى تفاصيل جنازته قبل موته بهذه البساطة،  وهذا يؤلم الشخصيات التي تدور حول الام،  وهي مستعدة للقيام بكل مراسيمه ضمن تصورات النفس الانسانية المتألمة من الداخل،  والمقاومة لعناصر الحياة التي تضع الانسان بين مفهومي الموت والحياة.
لم ينس”وليام فوكنر”حتى رسم الظل في رواية تمنح المخيلة صورا مبنية وفق ابعاد مشهدية تصويرية،  كعين كاميرا في رأس قلم يكتب بفنية درامية وحسية عالية في تطلعاتها نحو الاحداث المؤثرة على اسرة تواجه ذاتها عبر مصير الام،  وفي عاصفة انسانية عصفت بهم قبل ان تعصف الطبيعة باهدافهم، وبارادة ام  تركت لهم امنيتها الكبرى بعد الموت، وهي  أن تدفن قرب اهلها،  وبعيدا عن مدفن زوجها وعائلته، فالصراع النفسي اكبر من صراعهم مع الحياة، والواقع المر الذي جعل من الاحياء صورة عن الاموات الذين تبدأ حياتهم الحقيقة عند نهاية هذه المعاناة في دنيا ضاقت اجتماعيا على الانسان.”يبدو كما الثور الصغير بعد أن تضربه المدقة وهو لم يعد حيا ولا يعرف بعد أنه ميت”فهل الاحياء الاموات هم علة الوجود برأي وليام فوكنر؟ ام هم من يعيشون في حضن واقع اجتماعي لا يرحم؟
” ستكون ومن ثم لا تكون”فلسفة الحياة والموت،  والعدم والوجود والواقع المفروض على الانسان المولود ضمن بيئة لما يختارها،  ولم يفكر حتى في رسم افاقها في مخيلته،   وهذه براءة يرويها على لسان شخوص تفكر بوجودها،   وبأسس التمايز بين انسان وانسان،   وهل هذا هو قانون الحياة؟ فالحوارات المتنوعة للشخصيات تتيح فهم الحالات النفسية التي تتخبط بها وضمن مشاهد لا تخلو من حوارات الطبيعة ايضا التي تستريح لها  النفس،  وبأنس يساعد في اطلاق شحنات الغضب والحزن وكانه برمز للشبه بين الطبيعة والانسان،  وضمن مفارقات يلتقطها الانسان بمواقفه وبتصوراته للحياة.  اذ يبدو” وليام فوكنر” قادرا على تصوير المعاني ضمن ابعاده الروائية، وبتجسيده لشخصيات مرهفة الحس مركزا على عنصر التأثير التصويري ومستوياته المؤدية الى خلق دلالات عابقة بالواقع،  ومن زوايا آحادية احيانا.  الا انها مترابطة متشابكة  وتدفع بالقارىء الا الاستمتاع اكثر كلما ادرك كنه كل شخصية ومعاناتها الخاصة…..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى