قراءة في رواية “حكاية بترا : ملحمة العرب الأنباط” للأديب هاشم غريبة / فدوى الوراق

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص- 

 

1- بترا والأنباط : 

ترجع أصول القبائل النبطية العربية الى شبه الجزيرة العربية ، وانتشرت من هناك شمالا الى جنوبي الأردن ، خلال القرن السادس قبل الميلاد …، استغل الأنباط الفراغ السياسي الناتج عن الصراع بين بطالمة مصر وسلوقيين سوريا ، فأعلنوا مملكتهم وتوجوا أول ملوكهم وهو : الملك الحارث الأول عام 186 (ق . م ) وأقاموا عاصمتهم رقمو ( وهي الرقيم بالعربية وبترا باليونانية ) …، عاشت بترا والأنباط الازدهار والمنعة والقوة إلى أن أخضع الإمبراطور الروماني ( تراجان ) المملكة النبطية لحكم الرومان عام 106م ، ولكن خضوع النبطيين لم يمنع حضارتهم من الاستمرار .  (1) 

 

الأجواء العامة للرواية : 

هي رواية عاد بنا مؤلفها لما قبل الميلاد ، وتحدث فيها عن حكاية بترا وساكنيها ، وكيف نحتوا الصخر وأبدعوا حضارة قوية مزدهرة هي حكاية الأنباط أو لنقل هي حكاية الإنسان في كل زمان ومكان .

 

الشخصيات :

1- ذو الشرى : 

ومعناه : سيد الجبال ، وهو كبير آلهة النبطيين ، وقد كان حجرا أسود وله كعبة ، يحج اليها الناس في الجزيرة العربية . (2) 

 

( نقش )

” ذو الشرى 

يا راعي النخل ، ومدر الضرع

يا دافق الماء من الفج العميق

ومرسل السحاب من الغيب السحيق

يا من يشبه كل شيء ، ولا يشبهه شيء .

ها نحن إخوان الإبل والنخل ،

قاهروا الحصى والصخر ،

أبناؤك وأبناء أبنائك ..

وبناتك وبنو بناتك ،

قد نزل بنا ما ترى …

فأشفق على الأنفس ،

وأذهبن عنا الجدب ،

وائتنا بالحيا والخصب ..

آمين ” .  ( 3 ) 

 

2- نبطو – بترا 

نزح الجميع  ، باستثنائهما ، عن جبال الشراة بسبب الجدب ، فقاوماه وآنشآ حيث تواجدا (سلع بترا ) وما لبث السلع وأن امتلأ بالكثير من الناس ، من الأنباط والقيدريين والآدوميين . ولتمجيد آلهتهم أقاموا معبدا يضم ذا الشرى واللات والعزى ، عنوانا لتحالفهم ورمزا لقوتهم . واختاروا بترا ( ربة لمعبدهم ) ، ونبطو ( أميرا عليهم ) .

 

3- فالق الحجر :

أحد أحفاد بترا ، لقبوه ( فالق الحجر ) لمهارته الفائقة في فلق الحجر وحفر الجبل ، وبناء المساكن في الصخر .

 

4- الأدومي وهج :

هو من اقترح إقامة المعبد  ، ولعب دورا بارزا وأساسيا في حماية الطريق من والى السلع . 

 

5- نباتيوس :

فلاح نابه ، يحمل ملامح القيداريين . وقد برع في استنبات البلسم الثمين فلقبوه ( نباتيوس ) .

 

6- نائلة بنت فينان الأدومية :

تنافس على حبها : سعدو بن فالق الحجر ، مع الأمير ربايل ، فما كان منها ( منعا للفتنة والاقتتال ) إلا أن وهبت نفسها خادمة لمعبد ذي الشرى .

 

7- الملك الحارث بن بليلا :

عين ملكا على الأنباط بعد انتصارهم على جيش السلوقيين الذي هاجم ( السلع ) بقيادة أثنيوس الأعور، وتم تعيينه حسب الهام الإله ذي الشرى ومباركة السماء .

 

8- الشخصيات المتبقية :

مثل عيسو ، سعدو ، شقيلات …، وغيرهم ، هي شخصيات لاتقل أهمية عن الشخصيات السابقة في إدارة الحدث ، وفي نماء الرواية ووضوحها .

 

الحكم على النص الروائي :

الأسلوب :

1- لقد تمكن المؤلف من ابتداع مشاهد مسرحية محكمة ضمن بناء روايته ( حكاية بترا ) . لقد مزج باقتدار بين المسرحي الروائي والحكائي .

اعتمد الكاتب على السرد الذي خالطته حوارات متناثرة هنا وهناك مما حمى السرد من الرتابة والإملال . جاءت الحوارات سلسة ، بسيطة تنساب بمنتهى التلقائية ، فكانت بعيدة عن الصنعة والتكلف والإقحام . أما السارد ، فقد كان اختيار المؤلف له احترافيا وموفقا . انه الإله ذو الشرى ، لقد تمكن هاشم غرايبة من توضيف ذي الشرى لمهمة السرد ببشرية خالطها جلال الإله فذو الشرى يتنحى عن إلوهيته ليستحيل حكاء لرواية المؤلف ،ولكنه يتسامق ليستحيل إلها في مواطن الإلوهية .

وتراه ، وقد استغرقته بشريته ، ليقول :

” أتمنى لو أني غائب ، لا شيء يؤلمني مثل حزن الذين يؤمنون بي . ”  ونراه في مكان آخر الها يخاطب الناس ببشرية عالية :

” ذو الشرى ينقل لكم البشرى ،

في قادم الأيام سيأتيكم ،

رجل مخلص …

ماجد ونقي ..

نصير المحزونين في كل أرض .

سيكون فوق الجميع ،

ويبني مجدا يذكره الناس أبدا … “

بالرغم من أن الكاتب لم يلجأ في سرد روايته ، إلى أصوات متعددة وإنما ألقى بالعبء كاملا على عاتق ذي الشرى ، الا أن السرد جاء ماتعا ، ومشوقا ، يأخذ المتلقي أخذا لمتابعة أحداث الرواية حتى نهايتها .

 

2- اللغة : 

استخدم المؤلف لغة راقية وطوعها بمفرداتها وتراكيبها النافذة والدقيقة ، لتنتج لنا مشاهد متكاملة ، غزيرة التنوع والتعدد ، ففي مشهد موت بترا ( بلدغ الثعبان ) وذلك عقب موت نبطو ، يحدث ذو الشرى :  ” …، تناولته بترا بحنان ، ودسته في صدرها . مد عنقه إلى جانب عنقها ، ولما وصل أسفل الحنك ، نهشها بقوة وتلوى ..، أنا ذو الشرى .. حزنت حزنا شديدا على فراقهما ، لكن معبدي علت درجاته ، واتسعت ردهاته ، والحجيج زاد عديدة ، وتغيرت طقوسه ، وآن لحجري أن يغير شكله .” 

 

لجأ المؤلف إلى استخدام مفرداته وتراكيبه اللغوية ، بكل تصريفاتها ، لتعبر عن تداخل زمن الرواية  ، ليتنقل بخفة مدهشة ، بين الماضي والحاضر والمستقبل ،  بل وتتجلى براعة المؤلف في أنه كثف هذا الزمن وقدمه لنا مضغوطا دون أن يشعرنا ، بأي ثقل أو وطأة . لقد استغل رحابة اللغة وفضاءها الشاسع مسرحا مناسبا لما أراد ، فكان أن عشنا في بترا ، وتنقلنا في جنباتها وداخل أسواقها ، أحببنا شخوصها ، وعاينا مجريات حياتهم بلهفة وترقب . لقد أحكم الكاتب مصيدته ، باستخدامه لغة آسرة ، منحته نفسها مختارة ، فأصبحت لا تدري : أي منكما رحل باتجاه الآخر : أنت أم حدث الرواية ؟ إنها موهبة الكاتب الفذة والمسيطرة .

 

3- المعنى والمضمون :

الإنسان هو مضمون الرواية ومعناها ، لذلك يجد المتلقي أن مضامين الرواية جاءت أصيلة ومتجددة متنامية . فهناك صلابة نبطو وبترا وهما يعبران عن قدرة الإنسان على البقاء والمقاومة أما فالق الحجر فهو يشير إلى الخلق والابتكار ، وأوجد المؤلف نائلة ( ربة المعبد المقدسة ) لتمثل بشرا يحاول تجاوز بشريته ليرتقي لمرتبة ملائكية مقدسة ، لا يستطيعها ، لتقر بذلك في النهاية للملك الحارث قائلة : ” أشعر أني مقيدة إلى صخرة ، أحسد زوابع الخريف على هيجانها الحر . ”  فربة الإله المباركة صاحبة الحكمة والسداد ، والمتمايزة عن البشر الفانين ، انتهى بها المطاف في نهاية الأمر للرغبة ، بل والحاجة إلى استعادة بشريتها التائقة إلى المودة والمساندة والحرية .

طرحت الرواية – أيضا – موضوعة الموت ، بامتدادات معانيه المختلفة . فهو بالنسبة لتكيلا مرعب ومخيف ، ولطالما استحضرته على هيئة وليدتها بترا المتيبسة بين يديها ، فتتأوه قائلة : ” ما أشد عذابك ، أيها القلب ! ” أما ( الربة المقدسة ) فقد كان الموت يحمل لها خلاصا من كل العذابات ، لذلك ، وبعد موت الملك الحارث  : “…، لبست نائلة أحلى الأثواب المقدسة وخرجت إلى حديقة المعبد .. يرافقها كل من في المعبد من سدنة وعذارى ، وخدم …، وصفرت نائلة لحنها الأخير :

” هيا أيتها النجوم ،

أسرجي جيادك الرشيقة ،

وفرقعي السوط فوق أعرافها الطائرة ..

فقد حان الرحيل ..” 

وماتت ، مختارة الموت ، كما اختارته جدتها بترا ، بلدغة من ثعبان أصفر . وكرر الإله : ” أنا ذو الشرى … حزنت حزنا شديدا ، وعرفت أن المعبد سيغير طقوسه ، وأن على حجري أن يغير شكله . “

أما في الحرب ، فان الموت يكون شرفا وعزة وفخرا ، كما حدث مع الأنباط حينما هاجمهم أثنيوس الأعور ( أحد قادة الاسكندر الكبير ) في عام 312 ق . م  ، ودحروه عند منطقة سلع الصخرة .  ( 4 )

مما سبق ، إن مضامين الرواية وأفكارها ، هي مما يلازم الإنسان في كل زمان ومكان ، وليس بالإمكان في أي حال من الأحوال  ، الحكم بصحتها أو بطلانها . لأن الرواية لا تحاول تعميم فكر أو نشره ، بقدر ما رمت إلى التوصيف والنقل وإعادة السرد . 

 

4- الخيال :

الشخصيات :

لقد بنى المؤلف على الأحداث والشخصيات الحقيقية ، أحداثا وشخصيات متخيلة . وبما يملكه من بصيرة نافذة ومهارة في الخلق فقد مكن شخصياته من اختراق حجب الزمن الحقيقي لروايته ، لتصل ويصل بنا إلى لحظتنا المعاشة  ، فيروون عنها . الشخصيات حية نابضة ، تتنقل في أرجاء الرواية ببساطة عجيبة وحميمية دافئة هي  عادية بشكل طبيعي ، فلا نشعر معها بأي نفرة أو نزق . بل إنها تعبر عن انضباطية وتمازج مع قدريتها التي لم تعفها ولم تحاول الانفكاك عنها . تتمتع بحضور مكثف وطاغ ، بشكل مدهش لدرجة أنك تشعر بأنها ستقفز عن أسوار الرواية ، لتحادثك وجها لوجه . لقد سمح المؤلف لشخصياته بإذابته ونفيه عن محيط الرواية ولكنه ظل كامنا فيها فانصاعت لما رسمه وقدره لها من أدوار .

أما الخيال فقد أضحى معادلا موضوعيا للحقيقة ، فهو لا يجافيها أو يتجاوزها ، وإنما يتحرك ضمنها ، بدون أي جموح أو اندفاع 

 

“…، ليلة اكتمال القمر ، ركع الحارث حزينا ، بين يدي الربة نائلة ….، قالت الربة ، والعبرة تخنقها : جن الناس من الجوع .

قال الملك :  أليس هذا جزاء من ينسى حق آلهته ؟

همست نائلة : لندع للسماء تدبيرها .. ونعطي للناس خبزهم .” 

 

هذا المشهد ، وبقية مشاهد الرواية المتخيلة ، تمكن الكاتب من نسجها مع الحقيقة ، بخيوط من ماء ، فأضحت والحقيقة روحا واحدة . بالإضافة لما سبق ، فقد خدم الخيال في الرواية مصداقية التاريخ ، وما كان ليتناقض معها ، ربما لأن شخصيات الكاتب عجزت عن التجاوز ، بمنع منه ، أو لأنه ، كما سبق وقيل ، رمى إلى الوصف وإعادة السرد ، ولم يرم الى النقض والتغيير . 

 

 

 

إن هذا الكاتب ، كاتب فعلا ، فقد اجتهد في الإعداد لروايته ، لمدة أربع سنوات من الاستقراء والبحث والدراسة .. انه جهد المجيد ، واحترام القارئ  . 

 

 

 

 

معلومات عن المؤلف : (5 )

 

الاسم : هاشم بديوي مصطفى غرايبة 

مكان الولادة : حوارة  /  اربد

تاريخ الولادة : 1953م

المؤهل العلمي : بكالوريوس مختبرات طبية  – صناعة أسنان

من جامعة بغداد .

                   بكالوريوس في الاقتصاد – جامعة اليرموك 

له الكثير من المؤلفات ، وكتب العديد من السيناريوهات وبرامج الإذاعة والتلفزة .  من أعماله :

عدوى الكلام  ( قصص )

المقامة الرملية  ( رواية ) ، بالإضافة للكثير من الأعمال . 

 

 

الهوامش :

1-  دائرة الآثار العامة .

2- ويكبيديا الموسوعة الحرة .

3- النقش  – حكاية بترا ( ص ) 5

4- أنتيجوس الأعور /  البترا – دائرة الآثار العامة  .

5- رابطة الكتاب الأردنيين .

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى