قراءة نقدية في ديوان نشيد الماء للشاعر عيسى ابو الراغب بقلم الدكتور انور غني الموسوي

الجسرة الثقافية الالكترونية
خاص ..
د أنور غني الموسوي
المقدمة
وظيفة النقد معاينة النص و بيان مواطن الإبداع فيه ، انه رسالة صادقة تحليلية للجمال الخارجي في العمل الفني و للاستجابة الجمالية الداخلية في نفس الإنسان . من المعروف أن الفنية عالية المستوى في أدب أديب معين تكون في الغالب بشكل تموجي ، بحيث تتباين النصوص من حيث المستوى الفني في مقاطعها ، و عادة ما تجد بعض مقاطع النص يحتفظ بالفنية المطلوبة متخليا عن المستوى العالي منها ، بمعنى أخر أن المقاطع عالية الفنية في النص تكون منثورة كالدر بين باقي المقاطع ، لكن في الحقيقة مقاطع نصوص ( تشيد الماء ) كلها تحافظ على مستواها العالي الفني ، فتجد النفس تنبهر و تنشد و تستمتع بكل مقطع كتب ، و مع أن ( نشيد الماء) كان فرصة شعرية لأجل عمل نقدي و تطوير فكرة الشعر، فانه تجربة ممتعة يشكر الكاتب عليها .
مواطن الإبداع في كل عمل فني يمكن أن ينظر إليها من جهات ثلاث ، الجهة الفنية ، الجهة الجمالية و الجهة الرسالية ، حسب منهجنا في تبين عناصر الإبداع اعتمادا على الاستقراء لما غلب على كلمات المختصين في الأبحاث النقدية ، و اعتماد مبدأ الشيوع أي شيوع ذلك العنصر المعين لدى النقاد ، المصدق بما لدى العرف من معارف و مرتكزات وما هو ظاهر للوجدان . هذه المنهجية و التشدد إنما كان لأجل تحصين المعرفة النقدية من التكلف و الوهم ، لان المعرفة النقدية معرفة حقائقية في عالم التذوق و الإمتاع ،و تستند في مظاهرها الخارجية إلى عوامل واقعية و حقيقية على التحليل النقدي تتبعها و الاسترشاد بضيائها لأجل الوصول إلى عوالم التفرد و الانجاز الاستثنائي للمبدع ، و انكشاف جوهر التجربة قيد الدرس . أن اعتماد قاعدة قوية من الأنظمة التحليلية النقدية مع جهات ثابتة و جوانب صلبة إنما هي الطريق لفتح أبواب النص المبحوث ، و اكتشاف عوالم الإبداع و الجمال فيه ، و تلمس التفرد الذي يشتمل عليه .
سيكون البحث في هذا المقال في أبحاث العناصر الفنية في ديوان نشيد الماء . و حسب الاستقراء و الشائع في الأبحاث و مراجعة العرف المصدق بالوجدان فعناصر الفنية ترجع إلى والأصالة المعاصرة وان لم يعبر عنهما بالصراحة إنما يمكن تلمسهما في مطاوي الأبحاث . و الأصالة الفنية تتجسد في العمق الفني أي المقدرة و الإتقان و تحقيق درجات عالية في الفنية ، أما المعاصرة فتتمثل بالابتكار و المواكبة و التفرد و الإقناع بالانسيابية و السلاسة و التشويق .
الموضع الأول : الأصالة الفنية
أولا : العمق الفني
الإثارة و الإبهار على طول خط القراءة أمر سائد في نصوص الديوان ، فلا تنفك من الخروج من إثارة و إبهار إلا وواجهك غيره ، ففي ( نحن لم نمت )( تعال نقيس المسافة بين الانحناءة ومدى تقوس الظهر فينا ونعيد ترتيب قوانين الرياضيات ها نحن لم نمت كما قالوا / كنا فقط في نومه هانئة وحلم قلق . ) و في (الشتاء )(ورغم حبي لحبات المطر إلا أننا نتشاجر مرة ادفعها بعيدا خوفا من الغرق ومرة اجذبها ابلل روحي العطشى واراقصها في الشوارع العارية من المارة) و في (
و هكذا جميع مقاطع النصوص تكون شواهد لذلك . و في ( ظلي و البلاد )( ما زلت أزاحم طريقي للعبور إلى الموت /واضرب أضلاعي بجنون ما ألقته الأيام القاسية /هذه فتنة أرختها الأيام على جسدي) و في النشيد الأول من نشيد الماء (ارتعاش القرنفل في الماء أي لون للماء بعد الذي يسيل جداول تتغنج مع الريح ولا ترحل إلا عميقا).
و أما المجاز و التوهج و الصور ، فلا تكاد تترك مساحة أو نفسا للأفكار و التوصيل ، فأما المجازية فمن أول كلمة حتى أخر سطر ، تدفق هائل و نادر من الانزياح و التعبير المشع و الصور الموازية المفعمة بالبوح بلغة ثانية و تعبير أخر ، ففي نحن لم نمت (اذكر / انه حينما التقينا في منتصف المسافة الفاصلة بين نبض قلبي وبين رعشة الأرض الحزينة طلبت منك أن تعتلي سقف الروح والسماء ) و في نهايتها في نهاية النشيد الحادي عشر من نشيد الماء (واسقيني شهقتك التالية عرفت الآن من نكون أنا النبي وأنت المرسلة تعالي نقرا صحائف التكوين من جديد ) و في النشيد الثاني (لا أراك إلا قتيلا يدخل جنة خالدة أيها الموت القليل انتظرني أعيد إلى وجهي ملامحه الهاربة ) أنها نصوص عالية الفنية بكل معنى الكلمة .
ثانيا : الإتقان
المجاز العالي و التوهج الشديد و التصوير البديع من سمات هذه النصوص ، ففي ( نحن لمن نمت )( اذكر / انه حينما التقينا في منتصف المسافة الفاصلة بين نبض قلبي وبين رعشة الأرض الحزينة طلبت منك أن تعتلي سقف الروح والسماء / أن نشيح بوجهنا عن كل الخداع الكوني ) انه المجاز العالي و التوهج الشديد و التصوير البديع بحق . و في (صلاة العاشقين )( كنت كلما دق باب الليل وتعالت أصوات شواء الكستناء راقصتني مبتهجة وأعادت لي ذاكرة ووصايا الليل وتساقط شالها الأسود عن كتفيها داعية جنوني أن أقشر كتف الغرام ) و في النشيد الحادي عشر (رسمت علي الغيمة شفتي فنزل المطر قبلاً حارقة وقلت التقطها واحدة واحدة كي تغني العصافير الربيع ويستريح الصمت في عينيك بحنان غريب ويكتب لغة عصرية جديدة وتكبر الحكايات بنا ) هنا المجازية و التوهجية و التصويرية في أعلى مستوياتها ، و على هذا المنوال باقي نصوص الديوان .
الموضع الثاني : المعاصرة
أولا : الابتكار الفني
في ( لم نمت بعد ) تتجسد المواكبة في (اذكر / انه حينما التقينا في منتصف المسافة الفاصلة بين نبض قلبي وبين رعشة الأرض الحزينة طلبت منك أن تعتلي سقف الروح والسماء / أن نشيح بوجهنا عن كل الخداع الكوني /فهذا النفاق قد استيقظ من نومه ) بالتحرر من الزمان و المكان ،و الاتجاه نحو الكونية و اللامحدودية . و في النشيد الثاني (اعرف من تكون قالت له
وكلماتنا في المجاز والتشبيه والاستعارة اعرف عندما تولد منك العبارة
قال لها ومن أكون؟؟؟غير فلاح فقير يحرث الأرض إعارة ) بالاتجاه نحو الحوار و الحكاية ، انه الشعر الحواري الحكائي .
ما يتفرد به نشيد الماء أو شعر عيسى أبو راغب عموما هو الاعتماد على قوة الفكرة و التعبير ، فتاتي العبارة عميقة جدا من الوهلة الأولى تخترق العمق مع الاحتفاظ بفنيتها العالية ، أن هذا التزاوج بين فكرة عميقة و لغة عالية يعطي للكتابة نكهة مميزة ،و تكون منتمية إلى اللغة القوية المؤثرة في النفس مع المحافظة إلى الفنية العالية ، و كل النصوص شواهد على ذلك و منها النشيد السادس ( ففي في تلك اللحظة تماماً لاشيء ما يشبه رفرفة الحمام يتلف الوقت وفي تلك الفحة الحارة التي تخترق الروح الجس أنت…..أنت………………تقرر لحظة ميلادي في الشبق وأنت تقرر نوع القبل ولي أن اعلق بعشبك كالورد ة ولي أن أموت واحيا ستكون في كامل عريك جميلاً) و في النشيد الحادي عشر (أنا عيسى المصلوب بين القبلتين هنا أزهرت بتلات من دمي وهناك زيتون يقرأني السلام هنا أرى بحري قريب وهناك بحر في القصيدة من هوانا )
ثانيا : الإقناع
اللغة الشعرية الحكائية المقومة لقصيدة النثر بصورته الحقيقة تخلق شدا و تشويقا و انسيابية و وحدة ظاهرة وهو أمر اتسمت به نصوص نشيد الماء ، فمنها مثلا ما في (الشتاء)( كلما أتى الشتاء ركضت إلى أمي سريعاَ لتصنع لي جوارب من صوف ثخين إني أخاف البرد ….ورغم حبي لحبات المطر إلا أننا نتشاجر مرة ادفعها بعيدا خوفا من الغرق ومرة اجذبها ابلل روحي العطشى واراقصها في الشوارع العارية من المارة ) و في رسائل لا تموت (إلى أبي الذي يتنفس أخر أنفاس الحياة ما زلت أنا يا أبي ذاك الطفل الذي يحمل صدى الوطن وغيم السماء بكفي …سلام لك ) و ذروة التشويق و الشد في ( نحن لم نمت )( اذكر / انه حينما التقينا في منتصف المسافة الفاصلة بين نبض قلبي وبين رعشة الأرض الحزينة طلبت منك أن تعتلي سقف الروح والسماء / أن نشيح بوجهنا عن كل الخداع الكوني /فهذا النفاق قد استيقظ من نومه ) .
إن نصوص نشيد الماء تقدم لنا نموذجا عالي المستوى في قصيدة النثر ، و يشير إلى بلوغ قصيدة النثر العربية مستويات عالية و أنها تختط لها تأريخا مشرقا . أن تكامل الفنية و الثراء الذي اشتملت عليه نصوص ديوان نشيد الماء يمكننا من القول أنها تحتل مكانة مرموقة في الكتابات العربية الإبداعية المعاصرة .