قراءة نقدية للمشروع الفكري لـالجابري

الجسرة الثقافية الالكتروينة-الراية-

 هذا كتاب جديد صادر في الدار البيضاء بالمغرب لأكاديمي مغربي يعمل أستاذًا للتواصل والبلاغة وتحليل الخطاب بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس هو الدكتور إدريس جبري، الذي يعمل بالإضافة إلى ذلك مديرًا لمجلة البلاغة وتحليل الخطاب التي تصدر بمدينة بني ملال بالمغرب. ويتناول كتابه وهو في الأساس أطروحة دكتوراه نوقشت في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، الخطاب الفلسفي لمحمد عابد الجابري “في شموليته ونسقيته، وعلى أساس رؤية تكاملية وتفاعلية”. والمعروف أن الجابري، صاحب “نقد العقل العربي”، بنى مشروعًا فكريًا شامخًا غطّى مجالات غير فلسفية، وأنشأ إمبراطورية معرفية ممتدة تعايش فيها النحو والفقه واللغة والبلاغة والكلام والسحر والتصوف والفلسفة مع الجبر والبصريات، وتجاور فيها الفلك والطبيعيات والحكاية والخطابة والأخلاق والسياسة وغيرها من ثمرات العقل العربي الذي اشتغل عليه الجابري وحلل أسسه المعرفية، وفحص آليات اشتغاله، ونقد مسلماته ونتائجه، من أجل غاية واحدة تتلخص في مطلب الخروج من التخلف والتبعية، بتهيئة التربة الملائمة لاستقبال قيم الحداثة والتحديث دون استلاب ولا قوقعة.

 

يوجّه إدريس جبري كتابه لكل قارئ يطلب الحداثة بصرف النظر عن موقعه المعرفي أو السياسي أو الثقافي أو الأيديولوجي، باعتبارها كلمة السرّ الوحيدة لولوج الخطاب الفلسفيّ للجابري ودخول إمبراطوريته المعرفية والتنقل فيها، شريطة التسلح بالعقلانية النقدية، وتنسيب جموحها، والمطالبة المتواصلة بالديمقراطية كأسلوب في الحياة والعمل بالاجتهاد المواكب للحياة المعاصرة وتطورها المراعي للمصلحة العامة، وكل ذلك تحت أنظار البلاغة وتحليل الخطاب، أي من خلال رؤية مختلفة.

 

يقول الباحث إن خطاب الجابري تعرض إلى مساءلات نقدية قوية، وصار موضوعًا أثيرًا لكثير من النقاد والدارسين على اختلاف اهتماماتهم وانتماءاتهم الفكرية والمذهبية غير أن هذه المساءلات وبعضًا من تلك الدراسات والنقد لم ترق، بنظره، إلى مستوى ممارسة النقد البناء، والتقيد بالتحليل الموضوعي لذلك الخطاب في نسقيته كما تقتضيه شروط البحث العلمي، وترتضيه قواعده الأخلاقية، إذ انزلق بعضها إلى درك بلغ حد القذف والعسف والهدم، وبلغ بعضها الآخر مبلغ التكفير الصراح أحيانًا، والمبطن أحيانًا أخرى، مما يندرج، بلغة البلاغيين في دائرة العنف بآلياته المختلفة.

 

يهدف كتاب الباحث إدريس جبري إلى غرض محدد هو إنجاز قراءة نقدية شمولية ونسقية لخطاب محمد عابد الجابري، قراءة تنطلق بالأساس من نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة: كان أولها كتاب “تكوين العقل العربي” (١٩٨٢)، وثانيها كتاب “بنية العقل العربي” (١٩٨٦)، وثالثها كتاب “العقل السياسي العربي (١٩٩٠)، ثم آخرها كتاب “العقل الأخلاقي العربي” (٢٠٠١)، وهي الكتب التي تشكل نواة الخطاب الفكري الفلسفي للجابري ومداره.

 

وتمتدّ دراسة الباحث لباقي المؤلفات الشارحة للخطاب، والمعمقة لسؤال الحداثة فيه باعتبارها -أي الحداثة- مركز الخطاب ونواته الصلبة، والسؤال الناظم له، من مدخل تحليل الخطاب ورصد مكوناته وآليات اشتغاله ومن منظور حجاجي باعتباره عمود البلاغة ومدلولها عند ابن رشد.

 

والواقع أن الخطاب الفلسفي لمحمد عابد الجابري هو واحد من الخطابات الفلسفية والفكرية العربية المعاصرة التي عرفت اهتمامًا منقطع النظير ليس فقط بحكم الرواج الذي عرفه في الوطن العربي والإقبال الواسع الذي لقيه من قاعدة عريضة من القرّاء، بل وكذلك بحكم فائض الكتب والأطروحات والمقالات والدراسات المنجزة حول هذا الخطاب الفكري الضخم، إلى درجة تجعل رصدها واستقصاءها عملاً يستحق وحده تأليف كتب عديدة في هذا المجال. على أن مختلف الدراسات التي تناولت هذا الخطاب لا ترقى إلى مستوى المقاربة الشمولية والنسقية التي تتطلبها طبيعة الخطاب ومراميه، ولا تسمو عن كثير من الاعتبارات التي لا تمتّ للبحث العلمي وقواعده الأخلاقية بصلة.

 

يعرض الباحث لبعض الدراسات التي تناولت الجابري قبله ومنها دراسات جورج طرابيشي وهي عبارة عن ثلاثة كتب ضخمة أدرجها ضمن ما أطلق عليه “نقد العقل العربي” إلا أن هذا الاهتمام من طرابيشي لم يكن يسيّره، برأي الباحث، في اتجاه ممارسة النقد، أو نقد النقد لما كتبه الجابري عن العقل العربي، ولا كان ينتقد من أجل البناء وإعادة التصحيح، وإنما اختار طرابيشي وجهة أخرى لها صلة وثيقة “بتصيد” الهفوات، ورصد الكبوات بزائد من الاستطرادات وكثير من التفاصيل التي لا تصبّ في قرار الخطاب ومداره. كان هدف طرابيشي من كل ذلك، هو تحطيم أسس الخطاب ونسف مرتكزاته وتسفيه صاحبه “وهذا ما لا يتماشى وشعار (نقد النقد) الذي رفعه طرابيشي، علمًا بأن النقد أو نقد النقد مما لا يدخل في دائرة تصيد الهفوات، أو تصفية الحسابات، أو فرض وجهة نظر تروم تقويض المسلمات ولو على حساب البحث العلمي وقواعد الحوار البناء، بمقدار ما هو مساءلة الخطاب وخلق إمكانات جديدة للتفكير في قضاياه وإشكالاته ولو من موقع الاختلاف”.

 

وبنظر الباحث أيضًا، انزلق باحث سوري آخر هو الطيب تيزيني في كتابه “في السجال الفكري الراهن” من مجال النقد والمساءلة لخطاب الجابري إلى مجال خطاب “الهجاء” و”التحامل” والمزايدات التي تلحق الجابري بالمستشرقين.

 

وإذا ما انتقلنا إلى نوع آخر من القراءات التي تمّت خارج التخصص الفلسفي المباشر، وجدنا الباحث المغربي محمد مفتاح يقف في كتابه “النص : من القراءة إلى التنظير” عند مفهوم القطيعة الابيستيمولوجية، كما استعمله الجابري في الثقافة العربية، فيعتبره استعمالاً اختزاليًا ومبالغًا فيه، بل وفوق ذلك مغلوطًا ومشوهًا، أما عبدالرحيم وهابي وفي سياق نقده لتصور الجابري لمفهوم العقل العربي، فقد انزلق مع مواقف طرابيشي وانساق وراءه لما بدأ يحاجج بالقول بأن العقل الحديث لم يعد يقوم على السببية والحتمية بل أصبح مطالبًا بتعقل الجنون ومنطق الكارثة ولغة الكون الهذائية.

 

وفي مقابل الدراسات السابقة، ثمة أبحاث هي أكثر ميلاً إلى تأسيس حوار نقدي رزين يسمح بالتواصل ويساهم في خلق رهانات جديدة وواعدة للقراءة والمساءلة وتحريك السؤال . وأحسن دليل على ذلك ما أنجزه علي حرب في كتابه “نقد النص” وكذا في مناقشات كل من محمود أمين العالم ومحيي الدين صبحي ومحمد وقيدي وسعيد بنسعيد العلوي ونور الدين آفايه. ولعل كتاب كمال عبداللطيف “نقد العقل أم عقل التوافق – قراءة في أعمال الجابري”، يعتبر بنظر الباحث أشمل وأوفى ما كتب عن الخطاب الفلسفي عند الجابري، ليس فقط لأنه تناول أغلب الكتب التي تشكل خطاب الرجل ومارس عملية المقارنة والموازنة بين أهم متاخميه الثقافيين، وبخاصة عبدالله العروي ومحمد أركون، وإنما لكونه قد وضع اليد على السؤال المركزي للخطاب والمتمثل في سؤال الحداثة، وتمثل أبعاده ومقاصده.

 

يمكن حصر موضوع كتاب إدريس جبري في سؤال واحد هو سؤال الحداثة باعتباره مركز الخطاب الفلسفي لمحمد عابد الجابري ونواته الصلبة. إنه كلمة السر لولوج عوالم الخطاب الفلسفي عند الجابري والتجوال في إمبراطوريته العلمية الممتدة. وما دام الأمر كذلك فعن أي حداثة يتحدث الجابري؟ وما هي طبيعتها وخصوصياتها؟ وهل يمكن لنقد التراث، وتبني قيم العقلانية والديمقراطية عنده أن تكون المدخل المناسب لتحقيق الحداثة، أم أن الأمر يقتضي احترازات منهجية قصد إحكام حلقات الخطاب المنجز وتخليصه من بعض التعميمات المخلة الطارئة عليه؟

 

يستعين الباحث وهو يرصد سؤال الحداثة في الخطاب الفلسفي للجابري بعتاد مفاهيمي متنوع ينتمي إلى النقد البنيوي والأيديولوجي والتاريخي والإبيستمولوجي والى حقل السيميائيات الثقافية، ثم إلى مجال اللغة والشريعة وأصول الفقه والمنطق ونظرية الحجاج، علاوة على مفاهيم تجد مرجعياتها في النقد الثقافي ونظرية التلقي.

 

يعتبر الجابري مطلب الحداثة مطلبًا ملحًا بل ومصيريًا بالنسبة للوجود العربي ذاته، لكنه يشترط فيها – أي في الحداثة – ألا تكون بالشرقية ولا بالغربية، وإنما أن تكون حداثه عربية تنطلق من داخل التراث العربي نفسه لا من خارجه ولا بمحاذاة له، مادامت عملية “استيراد” الحداثة باعتبارها منظومة من القيم المعرفية والأخلاقية مما يدخل في دائرة المستحيل، لأنه في هذه الحالة لا نبني حداثة وإنما نستهلكها والفرق بينهما مما لا يحتاج إلى بيان أو تفصيل.

 

من هذا المنظور لا يمكن عزل مفهوم التراث عن الحداثة في الخطاب الفلسفي للجابري، حيث يمثلان “وجهان لعملة واحدة” إيمانًا منه بأن الحداثة لا تعني “رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي، بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسمّيه “بالمعاصرة”، أي مواكبة التقدّم الحاصل على الصعيد العالمي”.

 

وإذا تقرّر هذا اتضح أن القول بالقطيعة مع التراث وطي صفحاته أمر لا يستقيم في تصور الجابري، مما يستوجب بالضرورة العودة إليه والاهتمام به ولكن من زاوية الانتظام النقدي معه مما يجعلنا نستوعبه ونحتويه وفي نفس الوقت نستوعب قيم الحداثة الكونية ونحتويها من أجل “حداثة عربية” بحقّ.

 

يقول الجابري بهذا الصدد : “يبدو أنه لا يمكن للعرب أن يحلوا مشاكل المستقبل إلا إذا حلوا المشاكل التي أورثهم إياها الماضي : إلا إذا أحصوا وحاصروا رواسبه في الحاضر. إن ثقل الماضي وهيمنته على الوعي العربي الحديث والمعاصر معطى واقعي لابد من الاعتراف به قصد السيطرة عليه. ولا أظن أن هناك من يستطيع أن يجادل في أن الماضي يشكل الوعي العربي الراهن عنصرًا محوريًا في أشكاليته ومن السذاجة إغفاله أو الطموح إلى تحقيق الحداثة بالقفز عليه. يجب إزالة الضباب عن رؤيتنا للماضي كي نستطيع التخطيط لثقافة المستقبل بوعي صحيح غير شقي”.

 

وبناء عليه، يمكن القول بأن إرساء قواعد الحداثة وتبني مكتسباتها وبسمات عربية، لا يتحققان “بطي الصفح” كما يقول بذلك “الأصوليون الحداثيون” وإنما بالانتظام في هذا التراث والتصالح معه بروح تاريخية ونقدية وعقلانية حتى يتم “التجديد من الداخل” وليس من الخارج . لذلك وجب الارتفاع إلى مستوى تمثل قيم الحداثة على مختلف الأصعدة لإعادة بناء الذات انطلاقًا من إعادة بناء التراث نفسه، بناء يحصن الذات من الاختراق ويحميمها من الانغلاق.

 

وفي سياق ردّه على أدعياء طي صفحات “كتاب التراث” وعلى رأسهم عبدالله العروي، ودون أن يذكره بالاسم، يقول الجابري:”عندما نطوي الصفحة نحتفظ بالكتاب وفيه الصفحة المطوية يمكن أن نفتحها أو يفتحها غيرنا. ولذلك فالمسألة هي مسألة تطور بطبيعة الحال، هناك قفزات أو يمكن أن تكون قفزات. وجهة نظري تتلخص في أن هناك هوة لا يمكن أن تردم إلا بجسور نبنيها من داخلنا طبعًا بأدوات جديدة وبتفتح على كل ما يمكن أن يساعدنا. ولذلك فـ”الصفحات المطوية” ستبقى في الكتاب ويجب أن تبقى لتفتح من جديد، ولنصحح قراءتنا لها من جديد. والعملية يجب أن تتمّ هكذا”.

 

ولا شكّ أن المشروع العلمي الضخم للجابري برمته يدخل في إطار قراءة نسقية ونقدية وعقلانية لهذه الصفحات المطوية من “كتاب التراث” وباعتماد رؤية عصرية ومناهج معاصرة كانت حصيلتها أربعة أجزاء ضخمة في نقد العقل العربي، بالإضافة إلى الكتب الموازية للمشروع والشارحة له والمعمقة لقضاياه وإشكالاته.

 

يجب التمييز في أعمال الجابري بين ما يدخل في صلب المشروع الفكري الذي شيده ويتحدد في نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة وقاعدته يشكلها كتاب “العصبية والدولة”، فيما يمكن أن يعتبر كتاب “نحن والتراث” توسيعًا للقاعدة.

 

أما كتاب “الخطاب العربي المعاصر” فمدخل تمهيدي لولوج صلب المشروع، أما باقي الكتب وهي كثيرة فيمكن إدراجها ضمن الكتب الموازية للمشروع الشارحة له والمعمقة لقضاياه وإشكالاته، وعادة ما تتناول هذه الأعمال بعض القضايا المعاصرة بالتحليل والنقد وقد تقتصر على نقد التراث ولكن كل ذلك وفق التصور العام الذي يحكم المشروع ومن هذه الكتب :”وجهة نظر”، “التراث والحداثة”، “المسألة الثقافية”، و”المثقفون في الحضارة العربية”، و”فهم القرآن الحكيم” بأجزائه الثلاثة، وسواها من الكتب.

 

وقد ظلّ الجابري ملتزمًا بهذا المسار في تشييد خطابه العلمي منذ أن وضع لبنته الأولى كبوادر أولية في كتابه “العصبية والدولة” سنة ١٩٧١، وبالتحديد لما صاغ تساؤله الإشكالي قائلاً :”هل هناك انقطاع حقًا بين تاريخ ابن خلدون وعهد ما بعد ابن خلدون. ألا نجد في تحليلات ابن خلدون ما يلقي بعض الأضواء على جوانب من تاريخنا الحديث وواقعنا الراهن؟ ألا نجد ملامح هذا التناقض المزمن في حياتنا الجارية الآن؟… إلى آخر لبنة فكرية منه في كتابه “العقل الأخلاقي العربي” سنة ٢٠٠١ لما قال، رابطًا اللاحق بالسابق :”إننا سنبقى نتحرك داخل تراثنا بوصفه تراثًا. وأعتقد أن شيئًا من النفي أو الغربة لن يترتب على ذلك، فالتراث العربي الإسلامي يغلفنا تغليفًا قويًا. وإذا ادعى أحد منا أنه مستغنٍ عن هذا الغلاف متحرر منه فليعترف أنه مسكون بهُوية أخرى غير الهُوية العربية الإسلامية. أما أن يكون غلافنا العربي الإسلامي لباسًا قابلاً للتجديد، ليغدو مناسبًا لروح العصر وتحدياته ومتطلبات التقدم فيه، أو أنه قوقعة تكيّف الجسد بدل أن يكيّفها الجسد فتلك مسألة أخرى. ومع ذلك فنحن لا نخفي أن مشروع “نقد العقل العربي” بأجزائه الأربعة محاولة لتحويل القوقعة إلى لباس لنا”.

 

ومن تلك اللبنتين أرسى الجابري خطابًا فلسفيًا ضخمًا يحكمه همّ واحد ووحيد هو سؤال الحداثة الذي يعتبر سؤالاً متعدد الأبعاد، سؤالاً موجهًا إلى التراث بجميع مجالاته وسؤالاً موجهًا إلى الحداثة نفسها بكل معطياتها وطموحاتها، إنه سؤال متجدد بتجدد الحياة.

 

كل هذا يفسر ذلك التلازم العضوي بين التراث والحداثة عند الجابري إلى درجة لا يمكن الفصل بينهما البتة أو استبدال الواحد منهما بالآخر. فهما من هذه الناحية يشكلان وجهين لعملة واحدة، يستعصي فصل أحدهما عن الآخر. فلا وجود لحداثة خارج التراث، ولا معنى لتراث دون حداثة وتحديث، حتى كانت الغاية من تفاعلهما هو تحقيق حداثة قومية تضمن هُويتنا العربية الإسلامية في حركيتها وتصون روح عصرنا لننتمي إليه في ثقة واطمئنان.

 

وهكذا فإن أدعياء الانقطاع عن التراث وطي صفحاته، بذرائع من قبيل اجتثاث الفكر السلفي باعتباره “وجهًا من وجوه التراث”، وصنيعة من صنائعه المعيقة للفكر الحداثي، عندما يصدرون عن مثل هذه المسلمات إنما يصدرون عن مسلمات غير مبرهن عليها، وعن مجرد رغبة توقظ النائمين الذين لم يستسلموا للنوم بعد، وتحشد هممهم لمقاومة ما يدعونه بالاغتراب والتغريب والاستلاب، فيتقوقعون داخل مرجعيتهم التراثية، مكتفين بما توفره لهم من أجوبة، وما تقدّمه لهم من صور نموذجية يعملون على اقتفائها والتطابق معها والعمل على تجسيدها في الحاضر وتمديدها إلى المستقبل صدًا على كل ما يمكن أن يأتي من الآخر – الغرب باعتباره خصمًا تاريخيًا، حتى لو كان خيرًا متناسين بأن الحداثة اليوم في العلم كما في الأدب والتاريخ والمناهج والاجتماع والاقتصاد إلى آخره، لا وطن لها، أو على الأقل لم تعد محصورة ولا قابلة للحصر في رقعة من الأرض دون أخرى. الحداثة اليوم حداثة غازية كاسحة إن لم تأخذ بها أخذتك، وإن لم تعمل جاهدًا من أجل المساهمة في صنعها، أو على الأقل من أجل تبيئتها في واقعك وخصوصيتك، جرفتك واقتلعتك من جذورك، أو هشمتك وألقت بك جانبًا، خارج الحاضر والمستقبل، تجترّ الماضي، بل يجترّ الماضي نفسه فيك”.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى