«قرطبة وصالون نون والفرق الشبابية».. غزة خارج الحصار

الجسرة الثقافية الالكترونية
نسمة الحلبي
«جملة من التناقضات في الآراء والأذواق، لكنها توليفة جميلة من الشباب الواعد الذي يحاول أن يلتقي الآخر، لا ينفيه ولا يمقته ولا يعاديه، يسعى لتحسين الحالة المزاجية بالإنصات إلى النصوص النثرية والثورة الشعرية، المصحوبة بأنغام العود والكمان، واحتساء القهوة وشاي بعبق النعناع». هكذا يصف الإعلامي الشاب فادي الحسني (31 عاماً)، ما يدور في أروقة «مقهى قرطبة» ذلك المكان الذي يحتضنه وعدداً من رفاقه الساعين إلى تشكيل حالة فكرية ثقافية قادرة على خلق نموذج جديد في غزة، بعيداً عن الحصار الإسرائيلي ومرأى الانقسام السياسي الداخلي.
يقول الحسني: «لدينا أكثر من درويش وكنفاني، أمهاتنا لا تزال تنجب المبدعين ولنا في أطفال «تخت شرقي» نموذج وفي محمد عساف ومحمد الديري، وغيرهم الكثير. نحاول أن نعيد الدور الحقيقي للشباب الذي نأى بنفسه عن الساحة فترة طويلة، تاركاً إيّاها لمدّعي الوطنية، ما أنتج مجتمعاً منطوياً على نفسه.. جئنا لنخلق حالة فكرية جديدة تقوم على محاصرة اليأس والفقر والبطالة والتشرذم».
من هنا، يبدو المشهد الثقافي في غزة، وبرغم كلّ شيء، مليئاً بالمبدعين بشتى المجالات الكتابية والسمعية والبصرية. لكن ما ينقصها، منصّة تُقدم هؤلاء المبدعين إلى المجتمع والعالم بطريقة تسمح لهم بالاندماج والإيمان بما يقدمون. لهذا انطلقت فكرة «حراك شبابي» يسعى لإبراز «مشهد ثقافي إنساني حالم»، أصدر «مجلة 28 الأدبية» لتضمهم ولينجح القائمون عليها بإصدار6 أعداد منذ انطلاقتها في سبتمبر (أيلول) العام 2013، إلى الآن.
يرى المدير التنفيذي للمجلة محمود الشاعر (25 عاماً): أننا «نقاوم الاحتلال والحصار بكل ما فينا من ألم وأمل، وربما نصاب بحالة من الإحباط القاتل في بعض الأحيان لعدم وجود أفق لتكوين حالة إبداعية في ظلّ الحصار الذي يمارسه الاحتلال، ولكن لا نُجيد الجلوس في البيوت خلف شاشة كمبيوتر نشاهد العالم وهو يتقدم، هذا وحده يستفزنا كي نخرج للشارع من جديد في محاولة لخلق أي فرصة لصنع شيء نقدّمه للعالم من غزة».
يذكر الشاعر أن المجلة وبعد إصدارها توقفت حوالي 4 أشهر حتى تمّت الموافقة على ترخيص شركة إنتاج إعلامي تصدر عنها المجلة، ولم تكن تلك العقبة الوحيدة، إذ واجهت فريق المجلة العديد من العوقات، أولها «عدم وجود استقرار اقتصادي»، يسمح لهم بالاعتماد على السوق الفلسطيني في تغطية تكاليف الطباعة وليس انتهاءً بالرقابة على المواد والشكل البصري للمجلة قبل الطباعة وبعدها من الجهات المختصة في المكتب الإعلامي الحكومي.
خارج الحصار
يحلل الكاتب يسري الغول (35 عاماً)، صاحب فكرة «قرطبة»، المشهد واصفاً المثقف الذي كان بمثابة الناظم للمشهد الثقافي في غزة، بأنه اليوم عبد وتابع للساسة والراتب، وقد أضحت الثقافة أشكالاً مُلونة ومُؤطرة ومُودلجة، تصبغها الحزبية، وتنأى عن تقبّل الرأي الآخر، وكثيراً ما تصطدم بأجندات الممولين وأصحاب القرار، وهذا الواقع يحتاج لحاضنة حقيقية بعيداً عن أي أيديولوجيا لدى اليمين أو اليسار، من خلالها تبرز محاولات تغيير المشهد وجعله جامعاً للكل الفلسطيني، ويضيف: «نحن 25 عضواً شعارنا الإنسانية، لسنا تابعين لفصيل، يوجهنا الحب والتسامح على طريق بناء الإنسان المثقف الواعي والتحديات أمامنا كبيرة».
وبالنظر إلى محاولات الحراك الشبابي لاجتياز الحصار يوضح الحسني إنها محاولات تُحترم إلا أنها تبقى بسيطة ومحدودة، فلم يكن بالإمكان تنظيم معرض كتاب واحد بالمعنى الحقيقي منذ بداية الحصار، ولم تُدشّن مكتبات عامة جديدة، وظلت الفرصة لنشر المطبوعات الجديدة غائبة إلا ما ندر، وهذا يتطلب الترويج للكتاب الالكتروني مثلا لكونه أسهل في التعاطي في ضوء حجب إدخال الكتب عبر المعابر، أو حتى من خلال تشكيل مجموعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمناقشة القضايا الفكرية، وفي المحصلة أي جهد يحتاج حاضنة رسمية توفر الدعم الكامل لتأسيس مرحلة جديدة قادرة على تقديم نموذج «غزاوي» ذي قيمة حقيقية تخلق تأثيراً في الوسط العربي وحتى العالمي.
جهود شابة تبرز اليوم في ظلّ حالة من التهالك الفكري والثقافي أنتجته تسع سنوات من الحصار الذي لم يكن يوماً اقتصادياً بحتاً بل ثقافي فكري أيضاً، الغاية منه أن يصبح قطاع غزة منغلقاً على نفسه وبالتالي تنحسر ثقافته ويسوء فكره ويتراجع فنه.
فالحالة الثقافية في زمن الحصار تراجعت، وما أفرزته التراكمات السياسية على شباب غزة قهراً؛ يؤثر سلباً، عليهم وعلى المشهد الثقافي، إذ بدأت الدوافع لدى الشباب بالتراجع، فلم يعُد لديهم كبير أمل بغد أفضل، ولم يجدوا ما يحقق لهم الدعم الذي يريدونه.
وبرغم وجود عدد من المنابر الثقافية إلا أن تفاعل الشباب معها يصنف بأنه غير مرضٍ، كما تبين الكاتبة والأديبة «فتحية صرصور» إحدى مؤسسات «صالون نون الأدبي»، تصف المشهد من خلال تجربة الصالون وهو أول منبر ثقافي على مستوى فلسطين، يشارف على أعتاب العام الخامس عشر تقول: «التفاعل من الشباب غير متواصل حتى من كان من الشباب قادراً على التعبير عن خوالج نفسه بشكل أو بآخر، فإن علاقته بهذه المنابر ضعيفة، إذ يحضر على أمل أن ننظم له لقاءً يتيح له تعريف الجمهور المثقف بموهبته، وبعدها لا يعود».
وتستطرد: «الشباب يبحث عن جهة تموّله وتدعمه في نشر كتاب أو تنظيم معرض وخلافه. نحن نتبنى الشباب وندعمهم بكل ما أوتينا من قوة، لكن في الشأن المادي لا نستطيع؛ لأننا نقوم على الصالون بجهودنا الفردية وإمكاناتنا المتواضعة لدرجة أننا لا نمتلك مقراً، وبرغم أننا قطعنا شوطاً يشهد له المثقفون بالداخل والخارج، ولنا بصمة واضحة في المشهد الثقافي، لكن نحن مثلهم بحاجة إلى من يدعمنا، لكن الفرق بيننا أننا نصرّ على الاستمرارية رغم كل المعيقات التي تواجهنا».
الفرق الشبابية
ظاهرة الفرق الشبابية تمارس نشاطاتها الثقافية من دون جهة حاضنة رسمية ترعاها أو تشرف عليها لذا غالباً ما تبقى فعالياتها حبيسة الجامعات أو بعض الأماكن الخاصة، الأمر الذي دفع المكتب الإعلامي الحكومي ـ كونه الجهة الرسمية التي تمارس مهام وزارة الإعلام في غزة ـ لعمل «مذكرة تفاهم» تنظم عمل تلك الفرق، كما أوضح لنا «سلامة معروف» مدير عام المكتب، وقال: «خلال الأشهر الستة الأخيرة تمّ إقرار تلك المذكرة التي تحصل الفرق الشبابية بموجبها على كتاب اعتماد مقابل تسجيل بياناتها، يؤهلها للاستفادة من خدمات المكتب المتعلقة بأنشطتها على اختلافها، كالاستفادة من القاعات ومصادقة شهادات الدورات التدريبية التي تنظمها وغيرها من احتياجات تضمن حقها في الاسم والشعار وممارسة نشاطها الثقافي في الأماكن العامة».
وفيما يخصّ إصدار مجلات أو دوريات، يجب أن يلتزم الشباب بمعايير الترخيص كإجراء طبيعي يمارسه الإعلام الحكومي تبعاً لقانون النشر والمطبوعات الفلسطيني في إطار تنظيم العمل الإعلامي كي يُسمح لهم بالنشر، كما يبين معروف نافياً أن يكون دورهم رقابياً أو مُقيِّداً لتلك الأنشطة.
وعلى صعيد المراكز الثقافية، يُدرج في السجلات الرسمية لوزارة الثقافة 51 مركزاً مرخصاً للعمل بالإضافة لعدد آخر من المؤسسات العاملة في المجالات الثقافية المتنوعة، ما يُعَدّ منها على أصابع اليد فقط يقدّم نشاطاً فعلياً على الأرض، «عاطف عسقول» مدير عام الإدارة العامة للإبداع والفنون في الوزارة، يبين أن وزارته بدأت مؤخراً بإرسال رسائل تصويب للمراكز غير الفاعلة التي باتت تشكل عبئاً على المشهد الثقافي حتى تقوم بدورها وإلا سيتمّ إغلاقها.
ويُرجع «عسقول» سبب هذا التراجع في الأداء لضعف الموازنات وتحوّل الجهات المانحة إلى دعم الخدمات الإغاثية بما يخدم متطلبات الحياة في غزة، خصوصاً بعد الحرب الأخيرة العام 2014 واستمرار الحصار، لكنه لا يبرر توقف عملها بالمطلق، ويضيف: «نحاول تنشيط المشهد الثقافي قدر المستطاع، وإن كان الوضع القائم يفرض نفسه، ونقدم أشكالاً مختلفة من الدعم والتشجيع للمبادرات الشبابية المستقلة، وحتى إن لم تكن ذات علاقة بالإعلام الحكومي، إيماناً منا بدورها الفاعل في إثراء المشهد الثقافي، وأبواب الوزارة مفتوحة دائماً لدعم هؤلاء الشباب».
وجه ثقافي جديد لغزة يرسم ملامحه شباب، يحاول أن يضع استراتيجياته بعيداً عن حالة التخبط التي تضرب جذورها في هذه المدينة المحاصرة، لعل الغد يرث أثراً لإبداعهم. وكما يقول الشاعر محمد الخضور، حين زار مقهاه بعد غياب: قد أَكونُ صورةً على هذا الجدارِ يوماً/ قد أَصيرُ قِصَّةً تنحتُ فيها المقاعدُ وصفًا دقيقاً/ لِهَواني على الريحِ، وقِـلَّـةِ حيلتي أَمام اللحنِ القديم.
المصدر: السفير