قصائد «ألزهايمر»… جسد بلا ذاكرة

الجسرة الثقافية الالكترونية-الحياة-

لو صودف أن تقلّبت بك الأقدار واضطرتك الظروف إلى العيش مع شخص مسنّ ومصاب بمرض ألزهايمر، وهذا الشخص هو أمك، فإنك ستبدأ حياة جديدة قاسية، لأنك ستعيش حتماً مع شخص تعرفه ولكنه ليس هو. إنه شخص آخر لا يعرف، بل نسي، كل ما يتعلق بك وكل ما يتعلق بحياته السابقة، ليتحوّل إلى كائن جديد يقف على حافة الحياة ولا يسقط. ولأنّ القدر وضعك في موضع الراعي والمراقب له فإنك تبدأ بخلق ذات جديدة لتصير شخصيتين. فالأولى هي أنت، والثانية هي أنت الذي يماشي المريض في فقدانه الذاكرة. وهكذا ينتقل المرض إليك وتصيران، أنت وأمك، مصابين بالألزهايمر، تعيشان في الغرفة نفسها.

هذا باختصار ما يحدث لمن يضطر إلى معايشة مريض ألزهايمر، والأصعب حين يكون هذا المريض هو أمه.

هذا ما عاشته الشاعرة السورية هنادي زرقة في الحياة الفعلية وليس في الشعر، قبل أن تحوّل تلك المحاكاة بين ذاتها الأصلية التي تريد أن تكونها، وذاتها الجديدة، إلى قصائد شكلّت مجموعتها الشعرية «ألزهايمر» (دار نلسن- بيروت). وقد تمكّنت زرقة في شعرها من نقل مشاعرها بدقة، كأنها تلجأ الى التنفيس أو «الفضفضة» قبل أن تكون تكتب شعراً.

ولشدة أمانتها في نقل ما أصابها، يشعر القارىء بالقلق من ان يصيبه المصير الغريب نفسه، اي أن تصاب أمه بالألزهايمر ويضطر الى رعايتها، فهذا أمر يثير الخوف وفق ما يخلص إليه قارىء مجموعة «ألزهايمر».

وكأنّ هذه المصادفة الحياتية المعيشة جاءت لتشرّع شعرية هنادي، رغم قسوتها وصعوبة التأقلم معها والقلق الذي تستجلبه. فالأم هنا لم تعد أماً، بل جسد أم بلا ذاكرة. كائن محايد ينسى اللغة وينسى كيف يركّب جملة، وأحياناً يتخذ من مكان في المنزل مركزاً ينطلق منه إلى أنحاء المنزل ثم يعود إليه مراراً وتكراراً إلى أن يسقط مغمياً من الإعياء (هذه بعض عوارض المرض).

ولكن هذا كله لا ينهك الشاعرة بمقدار ما ينهكها البحث عن أمها داخل جسد أمها المريضة. «لو أنك تصرخين مثلما كنت/ تأمرينني بالعودة قبل المغيب/ وفي الصباح ترفعين بلوزتي/ لتتأكدي من ارتدائي القميص الداخلي،/ لو أنك تعودين/ كما كنت، أمي،/ وأعود كما كنت، ابنتك العاصية،/ لو أنك فقط لا تنصاعين لما أطلبه منك،/ وتصرّين: ما زلت أمّك، ما زلت أمّك».

التشابك بين الواقع المعيش ومهمة نقله الى الشعر أو النثر ليس مجرد فيلم فيديو قصير يمكّننا من مشاهدة الشخصيات في مكانها المسرحي، بل ينقل ما يجري من تحوّلات وتغييرات في نفوس هذه الشخصيات، وتحديداً نفس الراوية أي الشاعرة هنا (وهذه إحدى أفضليات الكلمة على الصورة). فلا ينفصم الشاعر عما يرويه، بل يكون هو نفسه الراوي والمنفعل في الوقت نفسه، كما هي حال دوستويفسكي في رواية «المقامر» على سبيل المثل، أو كافكا في «رسالة إلى الأب».

«لم أعد أصلح لشيء/ الشارع الذي كان ينعطف/ ما إن تتغلغل نسمة في شعري/ لم يعد يأبه حتى بطقطقة كعب حذائي/ لم أعد أصلح للغواية/ هكذا دون مقدمات/ بدأت السنون تحفر دروبها/ على جسد كان».

يمكن القول إنّ مجموعة «ألزهايمر» لهنادي الزرقة بمثابة أرشفة شعرية فريدة في الشعر العربي للعلاقة بين ابنة وأمها تتـبادلان شخصيتين مختلفتين.

قصائد مكتوبة بلغة غير مهادنة تنقل حالات الشاعرة المتناقضة والمتصارعة حين تبدأ النبش في ذاكرتها وذاكرة شخص آخر في الوقت عينه. «أمس فكرتُ بالطيران/ كدت أطير/ ذيلي يطول/ يطول/ وجناحاي ينسدلان كمروحتين./ أمس فكرتُ بالطيران/ كدت أطير/ لكنكِ صرختِ بي بكل أمومتك،/ سقط المطر/ وهويتُ فكرة تغدو وتجيء/ ثم تسقط على بياض باهت».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى