قصة قصيرة: لسعة ورد

الجسرة الثقافية الالكترونية –
#حسن شوتام
القنطرة الخشبية الضيّقة ما تزال تُقاوم ثقل الخطى والأيام والسنين. تُردّد في إيقاع غير منتظم أخبار العابرين من أهالي القرية والزائرين، مُرحّبة بدخولهم تلك الأرض الفضاء الطيبة فرادى ومُمهّدة لهم سبيل الخروج منها واحدا واحدا..ذاك هو شرط العبور عليها؛ لكأنها تذكّرهم بضرورة استحضار هذا المرور الحذر الفردي الصامت في معادلة الاجتماع الصاخب أو اللقاء العفوي هناك وسط حقول السنابل والذرة وتحت أشجار الصفصاف السامقة.
ذات مساء، وجدت نفسي عند عتبة البوابة المتواضعة وكنت بدوري من العابرين. حثيث الخطى كان يسير وفي يده وعاء بنزين. وكنت خلفه أترسّم خطاه متأملا سحر الطبيعة من حولي ومُستعجلا معاينة واكتشاف بستان الورد.. البستان الذي يهذي بقصصه وينثر أسراره العزيزة على ”كنتوار” الحانة عندما تدور الخمر برأسه فيذهب القلب بشكواه مباشرة إلى أول غريب يصادفه.
– هوذا البستان!
صاح في حماس ثم دخل غرفة صغيرة تُخصّص عادة لمضخات المياه. اختفى لبعض الوقت ولمّا عاد كان المحرك قد ملأ الأجواء هديرا متقطعا ليعقبه بعد هنيهة صوت شلال مندفع إلى صهريج يستحم خلف الجدار المنتصب أمامي.
– المدخل في الجهة المقابلة. هيا بنا!
ثم جدّ في تحرّكه وكأنه على موعد. عندما لاحظ تقدّمي الحذر خاطبني مبتسما:
– لا كلب حراسة هنا سواي، تقدّم!
– لا.. كفى من فضلك، أنت إنسان أصيل وابن فلاح أصيل!
انتظر بلوغي المدخل، التقط أنفاسه وقبل أن يدفع الباب المزدوج نظر إليّ مليّا ثم قال مؤكدا:
– كنت كذلك قبل أن أدمن قطف الورود لها!
الإحباط والفشل ينموان في تربة ”الأحلام المجهضة”.. يزدهران في تربة ”عدم التحقق”. الفشل يكون صاعدا أيضا حالما يُنتزع المرء من أصله انتزاعا فيُطعّم في الفراغ.
افترش رصيف البلدة المغمورة في السكون وراح يغني باكيا: الورد جميل..الورد..الورد..الورد جميل..
ساعدته على النهوض وركبنا السيارة في اتجاه المنطقة الزراعية حيث يُقيم. تعمّدت صمت الأجواء كبتا ليقظة حواسه النشيطة وتخفيفا من حركة انفعالاته المختلطة. بيد أن إنزالي لزجاج النافذة أربك حساباتي وفتح المجال لاحتمالات جديدة.
– ستوب..ستوووب!
صرخ بقوة فركنتُ السيارة جانبا.. اندفع منها كالقذيفة واندسّ في عتمة الليل.. نزلت المنحدر ثم تخطّيت الترعة فوجدت الرجل مستلقيا فوق شجيرات أول حقل ورد اعترضه..اختلطت ضحكاته بأنين مُبهم وهو ينظر إلى السماء ويصيح:
– هذه باقات شوك يا رب تحمل بعض الورد! الآن فقط علمت أنها باقات شوك بلسعة ورد!
قام لي البرهان ليلتذاك على أن الرجل كان يسكن وحبيبته جنة خاصة رحيبة ما لبثت أن ضاقت بهما ليسقطا خارج مدارات العشق والحلم. مأساة ”ابن الورد” هذا أدخلتني البستان الأسطوري الذي أتأمله اللحظة بشغف وإعجاب وحسرة!
– هي ذي أزهار البستان، ما رأيك؟
بائسة هي اللغة عندما تُلقي شباكها في محيط أفكار وانطباعات لها امتدادات في المطلق. ثمة خواطر نرفض حدّها وتعيينها حتى لا تأخذ شكلا نهائيا قابلا للملاحظة والتقييم والقياس.. شكلا يمكن نقله إلى تصميم وحفظه في سجلاّت وأرقام ثم مسخِه بالتجزيء آن يشتدّ الخلاف والنزاع.
هذا ما خلُصت إليه بديهتي في مواجهة سؤاله دون أن أنبس بكلمة..
بستان ورده.. رجل أعزل يُنازل امرأة أقراطها جبابرة يدبّبون الأشواق..
بستان ورده.. قطعة يتيمة بين يدي فخاري أجّل مشروعه حتى بدء آخر لن يكون..
بستان ورده.. حكاية حب حوكمت في سوق اللغط والكلام بتهمة البوح والكلام..
ورد بستانه.. قبلة رجل.. زرعٌ في رحم يعشق الظلمة.. يكره الحياة..
ورد بستانه..دموع رجل استودع حُبّه قلب غيمة..قلب كذبة مُستقرة في قلب الشقاء..
– تفضل! باقة ورد جهّزتها لك فيما كنت تكتشف البستان.. زوجتك ستسعد بهذه الهدية أما أنت أيها الكاتب فانشر عطرها قصيدة أو قصة في جريدة.
تناولت الباقة المنتخبة من يد أفصح عشبها الكث عن بقع دم صغيرة وخدوش، شاكرا له جميل اللطف والكرم. كان الرجل قد ضمّ سيقان الأزهار بطريقة خاصة داخل ورق سميك حَذَرَ الوخز. لكن رغم ذلك لم أستطع أن أهرب بفكري بعيدا عن بقع الدم الصغيرة على ساعده، وخُيّل إليّ للحظة أن تلك المرأة مابرحت تدبّ تحت جلد ساعده.. تتلوى كلبوة جائعة في غابة ساعده.. مثيرة فيه رغبة لذيذة في قطف أشواك تحقن في دمه روح الورد
القدس العربي