قضايا السرد في الرواية الإماراتية

الجسرة الثقافية الالكترونية –

محمد سيف الإسلام بوفلاقة*- 

ليس لأحد أن يشكك في التطورات التي شهدتها الرواية الإماراتية، انطلاقاً من النص التأسيسي الأول، وهو رواية «شاهندة» لراشد عبد الله النعيمي سنة 1971، ذلك العمل الذي شكًّل نقطة التحول من مرحلة المشافهة إلى التدوين، وما تلاه من أعمال أخرى منها: «عنق يبحث عن عقد» لعبد الله الناوري، و«دائماً يحدث في الليل» لمحمد عبيد غباش، وصولاً إلى «السيف والزهرة» لعلي أبي الريش، و«عندما تستيقظ الأشجان» و«ساحل الأبطال» و«جروح على جدار الزمن» لعلي محمد راشد، و«أحداث مدينة على الشاطئ» لمحمد حسن الحربي، و«الشيخ الأبيض» و«الأمير الثائر» للدكتور سلطان القاسمي، و«ابن مولاي السلطان» و«الرجل الذي اشترى اسمه» لمنصور عبد الرحمن.
 إضافة إلى إسهامات المرأة الإماراتية في هذا الميدان عبر مجموعة من الأعمال المتميزة مثل: «ريحانة» لميسون صقر، و«الجسد الراحل» لأسماء الزرعوني، و«تشاؤب الأنامل» لرحاب الكيلاني.
ساهمت هذه الأعمال في النهوض بالتجربة الروائية الإماراتية، رغم أن بعضهم يصف نمو هذه التجربة بالوئيد، وهذا يعود إلى أسباب منها أن النقلة الحادة من قيم إلى قيم، ومن مظاهر في الشكل والجوهر إلى أخرى، لم يترافق مع وجود جيل من الأدباء الذين يتعاملون مع هذا الفن الروائي.

يأتي كتاب الباحث د.سمر روحي الفيصل «قضايا السرد في الرواية الإمارتية» (دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة)، بصفته محاولة جادة في سياق الدراسات النقدية التي سلًّطت الضوء على التجربة الروائية الإماراتية، وهدفت إلى التحليل النقدي للنص الروائي الإماراتي، والروز في خباياه ودلالاته، والخوض في فضاءاته وآفاقه وقضاياه السردية.
يشير المؤلف في المقدمة إلى أن الرواية في الإمارات ورغم أنها لا تمتلك تاريخاً طويلاً، ورغم قلة الإصدارات فيها، إلا أن ذلك لا يمكن عدّه مسوغاً كافياً لعزوف النقد عن تحليل النصوص الروائية، كما لا يمكن أن يعدّ ذلك شفيعاً للمجاملة التي تدعي الرفق بالنصوص لحداثتها.
ويرى الفيصل أن ما يلبي الحاجة هو تحليل السرد الروائي بوصفه أكثر العناصر خطراً في بنية الرواية، وأن منتج السرد هو بمثابة الأنا الثانية للروائي داخل النص أو هو الكاتب الضمني، وطبيعته هي المعبرة عن قدرة الروائي على بناء الرواية، وانطلاقاً من هذا يمكن معرفة قدرة الروائيين الإماراتيين، وهو ما يسمح بتسليط الضوء على مكامن الضعف والقوة في نصوصهم.
في الفصل الأول (سرد التاريخ) يُقدم المؤلف قراءة وتحليلاً لنموذجين من الرواية الإماراتية: «الأمير الثائر» للشيخ د.سلطان بن محمد القاسمي، و«ساحل الأبطال» لعلي محمد راشد، كما يُحاول الوقوف على أوجه الشبه والاختلاف بين الروايتين في قضية سرد التاريخ، فمحمد علي راشد لم يكتب مقدمة لروايته، أما القاسمي فكتب مقدمة أشار من خلالها إلى أن قصة الأمير الثائر قصة حقيقية، وهو يهدف من خلال ذلك إلى تزويد المتلقي بمعرفة تُلزمه إثر تلقيه للرواية، كما أشار إلى أن أحداث الرواية موثّقة توثيقاً صحيحاً وأن التدوين هو مصدرها، وهو ما يجعل الأمر محل ثقة، وذلك بقدرة القارئ على الرجوع إلى كتب التاريخ والتأكد مما سُرد له، كما أشار إلى أن أحداث الرواية «لا يوجد بها أيّ نوع من نسج الخيال أو زخرف الكلام».
ثم يورد المؤلف عدداً من الملاحظات التي يخرج بها قارئ الرواية، ومن ذلك أن المادة التاريخية الخاصة بالأمير «مهنا» مسرودة سرداً واضحاً مباشراً. وهذا الشكل من السرد هو لون من ألوان الرواية التاريخية، وليس تاريخاً للأمير «مهنا». ذلك لأن خمس عشرة سنة من حياة «مهنا»، أمير بندر الرق، اختُزلت في مائة صفحة تقريباً. وهذا الاختزال ليس تلخيصاً، بل هو تبئير. إذ إن الراوي (النائب عن الروائي داخل نص الرواية) لم يُلاحق حياة الأمير «مهنا» من جوانبها كلها، بل اكتفى بحياته السياسية-العسكرية، وهي حياة تبرز نزوعه العربي، ورغبته في الاستقلال عن الفرس وحلفائهم الأتراك، ومصالحهم التجارية مع الهولنديين والإنجليز. ومن ثمًّ كانت هناك متابعة متلاحقة طوال الرواية لمحاولات الأمير «مهنا» السيطرة على التجارة في الخليج، ومحاربته الفرس، ومقاومته النفوذ التجاري للهولنديين، حتى تمكًّن الباشا التركي في بغداد من شنقه، وإرسال رأسه إلى «كريم خان زند» حاكم الفرس. ولو لم يكن هناك تبئير لما اختار الراوي طريقة تقديم الحوادث في الرواية، ولما انتقى المعلومات التي رسّخت وجهة نظره في النزوع العربي عند الأمير مهنا (ص20-21).
ومن خلال رواية «الأمير الثائر» هناك مجموعة من الإشارات السريعة إلى جملة من الأمور التي تتعلق بالأمير مهنا منها: مقتل والده، ووالدته، ووفاة ابنته، وغيرها، وجميع هذه الإشارات كما يرى المؤلف بحاجة إلى متابعات لإدراك أثرها في شخصية الأمير، بيد أن الراوي لم يلتفت إليها بغير الإشارات العابرة، ولم يُوظفها في بناء شخصية الأمير، وفي تأكيد وترسيخ صورته الروائية لدى أتباعه وأعدائه، وجميع هذه الأحداث هي جزء مهم من التاريخ . «فهل يعني ذلك أن الراوي اختار بعض التاريخ ولم يختر التاريخ كله؟ إن التبئير هو زاوية تقديم الحوادث التي اختيرت من جانب دون آخر من التاريخ. فالأحداث الأسرية الجسيمة غير مرغوب فيها، لأن الراوي يريد التركيز على الجانب السياسي-العسكري في منطقة الخليج، وعلى اللمعة العربية التي بزغت في وسط التهافت الأجنبي التجاري على المنطقة، وضعف السيطرة الفارسية والتركية عليها. ولهذا السبب اكتفى إشارات سريعة عابرة إلى الحوادث الأسرية، وراح يتابع أحداثاً أخرى سياسية-عسكرية تُجسد التركيز وتُعلنه.
هذا يعني أن تاريخ الأمير «مهنا» ومنطقة الخليج خلال خمس عشرة سنة لم ينتقل كله إلى الرواية، بل انتقل بعضه إليها. وحين انتقل هذا (البعض) اختير جانبه السياسي-العسكري وحده وسلّط الروائي الضوء عليه انصياعاً لرغبة الراوي، وكأن التاريخ يذوب ويصير في الرواية تاريخياً تبعاً للعبة الروائية التي تنصاع لرغبة الروائي ويجسّدها الراوي (ص22).
وعن أوجه التشابه بين «ساحل الأبطال» و«الأمير الثائر»، يرى المؤلف أن كلاًّ من الروايتين تندرج في إطار الرواية التاريخية، فالأولى متعلقة بجانب من تاريخ رأس الخيمة، والثانية خاصة بجانب من تاريخ الخليج، أما عن المنطلق فهو نفسه: إحياء النزوع العربي، ومواجهة الأجنبي الذي يطمع في تحويل الخليج العربي إلى منطقة عبور آمنة بغرض خدمة مصالحه التجارية. أما أوجه الائتلاف فتكمن في الجانب الجمالي، فقد رغب الروائيان في تحويل التاريخ إلى رواية، والتعبير عن أحداث التاريخ بلغة روائية، وهو ما أدى إلى وقوعهما في إشكاليتين متطابقتين. أما الاختلاف في الروايتين فيتجلى في كثافة حضور التاريخ، وانتهى المؤلف في الأخير إلى أن الحضور التاريخي كان كثيفاً في «الأمير الثائر»، ومعتدلاً في «ساحل الأبطال».
في الفصل الثاني «الحكاية والسرد» يُحلل الفيصل فعل السرد، ناظراً إليه على أنه خطاب يتميز بوجود علاقتين، الأولى بين الخطاب والفعل الذي ينتجه، والثانية بين الخطاب والحوادث التي يسردها، ويختار لهذا التحليل ثلاثة نماذج: «كريمة» لمانع سعيد العتيبة، و»شجن بنت القدر الحزين» لحصة جمعة الكعبي، و«ملائكة وشياطين» لباسمة يونس. وعن منهجه ورؤيته في تحليل هذه الروايات الثلاث يشير إلى أن رواية «كريمة» كانت نموذجاً لتحليل الفعل السردي، ولم تكن مناسبة لتحليل محتوى الحوادث المسرودة، ذلك لأنها في المنظور المنهجي لخطاب الحكاية نصّ سردي أنتج فعلاً تخيلياً، وليست محتوى أو مضموناً صالحاً للتلخيص والتفسير. ولا تختلف رواية «شجن بنت القدر الحزين» عن ذلك، لكنه جعل تحليلها يركِّز على الحكاية الروائية ذات البناء المتخيل والمضمون الاجتماعي الرومانسي الخاصّ بمجتمع الخليج العربيّ. وحين انتقل إلى رواية «ملائكة وشياطين» ركَّز على حلقات الوصل السرديّة التي تربط أجزاء الحكاية، لتحليل العلاقة بين الحكاية والسرد (ص40-41).
في ما يتعلق بحوافز السرد، وهي العوامل التي تحرك السرد وتمضي به إلى الأمام، وتمكّنه من سوغ حركاته وابتداع الحوادث، تبدى للمؤلف بعد تفكيكه للسرد في رواية «كريمة» أن هناك ثلاثة حوافز مسؤولة عن استمرار العرض، وفي البدء يظهر حافز الانتقام بقوة، ويأتي حافز الحب في المرتبة الثانية، أما حافز الكراهية فيحتل المرتبة الثالثة. وعن نظرته لرواية «ملائكة وشياطين»، يرى أن تفكيك الحكاية يضع أمامنا نموذجاً آخر يستند إلى العقدة ذات الحلقات. والمراد بهذا النموذج هو توافر حكاية فيها العناصر الثلاثة المعروفة في العقدة، وهي: العرض والذِّروة والحلّ، ولكنّ حلقات الوصل بين هذه العناصر لا تخضع لمعايير بناء الحكاية، خصوصاً التّعاقب الزّمني والسّببي، بل تخضع لمعايير أخرى مضمونية رومانسية غير فنية (ص48).
يستفيض المؤلف في تحليل هذه الرواية وعرض أهم أحداثها، وعلاقة ذلك بالحوافز السردية، كما يتطرق إلى الروائي والسارد ويتعرض للعلاقة بينهما، وبالنسبة للسارد والمسرود فقد خلص إلى أن العلاقة بينهما تتبدى واضحةً أول وهلة، بيد أن إنعام النظر فيها يشير إلى تشابكها وإلى أنها شائكة وقريبة من الالتباس، وهذا يعود في الدرجة الأولى إلى اتخاذ السارد وضعية العالِم والمحيط بكل شيء، كما أنه مراوغ ولا يخلص لطبيعته وحدها، حيث إنه متلون، فنلفيه أحياناً سارداً مساوياً لدرجة علم الشخصية، ويبدو في أحايين أخرى أدنى علماً مما تدركه الشخصية، وفي جوانب أخرى تجده محيطاً بالشخصيات الروائية قاطبة سواء أكانت رئيسة أم ثانوية.
ويستنتج الفيصل أن سيطرة السارد على المسرود في رواية «كريمة» تعبِّرُ عن شكل من أشكال الرواية العربية التقليدية ما زال سائداً رائجاً، تبعاً لإيمانه بأن الرواية ليست شيئاً غير الحكاية التي تروي خبراً مفصَّلاً عن شيء محدد، وأن الشخصيات التي تنهض بهذه الحكاية تتمايز بصفاتها وأنواعها ليس غير… وهكذا بدا المسرود في رواية «كريمة» في حاجة إلى شيء من الحرية الفنية، بحيث يبدو فعل الشخصية نابعاً من آرائها ومواقفها ودخيلتها ونظرتها إلى الحياة، وتبدو لغتها، تبعاً لذلك، خاصة بها وحدها، معبِّرة عن مستواها الفكري، عاملة على تمييزها من الشخصيات الأخرى (ص62).
وبانتقاله لرواية «شجن بنت القدر الحزين»، يُلاحظ المؤلف أن العناصر التي كوّنت الحكاية الروائية التي سبق أن تناولها في رواية «كريمة»، تبدو في رواية حصة جمعة الكعبي أكثر تكثيفاً وقدرة على توفير التوتر الدرامي، فالسارد متشابه في الروايتين، فهو عالم بكل شيء، وكذلك يستعمل ضمير الغائب، ويقدم الشخصيات، كما يلاحق حركاتها وردود أفعالها الداخلية. ويرى الفيصل أن المحلل لرواية «شجن بنت القدر الحزين» يُعجب بسلامة لغتها، وسلاستها، ودقتها في التعبير عن المراد سواء بالسرد أو بالحوار، ويتوسع المؤلف في تحليل هذه الرواية بتعرضه لقضايا عدة، وكل هذا يندرج في إطار عنصر السارد والمسرود. وفي ختام الفصل يخرج بخلاصة هي أن الرواية الإماراتية حرصت في الغالب الأعمّ على توفير الحكاية الروائية، ولكنّ حرصها لم يرتقِ بها إلى مرتبة إحكام الحلقات السرديّة، بحيث تنتقل من حكاية الأفكار إلى حكاية الأفعال. فما زال الروائيون الإماراتيون يحتاجون إلى التدقيق في صياغة الحكاية الروائية، وفي ابتداع السارد الذي ينتج السرد المترابط المحكم القادر على أن ينتج حكاية ممتعة (ص67-68).
في الفصل الثالث يروز المؤلف في الأنماط السردية للرواية الإماراتية، ويختار أول رواية ظهرت في الإمارات، ويتناول من خلالها الموضوع، فهو يرى أن رواية «شاهندة» لراشد عبد الله النعيمي نصّ سرديٌ صالحٌ للتحليل النقدي لأنماط السرد كأيّ نص آخر، ويتعرض في تحليله إلى نمطين أساسين هما: السرد والعرض، لكن نظرته إليهما تقوم على أساس أنهما عملية سردية واحدة، ويقتصر تحليله على ثلاث علاقات: يرتبط السرد في أولها بالخطاب، والثاني بالعرض، والثالث بالوصف. ويرى المؤلف أن العرض خطاب مباشر دائماً، لأنه تعبير الشخصيات عن نفسها. ففي كلّ خطاب متكلِّمٌ له موقف يدلُّ عليه الكلام نفسه. وهذا هو معنى عبارة السرديين: «ذاتية الخطاب»، في مقابل «موضوعية السرد»، أي الكلام الذي لا يُحيل إلى متكلِّم محدَّد. وإذا كان السرد خطاباً فما العلاقة بين موضوعيته وذاتية الخطاب؟ هذا هو السؤال الرئيس الذي يحكم تحليل العلاقة بين السرد والخطاب في رواية «شاهندة» (ص75).
ويرى أن أنماط السرد في «شاهندة» ليست حكراً على الذاتي والموضوعي والمتداخل الذي ينتقل من صيغة إلى أخرى فحسب، بل إن هناك نمطاً آخر يظهر من خلال العلاقة مع العرض الذي يعني حوار الشخصيات وكلامها ومناجاتها الذاتية، وقد تجلى للمؤلف أن الحوار ينقسم إلى صيغتين: صيغة حوارية خالصة ليس للسرد أي تأثير عليها، وصيغة حوارية أخرى تعلن العلاقة بين السرد والحوار، وقد أتبع المؤلف كلاًّ من الصيغتين المذكورتين بتقديم أمثلة تطبيقية
ويتناول الفصل الرابع «مظاهر السرد»، المسؤولة عن «العملية» السرديّة بنمطيها الرئيسين: السرد والعرض، وأنماطها الفرعيّة التي تتضح من خلال علاقة السرد بالخطاب والعرض والوصف. فالمظهر يعني إدراك نمط السرد، و يرتبط مثله بالرّاوي. وإذا كان الراوي يسرد الحوادث ويقدِّم الشخصيات بحسب هذا النمط السردي أو ذاك، فإن كل نمط يضمّ علامات تشير إلى مظهر الراوي، أي كيفية إدراكه السرد. وهكذا تعني مظاهر السرد إدراكات الرواة وتعكس علاقاتهم بالحوادث والشخصيات. ولذلك كان مصطلح «المظهر» قريباً من معنى: النظرة أو الرؤية أو المنظور أو وجهة النظر (ص91)
بتحليل مظاهر السرد، يتمكن المؤلف من إدراك الراوي في السرد الروائي الإماراتي، والذي تتجسد وظيفته في «تقديم الحوادث والشخصيات وتوجيه حركتها، وبيان وضعيته خارج السرد وداخله، والضمائر التي تدل على هذه الوضعية» (ص91)، ويضيف المؤلف مظهراً ثالثاً يؤطر لعلاقة المظاهر بالأنماط، كما يُمكِّنه من تقنين إدراكات الراوي وطبيعة السرد، ويشير إلى أن استعماله في هذا المظهر يرتكز على ثلاثة مصطلحات، هي: المنظور، والتبئير، ووجهة النظر، ويختار في تحليله لمظاهر السرد رواية «الاعتراف» لعلي أبي الريش، ويُعزز تحليله بإشارته لرواية «السيف والزهرة»، الرواية الثانية لعلي أبي الريش، كما يشير من خلال هذا التحليل إلى رواية «الديزل» لثاني السويدي.
ففي رواية «الاعتراف»، تشير العلامات التي يضمّها السرد إلى إدراك واحد، وهو إدراك الراوي المهيمن هيمنة مطلقة، وقد وجد المؤلف أن الراوي في رواية «الاعتراف» اختار اللاتبئير، أو التبئير في درجة الصفر. وهذا الاختيار يعني أنه -ووراءه الروائي علي أبو الريش- رضي طائعاً بأن يقبع في زاوية روائية محدًّدة، هي زاوية العلم الكلّيّ الشّامل، تلك الزّاوية التي تجعله يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات كلها: المحورية والرئيسة والثانوية، ويروح تبعاً لذلك يحركها في المجتمع الروائي، ويخلق حوادث يعتقد أنها ملائمة لها، «وليس الخطأ في اللاتبئير ولا في المنظور، لكن الخطأ في فهم ذلك على أنه هيمنة على المجتمع الروائي كله» (ص99).
وعن رواية «السيف والزهرة»، فالساردان في الروايتين سيان، حيث يشبهه في اتخاذه اللاتبئيرَ موقعاً يمكنه من إدراك الشخصيات الروائية إدراك الهيمنة المطلقة، ومن ثمًّ فإن رواية «السيف والزهرة» لا تُشكل تطوراً فنياً ذا شأن عما قدّمته رواية «الاعتراف» التي سبقتها بسنتين. وهاتان السنتان لم تشكلا دافعاً قوياً، كما دلًّ نصّ «السيف والزهرة»، لتقديم قدر من النمو الفني يجعلها مغايرة لـ»الاعتراف» ومختلفة عنها في القدرة الفنية على لجم شهوة السارد المهيمن كليّ المعرفة إلى السيطرة على شخصيات الرواية، وتوجيه حركتها، وقيادتها إلى الدلالة التي يرغب فيها (ص102).
ويلاحظ المؤلف أن النصوص الروائية الإماراتية لم تكن حكراً على السارد المهيمن، بل إنها تطرح ولو على استحياء نوعاً آخر وهو ما يسمى «السارد الممثل» الذي يختفي وراء إحدى الشخصيات الروائية، كما أنه يكتفي بما تعرفه، ويترك المجال للشخصيات الأخرى أن تعبّر عن حركتها الخارجية بنفسها، وكذلك فإن لهذا السارد وجهة نظر في الحوادث الروائية، لكنه لا يطرحها بشكل مباشر ويترك طرحها للشخصية التي يختفي وراءها. ومن أبرز النماذج الروائية الإماراتية التي قامت باستعمال السارد الممثل رواية «الديزل» لثاني السويدي، ورواية «نافذة الجنون» لعلي أبي الريش، فرواية «الديزل» طرحت سارداً ممثلاً بشخصية «الديزل»، وتركته يُقدِّم نفسه بضمير المتكلم طوال الرواية، دون أن يجرؤ هذا السارد الممثل على أن يجاوز «الديزل»، فينصّ على شيء لا يعلمه، أو يتأخر عنه فيبدو أقل معرفة منه. ذلك أنه سارد متماهٍ بشخصية «الديزل»، يسير معها، ويعرف ما تعرفه، ويتركها تتحدّث بلسانها وتعبِّر عن دخيلتها، حتى إن المتلقي لا يشعر بوجود هذا السارد داخل الرواية، ولا يعثر على أيّ دليل عليه (ص105).
يرى الفيصل أن تاريخ السرد في الرواية الإماراتية يضمّ مرحلة مهدت للانتقال من مرحلة السارد المهيمن إلى السارد الممثل، وأبرز مثال على هذه المرحلة رواية «مزون» لمحمد عبيد غباش، ثم أتت مرحلة السرد الذاتي، وهي المرحلة التي يُناقشها ويتعرض لها بالدراسة في الفصل الخامس من الكتاب «السًّرد الذاتي»، ويرى أن هذه المرحلة تمثلها ثلاث روايات، هي: «الديزل» و»نافذة الجنون»، ورواية «تل الصنم» لعلي أبي الريش.
إن المرحلة الممهدة للسًّرد الذاتي يراها المؤلف بمثابة اختيار فني لجأ إليه الروائيون للتعبير عن المضامين التي رغبوا في توصيلها، ويؤكد المؤلف أن رواية «مزون» ليست أقل أهمية عن الروايات التي يتعرض لها في مرحلة السرد الذاتي، ولا ينقصها الإمتاع، ولا القدرة على التأثير وإقناع المتلقي، وبعد تحليله للرواية بإسهاب يخلص إلى أن الحكاية فيها تتمتع بحبكة متماسكة مقنعة، يرتبط الحدث السابق فيها باللاحق. كما تتمتع بشيء من الغموض الفني، والمشهدية الدّرامية التي تجعلها صالحة للتجسيد في مسلسل أو شريط سينمائي (ص117).
كما تبدى للمؤلف أن السارد الممثل في رواية «مزون» يقدم سرداً ذاتياً، لكن سرده الذاتي يتصف بأنه يقدم شخصية واضحة محدًّدة، مرتبطة بمجتمع روائي ذي ملامح محدًّدة، فضلاً عن ارتباطه بحكاية شخصيات أخرى، لها أفعالها وعلاقاتها الاجتماعية. وإذا كانت هذه الصفات تجعل السارد الممثل في «مزون» قريباً من الساردين في الروايات الحوارية التي يتعدد فيها الرواة، فإنه يبدو بعيداً عن السارد الممثل في السرد الذاتي الذي يعتمد على الفيض أو التداعي، ويعاف الحكاية الروائية، ويروح يجعل نفسه معياراً وحيداً لضبط التداعي وفهم الإيحاء في الرواية (ص118-119).
انطلقت مرحلة السرد الذاتي مع رواية «نافذة الجنون» لعلي أبي الريش (1990)، حيث إن المؤلف يعدّها أولى النماذج في هذا الاتجاه، وهي الأكثر إمتاعاً وتأثيراً وتماسكاً، تلتها بعد ذلك رواية «الديزل»، حيث قام السارد باصطناع الممثل وإلغاء الحكاية الروائية وسار في اتجاه السرد الذاتي. إن التدقيق في السرد الذاتي الذي قدمه علي أبو الريش في «نافذة الجنون» يُمكًّن من الإمساك بخيط يربط التداعي ويمكّن من ضبط السارد الممثل، ولا يمكن تحديد الشخصية التي تماهى السارد الممثل بها وجعل لها حرية السرد، ويرى المؤلف أن أساس المتعة ومصدرها في «نافذة الجنون» هو سلاسة السرد الذاتي فيها، وعدم التهويم في الفضاءات التي لا معنى لها ولا إيحاء فيها. إن السرد الذاتي هو الذي يعبّر تعبيراً فلسفياً مقبولاً عن الإنسان والحياة والكون، بينما السرد الذاتي في رواية «الديزل» يهوم بعيداً ويتسم بخلوه من الإيحاء والرؤيا الفلسفية.
في الفصل الأخير (السرد الحكائي)، يُقدم المؤلف أمثلة لروايات إماراتية في هذا الميدان، وفي ما يتعلق بالسرد الحكائي للمكان فهو يعدّ رواية «أحداث مدينة على الشاطئ» لمحمد حسن الحربي من أبرز الأمثلة التي تمثل عناية السرد بتقديم حكاية المكان، حيث إن السارد يبدو فيها حيادياً وعالماً بكل شيء، ولا يوجد موقع محدد له، وقد قام هذا السارد بإنتاج سرد موضوعي يرتبط بشخصيات الرواية وبحكاية المكان عوضاً من حكاية الشخصيات. إن الحربي لم يقدم المكان في روايته بأسلوب الوصف، بل قدًّمه بأسلوب التفصيلات. ذلك أن الروائيين اعتادوا أن يقرّبوا المكان من المتلقي بالوصف الذي يرسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بوساطة اللغة ممكناً. أو قُل إن الوصف هو وسيلة الروائيين لتصوير المكان وبيان جزئياته وأبعاده. ولكنّ الروائي، أيّ روائي، يدرك أن الوصف مجرد تمهيد لاختراق الشخصيات المكان بما تحمله من وجهات نظر متباينة في الحوادث. وهذا يعني أن الوصف ينهض بمهمّة التمهيد لفهم المتلقي شخصيات الرواية، و لحفزها إلى القيام بالحوادث، تبعاً للتأثير المتبادل بين الشخصية والمكان الذي تعيش فيه (ص137).
يرى المؤلف أن محمد حسن الحربي لم يلجأ إلى الوصف في تقديمه لـ»المريبضة»، بل لجأ إلى أسلوب التفصيلات وقد وظفه بهدف مغاير، وهو تقديم حكاية المكان، وهي الحكاية التي تجعل المكان بؤرة الرواية بدلاً من كونه عنصراً من عناصر بناء الرواية، وقد استعان في بناء حكايته بثلاثة عناصر سردية، وهي:
– السرد المتدرج: حيث إنه وظفه في إطار تقديمه لمعلومات عن مكان روايته، فمعلوماته كانت تتدرج شيئاً فشيئاً عن المكان، وهذا يعني أن فهم المتلقي يزيد كلما وردت إليه معلومة جديدة عن «المريبضة» بوساطة السرد المتدرج الذي ينتجه السارد الحياديّ الموضوعيّ العالم بكل شيء (ص139).
– السرد المتنقل: استعمله الروائي بدلاً من السرد الخطّي، فنُلفيه يروي ما حدث في الزمن، انطلاقاً من الحدث الأول، وختاماً بآخر الحوادث في الرواية، وهو ترتيب منطقي، ويُشبه السرد المتنقل فيه أسلوب الاستطراد عند الجاحظ.
– السرد التقاطبي: وهو السرد الذي وُظِّف في إطار تقديمه لقطبين متعارضين، وهما شخصية «مجلاد» كممثل للحاكم، و»حمد بن خميس» كممثل للإنسان الحر العادي.
وبعد أن تناول المؤلف سرد حكاية المكان في رواية «أحداث مدينة على الشاطئ» يخلص إلى أن السرد الحكائي للمكان في هذه الرواية عبارة عن استنكار للظلم، وتنبيه عليه، ودعوة لمجابهته. وبالنسبة للسرد الحكائي للحوادث، فالرواية الإماراتية لم تكن بمعزل عنه، بل إنها وظفته والتفتت إليه، وقد تجلى هذا النوع من السرد الحكائي في روايتين هما: «عنق يبحث عن عقد» لعبد الله الناوري، و»حدث في اسطنبول» لعبد الكريم معتوق، وبالمقارنة بينهما يرى المؤلف أن اختلاف شخصيات «حدث في اسطنبول» وأمكنتها عن الخيط المشترك بين الروايات التي تعتمد السرد الحكائي للحوادث، هو في الوقت نفسه اختلافٌ عن رواية عبد الله الناوري «عنق يبحث عن عقد» التي اعتمدت السرد الحكائي للحوادث (ص154).
ويتوصل الباحث إلى نتائج من أبرزها:
– تميُّز الرواية الإماراتية بوجود بنيتين روائيتين: تقليدية وجديدة، الأولى سائدة والثانية تسعى إلى السيادة. في البنية الجديدة محاولة للقضاء على كلّ ما يتعلق بالبنية التقليدية، كالحكاية الروائية والسارد المهيمن العالم بكل شيء والشخصية الواضحة والترتيب المنطقي والسببي للحوادث والمكان والزمان المحدًّدين. وفيها في الوقت نفسه محاولة لتقديم بنية جديدة، عمادها السرد الذاتي الذي يُقدِّم فيضاً أو تداعياً سردياً للحوادث، لا يضبطه غير قدرة الروائي على جعله موحياً يدور حول شخصية واحدة يتماهى بها السارد الممثل داخل الرواية. أما البنية التقليدية فهي سائدة في غالبية الروايات الإماراتية، وهي ذات حوادث واضحة مرتَّبة زمنياً وسببياً، وشخصيات محدًّدة، وحبكة تأريخية، وزمن معلوم، ومكان ملموس. ولقد بقيت هذه البنية سائدة في الرواية الإماراتية، شأنها في ذلك شأن الرواية العربية..
– سعي الرواية الإماراتية إلى الانتقال من المكان إلى الفضاء.. ويدل تحليل السرد الحكائي للمكان على هذا السعي، ويعبّر عن ميل بعض الروائيين الإماراتيين إلى حكاية الحوادث التاريخية، أو سرد حكاية المكان التاريخية، بغية إحياء مواجهة أبناء منطقة الخليج المستعمرين الطامعين في بلادهم. ولم يكن سرد التاريخ سهلاً، فقد قاد الروائيين الإماراتيين إلى إشكالية المطابقة بين التاريخ الحقيقي والفن الروائي، وحفزهم إلى القضاء على التأرجح بينهما.
– تقديم الرواية الإماراتية ثلاثة أنماط للسّرد: المباشر والموضوعيّ والمتداخل. الأول منها نابع من استعمال السارد الممثل، والثاني منها غير مباشر نابع من السارد المهيمن أو السارد العالم بكل شيء، في حين نبع الثالث من المزج بين السرد المباشر والسرد غير المباشر

#الراي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى