قليل من شعر ورسم وموسيقى يحيي «خان الفنون»

الجسرة الثقافية الالكترونية-الحياة-
*فاروق يوسف
أقفل «خان الفنون» في العاصمة الأردنية أبوابه بالموسيقى، حين حلق ثلاثي طارق الجندي بالحضور، جمهوراً وفنانين في أجواء النغم الشرقي، مازجاً المقامات المستقرة بضربات قادمة من أمكنة بعيدة. كان ذلك الحفل هو نقطة الذروة التي تسلق إليها الشعراء والرسامون والموسيقيون في سباق إبداعي رفيع المستوى متأنقين بإقبال شعبي كان مفاجئاً إذا ما قارناه بجمهور نشاطات مماثلة. وإن كان هذا النشاط قد تميز بحميمية نادرة هي انعكاس مباشر لاسترخاء المنظمات اللواتي حرصن على أن يتنقلن بخفة بين فقرات البرنامج الذي كان حافلاً بالأمسيات والندوات والحفلات اضافة إلى ورشة الرسم التي شارك فيها فنانون عرب قادمون من مختلف انحاء العالم والتي نتج منها معرض يعتبر بحق واحداً من خاصيات ما تبقى من الرسم في حياتنا الثقافية.
وإذا ما أحصينا حسنات لقاء من نوع «خان الفنون» فسيكون علينا أن نعتبره هو الآخر خلاصة لتطلعات أجيال فنية قررت في لحظة وعي شقي أن ترفع شعار «الفن ضد التجهيل» في مواجهة حالة الركود الإبداعي التي يعيشها العالم العربي في ظل متغيرات سياسية واجتماعية قلقة جعلت من الفوضى بديلاً لأنظمة الاستبداد، وهو ما جعل طرقاً كثيرة تُسد في طريق المبدع وهو يسعى إلى الوصول إلى جمهوره. كان «خان الفنون» محاولة لاستعادة الجمهور وتجسير الفجوة بينه وبين الفن.
حلم ثلاثة نساء الشاعرة جمانة صالح والرسامة ريم يسوف والإعلامية سارة القضاة وجد أمامه الفضاء مفتوحاً ليطلق فيه حمائمه التي لم تكن سوى قصائد ورسوم وقطع موسيقية، ارتفعت في سماء أربع مدن اردنية هي العاصمة عمان ومأدبا والفحيص والسلط. وكانت حفلة الافتتاح التي اقيمت في المسرح الروماني الصغير (أوديون) الذي يقع وسط البلد في الساحة الهاشمية هي لحظة الاختلاف الذي سعت المنظمات إلى تكريسه سياقاً لاعادة تأثيث العلاقة بين الفنان والجمهور، حيث كان الرهان قائماً على اساس تقديم فن راق إلى جمهور عادي في الاماكن التي يتواجد فيها. رهان بدا لأول وهلة خاسراً.
الفقرة الأساس التي اعتمدت عليها حفلة الافتتاح كانت ترتكز على تقديم قصائد لشعراء عرب أموات بأصوات شعراء عرب معاصرين. ولكن مَن يتذكر عرارا والسياب والماغوط وسميح القاسم وسط ضجيج الأخبار المتشائمة، حيث صار قطع الرؤوس جزءاً من حروبنا العبثية الصغيرة. كنت أتوقع أنني سأقرأ مقطعاً من قصيدة السياب الخالدة «انشودة المطر» للمقاعد الحجرية التي هجرها الرومان. ولكن شيئاً خيالياً حدث نسف كل توقعاتي. كان الجمهور الذي يقف خارج المبنى التاريخي أكثر بكثير من الجمهور الذي امتلأت به مدرجات ذلك المبنى. كنا في لحظة تاريخية مازحة.
في تلك الحظة بدا واضحاً أن المجازفة النسوية قد نجت من فشل، كان يتمناه الكثيرون، ممن صاروا يؤمنون بيأس المحاولة الثقافية. لقد فتحت امسية الافتتاح الباب على أمل واسع وطمأنينة كانت إلى وقت قريب مرجأة. وقف الشعراء زهير ابو شايب وزكريا محمد وسمر دياب وأسماء عزايزة وجلال الأحمدي ومحمد عريقات ووليد سويركي ومحمد الحرز وجيهان عمر وعامر بدران وعبود الجابري وجمانة مصطفى أمام الجمهور وهم يشعرون أن الشعر استعاد ثقة الجمهور العادي به. كانت اللعبة قد كسرت قالب الشاعر النجم وإطار الجمهور المسحوق بظلال الأصنام الشعرية. كان سكان «الخان»، من جمهور وشعراء قد تخطوا هلع الوقوف أمام الايقونة ليشاركوا معاً في حوار منفعل، كان الشعر مادته الخصبة.
«شيء من الشعر يكون نافعاً لكي نبقى» تقول جمانة مصطفى وهي تقصد جملة هولدرين «ما يبقى يخلده الشعراء»، فكان الشعر حقاً بوابة للموسيقى والرسم وهما يمتزجان في بحث تصوير – نغمي يذكر بالارتجال الذي بدأه الروسي كاندنسكي وصنع منه الأميركي جاكسون بولوك مائدة لوحوش الرؤى السعيدة.
ولأن «خان الفنون» لم يكن نشاطاً رسمياً ولا ربحياً فقد كانت حريته ملهمة للمشاركين في أن يعدوا أنفسهم بعلاقة مفتوحة بجمهور لم يكونوا يحلمون باللقاء به. جمهور قُدر له أن يكون نخبوياً بسب إقباله على غذاء جعله سوء الفهم محط رياء اجتماعي من جهة كونه علامة تفوّق. شيء من الشعر كان كفيلاً في أن تنهار الأوهام القديمة المصنوعة من اليأس العقائدي. لقد غصّ خان الفنون بالأصوات والأشكال والأفكار التي لم يكن لها أن تنسجم لولا خفة التنظيم التي أنزلقت قواربها الورقية في مياه الشعراء والموسيقيين والرسامين لتهبها صفاء تجلى في لوحات الفلسطيني تيسير بركات والمغربي حسان بو رقية والعراقي حسن حداد.
خان الفنون كان حدثاً استثنائياً من جهة قدرته على أن يخترق الحياة العادية بأصوات لا يسمعها المرء في كل مكان.