قوم إذا عشقوا ماتوا: قصص الحب العربية القديمة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*هالة صلاح الدين

المصدر: العرب

 

نرنو إلى الفنانين لنسترق النظر إلى العالم بعين مختلفة، أصيلة، وأحيانا شبه مستحيلة، بما يطلقونه من خيالاتنا وما يمهدونه من طرق وصولا إلى أحلامنا المهدورة.

سبعة منهم يشاركون في موضة العصر الفنية، ألا وهي الاضطلاع بدور القيّمين، في أحد أكبر المهرجانات البريطانية، مهرجان “بريطانيا المتغيرة”، المقام تحت رعاية مركز ساوث بانك اللندني.

 

وفي إطاره يهدف الفنانون إلى إدراك ما حل بوطنهم من تقلبات ثقافية وسياسية، بعيونهم وكذلك بعيون الآخرين، متأملين ما ألمّ بقضايا المساواة والعدالة الاجتماعية من إيجابيات وسلبيات في خلال سبعين عاما من التاريخ البريطاني.

 

ألهمت المهرجان سلسلة الكتب “حكايات من قدس جديدة” للمؤرخ ديفيد كيناستون، وفيها يعاين درجات تبدل المجتمع البريطاني في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

 

كما يستدعي المهرجان مهرجانا آخر انطلق عام 1951 تحت اسم “مهرجان بريطانيا”، مستحضرا كيف بث مهرجان الخمسينات إحساسا إيجابيا بالتعافي من الحرب وبشّر ببداية مجتمع الرفاهة.

 

ولكن هل يتشكك البريطانيون الآن في قيم هذه الاحتفالية القديمة وما أكدت عليه من حقائق لم تكن تقبل وقتذاك الجدل؟ سؤال يجاهد مهرجان “بريطانيا المتغيرة” للإجابة عليه.

 

 

بداية فنية

 

بدأ مهرجان “بريطانيا المتغيرة” بسلسلة من حفلات الأوركسترا السيمفوني ومعرض بغاليري هايوورد اللندني يتواصل حتى السادس والعشرين من شهر أبريل تحت عنوان “التاريخ الآن”، كلمتان متناقضتان اقترحهما المخرج السينمائي الغاني المشارك في المعرض جون أكومفرا.

 

يسلك سبعة فنانين في المعرض رحلة عمرها عقود أفضت بهم إلى هذه اللحظة، طارحين آراء عدّها النقاد راديكالية. في البداية طلب المعرض منهم تعريف “بريطانيا العظمى”، وسبر ألغازها إن وجدت، مستغلين أية أساليب فنية قد تتراءى لهم.

 

فجدّ الفنانون في الإجابة على سؤال يشغلهم جميعا رغم اختلاف أعراقهم وأديانهم، “ما الذي يعنيه أن تكون بريطانيا في عام 2015؟” هل هناك شيء اسمه “الهوية البريطانية”؟

 

والنتيجة كانت سبعة معارض في معرض واحد، تتبلور كلها في آفاق رحبة دون وعظ أو تلقين.

 

يجلب كل فنان رؤيته وجمالياته المتفردة إلى فن المعمار وينفخون الحياة في النحت ويقفون على جماليات الرقص المعاصر، متكلين على عدد من النماذج الفنية لتحقيق أغراضهم كاللوحات والتماثيل والتصوير الفوتوغرافي والملصقات الإعلانية ومقتطفات من أخبار التلفزيون والموديلات ومختلف الزهريات، وكذلك أدوات مجتمعية كالخرائط والأزياء والجرائد والمذكرات الشخصية والمواد العلمية والعسكرية.

 

ولحرية نعموا بها في التعبير سوف نلفي موادّ حساسة قد لا تصلح للزائرين الصغار من لقطات جنسية عارية وأجساد تلاعب بها برنامج الفوتوشوب دلالة على الموضوعية المزيفة.

 

 

الحشمة الرتيبة

 

تغطي أعمال السبعة قماشة لا بأس بها من الأفكار، من بينها الحرب الباردة، وحركات السبعينات الاحتجاجية، والصحوة النسوية، وثقافة المشاهير المتغلغلة في نسيج المجتمع، وأزمة البطالة في مستهل الثمانينات، “قفازات منتفخة تتعلق في قفص وتمثّل أياد عاطلة، وإنما قادرة”.

 

كما يسلط بعضها الضوء على شخصيات عامة أثرت على اتجاهات الدولة المستقبلية وشكّلت بقراراتها حيوات أجيال.

الفنانون من أجيال مختلفة، أكبرهم ريتشارد وينتورث في نهاية عقده السابع، وأصغرهم سيمون فوجيوارا الياباني الأصل في مستهل عقده الرابع.

 

تحفل قطع وينتورث بتصادمات وتقاطعات متعمدة، تلقي نظرة على بريطانيا إبان شباب الفنان، الأربعينات والخمسينات والستينات، وأن يتوخى الحزم وهو يشدّد على الصلة بين ما يسميه “الحشمة الرتيبة” التي شابت الحياة المنزلية من ناحية والتطور التكنولوجي والعسكري من ناحية أخرى.

 

وفي العقد التالي يدين فنان المفاهيم فوجيوارا المجتمع الذي أسفرت عنه سياسات مارغريت تاتشر، وتلك النقلة النوعية من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد الخدمات.

 

يبرز الفنان الملقّب “بأستاذ التركيبات الفنية” نصف طن من الفحم من آخر معاقل المناجم البريطانية إلى جانب زي ميريل ستريب الذي أدت به دور المرأة الحديدية، زي ألهمته إياه نظريات الاقتصادي دانيل فوجيوارا عن “الاقتصاد السعيد”.

 

وفي مشهد متوتر ثان تتعارض مناظر بريطانيا الطبيعة المفعمة بالشعرية مع حاجتها العسكرية إلى حماية حدودها. نلمح في لوحة فنان الحرب السريالي بول ناش دخانا منذرا بالسوء يتخلف من تشكيلات الطائرات المشرفة على السهول النضرة.

 

إنها “معركة بريطانيا”، اسم أطلق على محاولة الألمان الهيمنة على سلاح الطيران الملكي البريطاني من يوليو إلى سبتمبر 1940، وكان فشلهم نقطة تحول في الحرب الدائرة.

 

وإليها يضيف ناش لوحة أخرى أسماها “البحر الميت”، وتتجلى فيها هياكل مقبضة لمئات من الطائرات الألمانية المتحطمة.

 

 

علاقة ريبة

 

ضيّق البريطاني روجر هايورنز مداه الفني ليسجل موضوعا واحدا مهووس به، الذعر المرافق لمرض جنون البقر ونسخته البشرية مرض كروتزفيلد جاكوب أثناء الثمانينات والتسعينات، وتأثيره على العلاقة بين الحكومة والجماهير من حيث جدل الرعاية الصحية المجانية وحرية استغلال المعلومات.

 

يدعم هايورنز موضوعه بفيض من المعلومات الخام، منها جماجم حيوانات تتدحرج بجانب أرجلنا، متيحا لنا بحرا من الأبحاث العلمية، منها ما يقدّر عدد من يضمرون مرض كروتزفيلد جاكوب بأربعة وعشرين ألف شخص في بريطانيا، رقم تنكره المذكرات الحكومية. ومن بين ما يبرز فيلم يأكل فيه رائد البوب آرت الأميركي آندي ورهول بأصابع خرقاء شطيرة من لحم البقر الملوّث، وبعدها يرغم وزير الزراعة البريطاني ابنته على أكل الشطيرة نفسها.

 

إنها اللحظة التي “فقد فيها العامة ثقتهم بحكومة هذه الدولة” كما عيّنها هايورنز. كانت هانا ستاركي قد راكمت حائطها بإعلانات المجلات، تذكرة بقوة البروباغندا الضارية ومثال على صور خادعة يمطرنا بها السياسيون.

 

 

اغتراب المرأة

 

ترسم الأختان جين ولويز ويلسون فضاءات حداثية مشحونة معماريا في شوارع إيرلندا الشمالية أثناء الاضطرابات وقاعدة غرينهام الجوية في جنوب بريطانيا.

 

عندما وافقت الدولة على الاحتفاظ بقذائف نووية أميركية بقاعدة غرينهام في الثمانينات، ضرب عدد من النساء معسكرا حولها احتجاجا على الخطوة.

 

ألقت السلطات على العديد من النساء اللاتي لم يترددن في العودة إلى المعسكر بينما لبثت بعض النسوة هناك حتى أزالوا الأسلحة في عام 1991. وإلى الجمهور قدّمت الأختان ويلسون فاكهة المعرض، فيلما قصيرا للفنانة الفلسطينية لبنانية المولد منى حاطوم تحت عنوان “مقاييس البعد”.

أرغمت حاطوم على حياة المنفى وهي تزور لندن عندما اندلعت الحرب بلبنان عام 1975. التحقت بكلية بيام شو للفنون، ومن صميم التشرد وفقدان البوصلة عبّرت عن الاغتراب الثقافي بوصفها امرأة أولا، وعربية ثانية. تتراوح أعمال حاطوم بين استفزاز صراعات معينة وبين دلائل تجديدية تتناول عنف المجتمع الطبقي والجنسي.

 

تطوّع في معارضها موادّ من البيئة اليومية، من زجاج ومعادن ودبابيس وبرادة حديد، حتى أن أمها قالت لها ذات مرة، “أنت فنانة، ولكنك لم تعطينا حتى اليوم لوحة لغرفة الجلوس”.

 

نالت حاطوم جائزة مؤسسة جوان ميرو الإسبانية في عام 2011 للعبها دورا رياديا في “فتح الممارسات الفنية أمام الواقع غير الغربي وإبراز الصلات بين الثقافة الغربية الرفيعة والأحداث السياسية والثقافية التي تتخطى الحدود القومية”.

 

يراكم فيلم حاطوم “مقاييس البعد” عدة طبقات من الأدوات الفنية في تعاطيه مع علاقة دم في منتهى الحميمية. تلوح خطابات كتبتها أم حاطوم في بيروت إلى ابنتها في صورة نص عربي، “كيف كانت تفتقدني، كيف كانت تكره الحرب لأنها فرّقت بيننا”، وفي الوقت ذاته تطفو الحروف على صور الأم المستحمة تحت الدش، فتصير الكاميرا أداة غزو رمزية لجسد المرأة. وهكذا تتراءى الحروف العربية وكأنها حجاب يستر الجسد أو أسلاك شائكة توجعه. تحول الحروف بصريا دون أن تتعرّى الأم بالكامل، فتداري المرأة الساكنة داخل هذا الجسد مثلما تفضحه.

 

وهكذا تسبح حاطوم عكس تيار المسلّمات، متحدية النموذج المقولب الموحي بأن المرأة العربية خانعة وبأن الأم كائن لا جنسي.

 

وقد ركّبت الفيلم بصريا بحيث تعلن كل لقطة عن اقتراب فعلي وابتعاد ضمني، فعكست علاقة إبداعية غنية تهشم التابوهات الدينية والبطريركية المحدقة بجسد الأم.

 

تتناهى إلينا أيضا حوارات مسجّلة باللغة العربية بين الأم والابنة، وفيها تتكلم الأم بنبرة صريحة متقدة عن حياتها الجنسية، مشيرة إلى اعتراض زوجها على رؤية حاطوم لجسد أمّها العاري.

 

وكل السرد يتقاطع مع صوت حاطوم بالأنكليزية أثناء قراءة خطابات أمها.

تعمدت الفنانة ألا تعطي الأولوية إلى لغة من الاثنتين حتى تخلق على حدّ قولها “موقفا عسيرا منفّرا للجمهور الغربي” الذي جاهد لمتابعة الحكيّ.

 

وبالإضافة إلى القهر الجنسي، تتطرق الفنانة إلى انعدام التواصل الذي تتسبب فيه الأرض الغريبة وإحساسها المتعاظم بالضياع، “كوني فلسطينية يعني كل شيء ولا شيء في آن واحد”.

 

 

الشجب اللاذع

 

إن “التاريخ الآن” خليط ثقافي من المؤثرات العقلية التي تنال من أذهاننا عبر هجمات حقيقية على الحواس الخمس. ولا عجب، فبريطانيا أمة أشبه بحقيبة من الخرق، قد تتناغم أو تتنافر وفقا لتفضيلات المجتمع أو النزوع السياسي للسلطة.

 

كان موقف معظم فناني المعرض هو الشجب اللاذع، سواء حين استجلبوا الماضي عبر سبعة عقود منصرمة، أو حين تطلعوا إلى المستقبل ونصب أعينهم الاستحقاق البريطاني المحوري في مايو المقبل. سدّدوا بلا تحفظ عينا ناقدة لحقب ألهبت استياءهم، فأناروا لحظات فاصلة في رحلة أمتهم من خلال 250 قطعة فنية، ليترك الزائر المعرض مستدركا خيبات الماضي، وسائلا، هل الدولة جديرة بالثقة؟

 

ولكن بين التقشف والاستهلاك، وبين فساد السلطة وخصخصة ممتلكات الدولة، لا يزال يقبع الأمل في صورة مقشات أزالت الحطام الناتج عن أعمال الشغب عام 2011، علامة على مجتمع يقظ يحمل ذاكرة حية.

 

سوف يتضمن مهرجان “بريطانيا المتغيرة” مناقشات سياسية قبل الانتخابات البريطانية العامة ثم سيكرّس يوما للفنانين، من بينهم أعضاء أوركسترا “لندن سينفونيتا”، الذين سوف يحملون رسالة، شبه تهديدية، إلى الحكومة الجديدة حول أهمية الإبداع وخطورة حجر الدولة على المنتج الثقافي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى