قيس المولى.. شاعر الضفة الاخرى

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

د. علي حسون لعيبي

 

شاعر يملأ النص بماء الافكار الناضجة بنسق متسلل وكأننا أمام مسرح متنقل. حالات إنسانية فريده يشاهدها بترحاله المستمر. ذلك السفر الذي يجمع بين التأمل والمتعة. يعيش اللحظة بكل تفاصيلها بل يكاد يكون أحد شخوصها. هذا القيس الذي يمنحننا بعضا من روحه الطيبة.. بنصوص تحاكينا.. لأنها تتنفس مثلنا.

 

لا يخلو نص من تلك الملهمة، المرأة القيدسية التي رأى من خلاها تكامل الحياة.

 

كتب منذ سبعينيات القرن الماضي بحداثة ملفتة للنظر. وأصبح كما يطلق نقاد الادب من شعراء تلك المرحلة المهمة من التطور الشعري العراقي، واكبته قريبا منه.. فشعرت أننا أمام كتلة انسانية مشتعلة بالحب والانسانية.. لم يتشظَ مع تراكم هذا الكم من التغيرات المفاجاة، فبقى هو المولى حاملا قلمه ليكتب للناس.. لا لشخصنة معينة.

 

الكتابة عنه كإنسان وأديب مهم في المشهد العراقي تحتاج الى مراجعة تمتد لسنين، لكن سأحاول أن التقط بعض ما يغور في قلبه وعقلة المتقد بالأمل والعمق الثقافي.

 

وحتى نصل اليه سابدأ بالمرأة هذا الكائن الحيوي الجميل الذي كان له السبق في حياته. إننا أمام شاعر يرى أن هذا الكائن الاسطوري له وقع كبير في حياته ربما لتجاربه المتعددة أو هي نظرة مشرقة إيجابية من خلالها تتجمل الحياة: عشقها كأم وكحبيبة وصديقة:

 

أنتِ …

 

حين ترتدينَ فستانَكِ الذي يُشبهُ الغُروب

 

أو حين على غفلةٍ

 

تتصلين بي

 

وتسافرين الى لندن،

 

بل وحين تعودين بعد يوم واحدٍ الى بغداد

 

ليست هناك بعودتك وبهذه السرعةِ أشياءٌ قصدية.

 

ويسترسل بنا بمشهد بتصاعد درامي مذهل:

 

وأنا …

 

ليست هناك أشياء تُرتبُ من قِبلي بقصديةٍ

 

حين ترينيَ

 

أفتحُ الكتابَ وأغلقه لعشراتٍ من المرات

 

أو حين أقفُ جوارَ المكتبة لساعات

 

ليست هناك أشياء قصدية

 

حين أجلس يوميا مقهى السيدة

 

وأستمعُ الى:

 

أنا بأنتظارك .. خليت .. ناري بضلوعي وعديت .. بالثانية غيابك

 

ولاجيت،

 

وليست هناك أشياءٌ قصديةٌ

 

عندما تقفين أمامي

 

وتفتحين حقيبتك لتريني علبةَ السكائر

 

الباراسيتول

 

وصورة الفيس برسلي

 

وليست هناك أشياءٌ قصدية

 

عندما أطرق برأسي

 

جدارَ شريف وحداد

 

وأطلبُ المزيدَ

 

وأنا والنادلُ نغني:

 

يا ريتني

 

يا ريتني

 

يا .. ياريتني

 

عُمري مَحَبيّت

 

لم يكن قيس المولى شاعرا لا يحسب فعل الحدث في نصوصه. ولا اسلوبه الثر في الكتابة، فهو يرى المتلقي حين يقرأ له. لذلك جاءت كتاباته سيلا ممتعا ومفيد وسلسلة ليست مقيدة. فقد أطلق لقلمه العنان بجرأة لكي يصور لنا جوهر الحالات الانسانية:

 

لا أكتب بطريقة 1+1=2

 

ولا بطريقة الباء لا بد أن تأتي بعد الألف

 

ولا بطريقة علاقة العصافير بالأشجار

 

والنهر بالزوارق

 

والليل بالنجوم والصباح بالشمس

 

ولا حتى بطريقة الـــ H لابد أن تأتي بعدها O2 كي تصبح H2O

 

أو إن ذكرت النارَ لا بد أن أذكُرَ الهواءَ والماءَ والتراب

 

نحتاج لدلالات جديدة

 

دلالات من غير معناها المألوف

 

دلالات تحقق المفارقة بين هذه المفردات وقريناتها

 

وهذا لا يحدث إلا بخلق لغة غرائبية ومجهولة

 

وليكن يفُهمها فقط

 

قارعو الطبولَ في الغابات

 

والمنسيون في أماكن ما من العالم

 

كي نقلبَ الطاولة الكونيةَ

 

لنعيشَ سُعداءَ

 

في رحابِ هستيريا الشّعر

 

ونزقِ جنونه

 

وللذكرى أيضا وقع في حياته ونصوصه. وتلك صحبة المبدعين من عاصرهم في ترحالهم وفرديتهم. وتلك النرجسية المثقفة الخاصة في التعبير عن الحياة بصغية تختلف. فهم جميعا لهم وجهات نظر تصل حد العبثية المنظمة المحددة، فمع المجون هناك التزام. ومع الفوضى هناك القانون الذاتي الذي يحركهم، فيكون نتاجهم راقيا يصل ذروة المتعة غير المتداولة والتي لا يفهمها إلا من تعرف على ما وراء تلك الحياة المختلطة بالحزن والفرح، فهو يتمنى أن يعود الشاعر الغزي ليكمل ما بدأ من نص غنائي، فسر ذلك الواقع وتلك المحنة. قضية الوصول لمعنى الحياة الحقيقي، فهم مبدعون حقيقيون، لكن لم تعُط لهم ما يستحقون:

 

من يأتني بــ جبار الغزي منَ المَقبرة …

 

لم يؤكد الوَقتُ الذي كان فيه لون الضَّباب أصفرا،

 

واليوم الذي دُهسَ فيه على جسر الأحرار

 

نادلُ شريف وحداد،

 

واللحظة التي قرأ بِها جبار الغزي نصه الغنائي الجديد

 

أمام قيس مجيد المولى،

 

وقد تحدثا عن مقهى الفنانين في الصالحية، وزهير الدجيلي، ولميعة توفيق (هذا الحلو قاتلني يا عمه .. فدوه شكد أحبه وأرد أكلمه) وعن (يَم العيون السود ماجوزن أنه) وعن (شكول عليك … أكول أنساك .. مر طرواك) و(سلمى يا سلامه … خنتي العهد وياي .. الليل ما نامه .. يشهد عليّ غطائي) وعن (غريبه الروح…):

 

ووصفا عصا المايسترو بــ عصا آمون

 

وفرقة الإنشاد

 

الخوارق في الليلة الظلماء

 

ثم خلُصا بعد أن تناولا الكأس الأخيرة من قنينة (مستكي)

 

خَلُصا:

 

أن كلَ شيء تافه ..

 

تفاهة الذي يريد أن يكملَ:

 

رسمَ الفرس الذي سيركبه دون كيشوت

 

ويكملَ “قطار لينين” الذي سيتجه لبتروغراد

 

وكذا القطط السيامية التي ستُباع في سوق واقف

 

وأن كل شيء في العالم لكي يكون جميلا

 

ينقصهُ رسم المحطة التي ينطلق منها الباص الــ (71) من باب المعظم الى حي جميلة؟

 

من خلال معرفتي بالاديب الكبير قيس المولى، أرى هناك كنزا من المعلومات التي امتلكها من خلال تلك القراءة الواعية منذ أن بلغ الحُلم. وتجربته في السفر والترحال الدائم، والتي ترجمها في مجموعة مؤلفات تجاوزت العشرات. لكن ما زال يشعر بالغربة الثقافية. إن هناك شيئا أخر لم يأت بعد، ويجب البحث عنه والتقصي عليه:

 

أتعاطفُ والمصابينَ بنوباتٍ هستيرية

 

ثم وأنا أتخيّل بأنني أكتب

 

أُفَهرسُ الواردَ من مخيلتي

 

وأرمي بعضَ أشكالي الى الهوامشِ

 

أُفكرُ في ذخيرتي من الوّقت

 

إن أكملتَ رسائلَ المهاتما

 

شَرحَ إبنَ عقيل

 

أو الملكة في سُن الرُّشد

 

سأكون على سَطحِ كوكبٍ آخر

 

وأنادي الذينَ على الأرض

 

من يقترح لي عنواناً

 

أو

 

من يمهد لي بخاتمة

 

وقد غابت الطاولةُ والكتابُ وذخيرةُ الوّقت

 

ورسائلي التي كتبتها في سن الرُّشد

 

هذا بعض من الانسان والشاعر قيس المولى. وهو يحاول العبور للضفة الاخرى بثقة وبلا تردد، عسى أن يصل.

 

 

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى