«كافيه سوساييتي» لوودي آلن.. كابوس ما تبقى من عمر

علي زراقط

يبدأ وودي ألن فيلمه الأخير «كافيه سوساييتي» عبر صناعة نمط من مشاهد تقديم الشخصيات. يبدأ بعرض المكان في لقطات عامة مليئة بالتفاصيل الهامشية التي تنتظم في سياق ادعاء العفوية. تفاصيل تملأ الشاشة بوجوه، ديكورات، كلام، وموسيقى تنتظم في سيولة حركتها مع حركة الكاميرا لأجل أن تفتح الباب للشخصية الأساسية في المشهد كي تحتل المساحة كاملة فتنسحب كلّ التفاصيل إلى الخلفية. بداية الفيلم من الناحية التقنية تستحق أن تدرّس في الكتابة والإخراج، وما يضفي عليها السحر هو التصوير المتقن للمصور فيتوريو ستورارو، الحاصل على ثلاث جوائز أوسكار لأفضل مصور.
البناء المشهدي الذي يفتح الباب أمام الشخصيات كي تنمو أمام الكاميرا، وتجعل من الديكورات مساحة حياة، فيظهر الزمن السينمائي كما لو كان مقتطفاً من الحياة الواقعية ليبدو كما لو كان بلا بداية وبلا نهاية، مسكوناً بالقلق منذ الأزل ومستمراً فيه حتى الأبد. هذا البناء المشهدي هو الصنعة الرئيسية، وأقوى ميزات أحد أهم المخرجين على قيد الحياة. لا يمكن القول إن «كافيه سوساييتي» هو أحد أفضل أفلام وودي ألن، إلا أننا لا يمكن أن ننتظر من رجل في الثمانين من العمر، وبمسيرة تحوي أكثر من أربعين فيلماً أن يعطينا في كل فيلم تحفة تستطيع أن تهزم أهمّ أعماله. نستطيع أن نكتفي من الفيلم بكونه فيلماً ممتازاً، ممتعاً وقاسي النظرة على القدر الانساني الذي يحكم الأشخاص بالندم الدائم مهما كانت خياراتهم في الحياة. ليذكرنا ببلاغة وودي آلن السينمائية التي تمكّنه من إيصال أفكار معقّدة، ومواقف فلسفية من الوجود والانسان في صيغة بسيطة لا بل تدّعي العفوية.

خيارات أوسع
يصل الشاب الطموح بوبي (جيسي إيزنبرغ) إلى لوس أنجلوس، قادماً من نيويورك، باحثاً عن مستقبل أفضل وخيارات أوسع ومفتوحة على المغامرة. يحاول الوصول إلى خاله فيل (ستيف كاريل) عميل المواهب الكثير الانشغال، الذي يقدّمه إلى مجتمع صناعة التسلية والأفلام في المدينة. بوبي القادم من نيويورك، مدينة التجارة، الثقافة، المال، والحواري التي يملأها الفقراء، يجد الخواء في لوس أنجلوس. المدينة التي يختبئ سكانها خلف أسوار قصورهم، ظانين أن هذه هي الجنة. تاركاً عائلته المؤلفة من أب فاشل في التجارة، وأم متسلطة، أخ يعمل مع العصابات، وأخت محبة ومتزوجة من أكاديمي هاو للفلسفة، يحاول بوبي أن يجد الحميمية والعاطفة في المدينة الجديدة بعيداً عن التناقضات العائلية. يجدها في فوني (كريستين ستيوارت)، فيقع في حبها من النظرة الأولى، أما هي فتبقيه معلّقاً إلى أن يهجرها صديقها، عندها تفتح له الباب لعلاقة. إلا أن المشكلة هي أن صديقها ما هو إلا خاله الذي قدّم له الدعم في هوليوود. هنا يبدأ المثلث، ولا ينتهي عندما يعود بوبي إلى نيويورك.
من خلال رحلة عبر المجتمع المخملي في هوليوود، ونيويورك خلال حقبة الثلاثينيات، نشاهد الحياة المرهفة من خلال عيون شاب طامح إلى كل شيء، المال، الشهرة، الحب، والحياة الاجتماعية الناجحة. عندما نحس أنه وصل إلى ذلك كلّه، يعود بنا الفيلم إلى نقطته الأولى فيبرهن لنا بالدليل أن هذا كله لا معنى له، لأننا سنعيش كل أيامنا في حال من الندم. الندم على قرارات أتخذناها عندما كان علينا يوماً أن نختار بين أمرين: بين نيويورك ولوس أنجلوس، بين امرأتين (أو رجلين)، بين صناعة الأفلام أو المطاعم، بين انجاب الأطفال أو عدمه، مهما كان الخيار فسيبقى الخيار الآخر الذي خسرناه كالكابوس الذي يؤرق ما تبقى من العمر، لتبدو الحياة كما لو كانت «مكتوبة من قبل كاتب كوميديا سادي» مثل ما جاء على لسان بوبي في الفيلم.
ديكورات المجتمع الراقي في الثلاثينيات من القرن العشرين تحتل المساحة لتغنيها، فتترافق مع موسيقى الجاز التي تطبع الفيلم من أوله إلى آخره، لتضع المشاهد في جو من النوستالجيا التي تغلّف بورتريه اجتماعيا يستمتع بمشاهدة حياة البذخ، ويحسن وصفها واستخراج خوائها كما خواء الحياة بشكل عام. النوستالجيا صارت تأخذ حيزاً أكبر في أعمال ألن الأخيرة، هذا الفنان الذي يشعرنا خلال أعماله أنه يصنع السينما كعمل يومي، شغوف ومستمر منذ أكثر من خمسين سنة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى