كبار في تظاهرات صغيرة وعودة الى الستينات

الجسرة الالكترونية الثقافية-الحياة اللندنية-

من ناحية منطقية، يفترض ان تكون فاتنة السينما الأميركية في الخمسينات، نجمة أفلام هتشكوك، وبعد ذلك آسرة قلب أمير موناكو، غريس كيلي، النجمة المطلقة للدورة الجديدة لمهرجان «كان» السينمائي في جنوب فرنسا والذي يفتتح فعالياته في الرابع عشر من أيار (مايو) المقبل، تحديداً بفيلم «غريس أوف موناكو» من إخراج الفرنسي أوليفييه دهان وتمثيل نيكول كيدمان. فغريس التي قضى عليها حادث سيارة أوائل سنوات الستين، بعد اعوام قليلة من اعتزالها السينما وتحولها الى أميرة لذلك البلد الثري الصغير الواقع بين ايطاليا وفرنسا، كانت موضوعاً دائماً للتوقعات بصدد فيلم يتحدث عن حياتها القصيرة. والآن إذ تحقق هذا الفيلم وسيقدّم عرضه الأول في «كان»، من الطبيعي ان يملأ الدنيا ويشغل الناس هناك. غير ان دخول صوفيا لورين على الخط قبل أيام عبر إعلان المهرجان استضافتها وتكريمها كضيفة شرف لهذه الدورة، سيجعل فاتنة الخمسينات والستينات الإيطالية شريكة مؤكدة لزميلتها الأميركية الراحلة في النجومية «الكانية»، إذ هي الأخرى وشخصياً – على عكس غريس التي تحضر بالواسطة – ستكون مالئة الدنيا «الكانية» وشاغلة ناسها، بشكل سيجعل الإثنتين معاً تعيداننا الى العصر الذهبي للنجومية السينمائية عودة يشتاق كثر اليها منذ زمن طويل.

 

أسماء فوق العناوين

ومع هذا، من المؤكد ان «عودة» الفاتنتين، على رغم كل ما تحمله في ازدواجيتها من دلالة، لن يكون من شأنها ان تكسف نجوميات كثيرة أخرى، من نجومية رئيسة وأعضاء لجنة التحكيم، الى نجومية كبار المخرجين الذين سيجتمعون في «كان» لتقديم أفلامهم الجديدة، في المسابقات الرسمية او على الهامش، او حتى احياناً في «سوق الفيلم»… فحين يكون هناك دافيد كروننبرغ وكين لوتش ومايك لي وجان – لوك غودار وايغويان وبلجي جيلان ورولف دي هير وفيم فندرز وغيرهم، لا يعود ممكناً الحديث عن الممثلين والممثلات النجوم وحدهم. بل يصبح علينا ان نتنبه في كل لحظة الى مشاطرة اصحاب «الإسم فوق العنوان» – وفق التسمية اللافتة التي أطلقها فرانك كابرا على المخرجين المميزين يوماً – لأصحاب الأسماء اللامعة تلك المكانة. وإذا كنا في الملحق الفائت قد استعرضنا بعض أبرز الأفلام «الكبيرة والمنتظرة» التي تشارك في هذه الدورة، سيكون من المفيد هنا ان نستعرض ما سيعرض في التظاهرتين، التاليتين من حيث الأهمية، لتظاهرة المسابقة الرسمية التي تعتبر ذروة المهرجان عادة.

فإذا كان لافتاً من نظرة استعراضية أولى لبرامج الدورة ان «المسابقة الرسمية» تخلو هذه المرة من اي «فيلم أول» لأي مخرج جديد، يصبح من الضروري لمحبي اكتشاف كل ما هو جديد في هذا المجال، التوجّه الى التظاهرات الأخرى ولا سيما الى تظاهرة «نظرة ما» وتظاهرة «نصف شهر المخرجين» اللتين نعرف ان معظم كبار اليوم في عالم السينما قد مروا بهما خلال نصف القرن الأخير عارضين فيهما اعمالهم الأولى او الثانية التي سجلت حينها انطلاقتهم في فضاء الفن السابع.

 

مكان لـ «المبتدئين»

ففي تظاهرة «نظرة ما»، يلاحظ ان هناك من بين الأفلام التسعة عشر المشاركة، سبعة أفلام هي باكورة مخرجيها، أي أكثر من ثلث ما هو معروض، وتعتبر النسبة هنا مدهشة إذ تتعلق بمحاولات أولى لمجهولين تمكنت من ان تتفوق على عشرات الشرائط التي ترسل الى لجنة الاختيار قبل المهرجان بشهور، ففرضت نفسها عليهم الى جانب افلام مخضرمين متبارية في طريقها للحصول على جائزة «الكاميرا الذهبية» التي تُمنح للعمل الأول أو الثاني وتعتبر الوحيدة في «كان» ذات القيمة المالية. ولعل اللافت أكثر هو ان فيلم الافتتاح هو أول لمخرجيه الثلاثة وعنوانه «فتاة الحفل»، والى جانبه في التصنيف نفسه يأتي فيلم «تيتلي» لكانو بيهل، و «اليانور ريغبي» – على اسم احدى اجمل اغاني فريق «البيتلز» في الستينات – لنيد بينسون، و «النهر الضائع» الذي حققه الممثل النجم رايان غوسلينغ في اول تجربة اخراجية له، ثم «ثلج في الجنة» لآندرو هولم و «فتاة عند بابي» لدوهي – يا، وأخيراً «اركض» لفيليب لاكوت. أما من بين المخضرمين الذين لا بد من ذكرهم هنا فهناك فيم فندرز الذي يعرض جديده وهو فيلم عنوانه «ملح الأرض» حققه مع، وانطلاقاً من، العمل الفوتوغرافي الرائع للمصور جوليانو ريبيرو سالغادو الذي اشتهر خصوصاً بتصويره العمال في المصانع والمناجم، ما يجعل من المحتم القول ان ملح الأرض في عنوان الفيلم إنما هم اولئك العمال انفسهم الذين أمضى سلغادو عمره يصورهم في لوحات رائعة، بخاصة بالأبيض والأسود. وفي التظاهرة نفسها تطالعنا ايضاً اعمال للفرنسي ماتيو امالريك («الغرفة الزرقاء») والإيطالية آسيا آرجنتو («غير المفهومة»)، والإثنان الأخيران يشاركان غوسلينغ وأمالريك في كونهما ينتقلان، وإن ليس للمرة الأولى، من التمثيل الى الإخراج. والى جانب هؤلاء هناك ايضاً الفرنسية باسكال فران التي تعود الى «كان» بعد مشاركات عدة في الماضي كان ابرزها مع فيلمها «تسويات صغيرة مع الموت» قبل سنوات، وهي تعود هذه المرة في فيلم جديد هو «بيرد بيبول»… أما زميلتها الإسرائيلية، الغاضبة دائماً على سلطات بلادها وتمييزها العنصري ضد العرب والنساء، كارين يدايا، فتعود بدورها مع فيلمها الجديد «بعيداً من غيابه»، ومهما يكن، فإن يدايا لن تكون الإسرائيلية الوحيدة في دورة «كان» لهذا العام الذي سيشهد من جديد تفوق السينما الإسرائيلية، في حجم المشاركة على الأقل، على السينمات العربية مجتمعة. فمقابل فيلم عربي وحيد أُعلن عن مشاركته حتى الآن، ويعرض خارج المسابقة الرسمية وهو فيلم للسوري المقيم في المنفى هذه الأيام مثل العدد الأكبر من المبدعين السوريين، أسامة محمد، هناك ما لا يقل عن سبع مشاركات إسرائيلية، ما يجعل من الدولة العبرية واحدة من الدول الأكثر حضوراً في «كان» بعد فرنسا!

بيد ان العرب لن يكونوا الوحيدين الذين قد يلحظ كثر غيابهم عن «كان» لسنة جديدة بعدما كان ما سمّي قبل ثلاث سنوات بسينما الربيع العربي قد جعل حضورهم منشوداً ومتوقعاً، وحقيقياً ولو في شكل جزئي خلال العامين الفائتين.

هذه المرة، حتى في «سوق الفيلم» لن يكون الحضور العربي كبيراً، بل ربما سيكون معدوماً، على رغم ان عدداً لا بأس به من المخرجين كانوا قد ارسلوا افلامهم الى لجان الاختيار، فخاب أملهم حين لم يتم اختيارها وراح البعض، كالعادة على اية حال، يتحدث عن مؤامرات وما شابه!

مهما يكن، لا يزال الوقت مبكراً دون القول الفصل في هذا المجال، ويقيناً ان أحاديث وشكاوى كثيرة ستتردد في اروقة المهرجان لاحقاً للحديث عن هذا الأمر. فالصحافة العربية ستكون كالعادة حاضرة بوفرة والاتهامات جاهزة والمؤامرات ممكنة… بحيث إن عرض كل فيلم اسرائيلي سيصحبه بالتأكيد نحيب عربي ما…

 

في ملعب الصغار

هذا بالنسبة الى تظاهرة «نظرة ما»، أما بالنسبة الى «نصف شهر المخرجين»، فإن هذه التظاهرة تعرض من ناحيتها سبعة عشر فيلماً في مسابقة الأفلام الطويلة الى جانب دزينة من الأفلام القصيرة. ولعل ما هو جدير بالملاحظة هنا، في السياق نفسه الذي تحدثنا عنه أعلاه، هو ان هذه التظاهرة ذات القيمة الفنية المميزة والتي كانت تعتبر ميدان الاكتشاف الرئيس في عالم الفن السابع، ولا سيما بالنسبة الى بعض السينمات العربية التي شهدت فيها امجاداً كبيرة في عقود غابرة، تكاد تكون اليوم ملعباً للسينما الإسرائيلية ولا سيما منها تلك الغاضبة على حكوماتها عادة، أو حتى المنشقة عنها بشكل او بآخر. ففي دورة هذا العام، يعرض اسرائيليون لا بأس بعددهم أفلامهم الجديد ويتطلع بعضهم الى الفوز بالكاميرا الذهبية. ومن ابرز الإسرائيليين هنا روني الخباز وأخوها شلومي وسيلين شاما وعساف كورمان…

لكن المفاجأة اللافتة هنا تكمن في ان بعض الأفلام المعروضة تحمل تواقيع مخرجين كبار قد تتطلع كبريات المهرجانات العالمية للحصول على أفلامهم، نقول هذا ونفكر على الأقل بمخضرمين كبيرين هما جون بورمان وفردريك وايزمان، فالأول يعرض جديده «ملكة ووطن» الذي قد يذكّر عنوانه بواحد من أول أفلام بورمان نفسه في سنوات الستين «للملك والوطن»، فيما يعرض الثاني عملاً جديداً له لا تقل مدة عرضه عن ثلاث ساعات عنوانه «ناشنال غاليري» من الواضح ان هذا التسجيلي الكبير الذي يعتبر من آخر الباقين أحياء من مبدعي هذا الفن، يقدم فيه صورة ستكون مختلفة حتماً لذاك الذي يعتبر من اعظم متاحف العالم، بلغته التسجيلية المميزة. ومن المؤكد ان اختيار مبدعَين من طراز بورمان ووايزمان عرض جديدهما في تظاهرة «متواضعة» من ناحية البهرج والإنفاق مثل «نصف شهر المخرجين» سيذكر بما فعله زميلهما فرانسيس فورد كوبولا حين آثر قبل سنوات ان يعرض فيلمه الحميم «تيترو» في التظاهرة نفسها في وقت كانت كبريات المهرجانات في العالم تتطلع الى لفتة منه!

في التظاهرة نفسها ايضاً اعمال لمبدعين اصغر سناً ولأسماء جديدة يمكن كثراً ان يراهنوا منذ الآن على انها ستكون خلال السنوات التالية اسماء كبيرة راسخة في عالم هذا الفن المدهش… فن السينما. ولنحفظ منذ الآن بعض هذه الأسماء: جيم ميكلي («برد في يوليو»)، دانيال وولف («امسني بشكل ابويّ»)، توماس كالّي («حب من العراك الأول»)، ماتيو وارشس («فخر»)…

وطبعاً هذا كله والذي لا يزال يشكل بالنسبة الينا حتى الآن مجرد عناوين، سنعود اليه ويعود اليه غيرنا باستفاضة خلال الفترة التالية لكونه علامة تنحو في اتجاه المستقبل… غير ان هذا لن يعني عدم الالتفات الى الماضي، حيث، ومنذ الآن، تبدو برامج «كان» متخمة بما يذكّر بأقوى وأجمل علاماته. فإلى جانب صوفيا لورين وغريس كيلي، كما الى جانب مخضرمين يجعلون من دورة هذا العام منبر عودتهم، ستكون هناك عودة الى «ولادة سينما رعاة البقر على الطريقة الإيطالية» واحتفال بمرور ثلاثين عاماً على السعفة الذهبية لفيلم «باريس/تكساس» لفيم فندرز، «تحية الى هنري لانغلوا» وكذلك الى كيشلوفسكي وحضوره المتكرر في «كان» قبل رحيله، ناهيك بنسخة رُمّمت ألوانها من فيلم سيرغاي بارادجانوف الرائع «سايات نوفا»…الخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى