كتابات العُمر لفاضل عباس هادي

الجسرة الثقافية الالكترونية

*محمد مظلوم 

 

منذ شعر المعلَّقات، عُرفتْ ظاهرة الشعراء المُقلِّين في الشعر العربي، يستوي تحت هذا التوصيف المعمِّرون من الشعراء كعبيد بن الأبرص، والرَّاحلون في شبابهم، كالفتى القتيل طرفة بن العبد، وهما اثنان من أصحاب تلك المعلقات. وإذا كانت أشعار المكثرين من الشعراء لا تخلو من الإسفاف بتوصيف النقد العربي، فإنَّ أشعار المقلِّين تتسم، عادةً، بمتانة ورصانة لافتتين، ذلك أنهم حريصون على العناية بقصائدهم، ولا يميلون إلى الاسترسال والتراكم الكمي، لكن الشاعر العراقي فاضل عباس هادي يخبرنا في تقديمه لكتابه «قدح من الدموع المجفَّفة إلى أوديت – دار الجمل 2015» بأنه شاعر طَبعٍ لا صَنعة، وهو يؤمن بأنَّ الشعر تلقائيٌّ، وليس إنهاكاً للقريحة أو استدعاء قسرياً لها، فإعادة النظر في القصيدة، بعد ولادتها، تمثل في رأيه عقلانية، وتلك ليست من «شيم الشعراء» لأنها تجرِّدُها من الغنائية والتلقائية، وتحيلها إلى حالة ذهنية، يرى أنها من إفرازات المجتمعات الصناعية الأنكلوسكسونية!

وفاضل عباس هادي شاعر ستيني، من ذلك العقد الذي يسمِّيه «العقد الفريد» وهو جيل لم يخلُ هو الآخر من وجود شعراء مقلِّين لأسباب شتى، فمؤيَّد الراوي، ظلَّ رهين «نزهة في غوَّاصة» بعد أن تقلَّب في «احتمالات الوضوح» وجان دمّو كان قد انكفأ مبكراً على حياة بديلة عن القصيدة، أما إبراهيم زاير، فقد كتب بالمسدَّس على صدغه، قصيدته الأخيرة فمات منتحراً، بعد أن تفرَّقت من حوله «طيور» بيروت.

 

المتمرد

وهذا الشاعر المقلّ، ينظر إلى تراثه بحميمية زائدة، فيجمعها في كتابه تحت وصف: كتابات العمر الأدبية، وهو يشيد بجزع رامبو المبكِّر من الكتابة! ولأنَّه لم «يتمدرس» ولأنَّه متمرِّد تراجيدي لم يفكِّر يوماً بأن يكون له أتباعٌ يدُورون في فلكه ويتسقَّطون أفكاره.

بضعة وخمسون نصَّاً من الشعر والنثر، حصيلة نصف قرن من الكتابة، بمعدَّل نصٍّ واحد، شعراً أو نثراً، في كلِّ عام، إنها «حوليَّات» صريحة إذن، ومع هذا يقرِّر فاضل سلفاً في تقديمه للكتاب، بأنه غير معني بتجويد أشعاره، بينما «يعمد» إلى تصنيف مواد الكتاب تصنيفاً مهجَّناً، لا أجناسياً، فنقرأ قصيدة، ثم مقالة أو ترجمة، قبل أن نعود لقراءة قصيدة أخرى..، إلا ينطوي هذا التصنيف، وإنْ بدا عشوائياً، على منطق وقصديِّة ما؟ عدا ذلك فأن منطق قصيدته، منطق اختمار لا ابتسار، اختمار داخلي طويل وإنْ تجسَّد بعفويته الأولى: «في سرِّنا حَفَرنا لنا قبراً في الجبال/ وطيَّرْنا سرباً من القبَّعاتِ والأقنعة/ وعُدنا إلى المُدنِ بعدَ أنْ ترَكنا/ ظلَّنا يُراقبنا مِنْ أعلى قِممِ العالمِ/نحنُ الكوميديون الحزانى!!»

لعلَّ أفضل توصيف لشعر فاضل عباس هادي أنه شِعرُ صورة وتأمُّل، شعر يزهد بالبديع اللفظي، وفتنة اللغة، وحتى بالبناء النسيجي لقصيدته، فيما يعتني أكثر بالصورة، الصورة الملتقطة من الإفراط في التأمُّل، وليس من خيال هلامي، المصنوعة من المهمل البسيط، لا من الكوني المركب، في تدفُّق صُوَري يعوِّض تقنية البناء وفصاحة الجملة.

في قصيدته «في جزيرة التيجان» نزعة تصويرية مضاعفة، تقارب الشغف، هذا الشغف لعله ما سيدفع الشاعر، في وقت لاحق، للتحول إلى مصوِّر فوتوغرافي، يحمل الكاميرا في الشوارع والمقاهي والأماكن المفتوحة يقتنص الْمَشَاهد، بعد أن كان يتجوَّل في الغرف المظلمة للذات، ولا يمتلك كاميرا أو إضاءة مناسبة.

 

قصائد التأمل

وإذا كانت «في جزيرة التيجان» نموذجاً لشعر الصورة لدى فاضل عباس هادي فإن قصيدة «الشتاء يكتب بقلمٍ ذهبيّ» نموذج صريح لقصيدة التأمُّل، والأسئلة الهاملتية، إذ يتكرَّر فيها الفعل اللغوي: أرى، مقابل عجز في الفعل الفيزيائي: «رأيتُ لا أريدُ أنْ أرَى /لم أردْ أنْ أرى لكنَّني رأيت» ثمة لمعانٌ مُغرٍ للمشهد، لكنَّ اليدَ التي تمسك بقلمٍ ذهبيّ، تحلم بفأسٍ سوداء بحجم هذا الشتاء والبياض، أمَّا هو، الذي لم يفعل شيئاً في حياته، فيريد أن يستريح!

قصيدة «قدح من الدموع المجفَّفة إلى أوديت» يمكن أن نسمِّيها حَدَقة شعره، إنها قصيدة المونولوغ الداخلي في المسافة الصعبة بين الرحلة والخيبة! تطلعات أسيانة للحبيبة، لتلك التي لم تكن! ولوعة فقد ولا جدوى البحث. فتبرز التشكيلية الغرائبية، لتتخلل صوره الشعرية «الملائكة تعدو شاحبة وفي يَدِ كلِّ واحدٍ منهمْ باقةٌ من الكرفس الصناعي» هذه القصيدة، تجمعها أكثر من آصرة، أدائية وفنية، مع قصيدة مجايله سركون بولص «آلام بودلير وصلت» ومن اللافت أن القصيدتين منشورتان في عام واحد 1969.

لا نكاد نجد مرجعية واضحة للشعر العربي في قصائده، وقد يكون ذلك مســوغاً في حالة فاضل الذي عاش منذ وقت مبكِّر من السبعينات في عواصم أوروبا الكبرى: باريس، برلين، لندن، فقصــيدته خلاسية من تزاوج تلك الثقـــافات التي عاش معظم حياته في أكنافـــها، إلا أنَّ ظلالاً خفيفة للوجدان المشرقي تتحرَّكُ أحياناً على ملامح تلك الخلاسة، ولعلّ هذا ما يمكن أن يوصف بالمأزق الهوياتي، بين خـطابه المضمر وأدائه المعلن. فعددٌ مــن تــلك القصائد، ذات البيئة الحلمية، هـــي قصائد ستينية، حقبةً ونزوعاً، أغلبـــها مكتوب ومنشور قبل مغادرته العراق، وتحمل كلَّ تلك الخصائص الستينية المعهودة في الشعر العراقي اليساري آنذاك، ذلك الجيل المعجب، بالثورة الشبابية الفرنسية والحركة الهيبية في أميركا، بما تحملانه من رفض واحتجاج، ومن نزوع إنساني واستلهام رموز غربية كبرى. في مقابل أشعار الاتجاه القومي لدى طائفة أخرى من شعراء ذلك الجيل. لكنَّه وبعد عقود من إقامته في أوروبا، لا تبدو تلك الإشادات القديمة كافية لخلق التآلف معها، فنقرأ له أطول قصيدة في الكتاب في مثالب القارة التي كانت يوماً يوتوبيا جيله، بعد أن اضمحلَّتْ ملامح اليوتوبيا في عالم كابوسي، فهي لم تعد «لوليتا» ليتهجاها «نابكوف» ومن هنا تتحوَّل الحروف الهجائية لكلمة أوروبا، إلى أبجدية للهجاء المقذع ضد أنانية المدنية الحديثة وهي تطمر روح الحضارة، وعلى طريقة غينسبيرغ، ينعتها بالتوحُّش، والنكروفيلية الجانحة نحو متعتها مع الموتى، وتنتهي القصيدة بتمجيد حتى النفايات في البلاد، والقطط الهامشية، والنساء اللواتي يذهبن إلى بيت القصيد بلا مزيد من الاستهلال.

زهد البناء الذي نلحظه بوضوح في قصائده الطويلة نسبياً، سيتحوَّل إلى بنية حكائية صغيرة متماسكة في قصائده القصار نسبياً: «سيرتا» «أنجليكا» «مقاطع إلى ميلوزين» كأن التخلي عن فخامة المعمار نوع من «الالتزام» بالحريَّة! بتلك «الغنائية التلقائية» التي يتبنَّاها، فيعمد إلى تقنية التقفية للأسطر المنثورة في قصيدة «يوميات الغائب في عناق البتولات» على رغم أن مقاطع القصيدة الإثني عشر قصيرة، وتنحو إلى الاختزال والجملة القصيرة. أو يمزج أحياناً الشعر بالقصّ، على طريقة حسين مردان في النثر المركز «الدخول في غرفة مظلمة بدون كاميرا» ويتجوَّل في حلم بيكيت، الحلم الذي لا يمكن استعماله للصالح العام «لم يكن في الحلم أيُّ أحد»

غالباً ما تقوم العبارة لديه على الجملة الاسمية: الموضوع ومحموله، في كيمياء ذات انحراف دلالي، قصيدة «تعريفات» آخر قصائد الكتاب، تلخِّص إلى حدِّ بعيد تقنية البناء الاسمي للجملة: «النسيان: أفقٌ رماديٌ شوَّههُ برجُ إيفل./الحلم: وقفةٌ سورياليةٌ على الأطلال./ذاكرتي: ساعةٌ بدون رقَّاص ونهرٌ بلا ضفاف./أنا: دمعةٌ تحجَّرتْ على خدِّ مِصباح».

 

قلق وجودي

في نثره المتخلِّل متون الكتاب نستعيد معه قناعات ستينية، حول الوقائع، وآراء يسارية ثورية، عن الكتابة والشعر والترجمة والروافد الثقافية لذلك الجيل: كيركغارد، دوستويفسكي، بيكيت، مايكوفسكي، بروست، سارتر، جويس، رامبو، أوكتافيو باث، كولن ولسون… شخصيات قلقة وملتبسة، يسارية، وجودية، ذات لوثات ملونة، يعيد قراءة ظلالها البعيدة بتأويل مختلف. ومن بين ترجماته اللافتة، ترجمة لقصائد الشاعر البيروفي «قيصر باييخو/ شيزار فاييهو» كما يكتب اسمه، فنقرأ أربعـــة وعشرين قصيدة مختارة، كتبها صاحب « إسبانيا خذي هذه الكأس منِّي» في أيامه الأخيرة وهو يحتضر في أحد فنادق باريس، ويراقب مشهد العالم يستمر برتابته المعتادة.

أنه كشكول أشعار وترجمات ومشاهدات وقراءات. لكن ما يؤشر فيها انحسار واضح للسيرة، صحيح أنَّ ثمة سيرةً أدبيةً تشي بها الكتابات المتنوعة، بيد أن ما هو ذاتي وشخصي يبقى مؤجلاً أو منحسراً. ولأنها «كتابات العمر» فهي بانوراما تجمع بين المتعة والعمق معاً، حتى وإن كانت دموعاً في قدح، وليست شلالاً أو نهراً يتدفَّق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى