كتاب الطفل في مصر.. سوق ضعيفة والمستقبل للالكترونيّ

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

وئام يوسف

 

«أحب اللعب والحب والكتب والموسيقى والمدينة والقرية». عبارة اختصر بها الكاتب الفرنسي لا فونتين (1621 ـ 1695) نفسه. عمقٌ وبساطةٌ جعلا حكاياته مصدر إلهام لأدب الأطفال العربي، الذي اشتغل فيه محمد عثمان جلال وأحمد شوقي منتصف القرن التاسع عشر. أُفرِد للطفل فضاءٌ بتنا نفتقر إليه الآن، في ظلّ العتمة الثقافية الناتجة عن المتغيرات الجذرية التي تمر بها المنطقة، والتي جعلت الأدب عموماً وأدب الطفل خصوصاً يعانيان مشكلات عديدة في بلدٍ تؤكد الدراسات أنه نقش أدب الطفل وصُوَره على جدرانٍ وبرديات تعود إلى ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد. تدهور المنظومة التعليمية، وقصور الدراسات التحليلية والوصفية المختصة بدراسة ميول الطفل واختياراته، وغياب النقد الأدبي المتعلّق بمستوى التأليف ونوعيته، كلّها جعلت الكتاب من هوامش حياة الطفل المصري. لكن، كيف يعود أدب الطفل إلى المقام الأول، ويصبح الكتاب رفيقاً للأطفال جميعهم، في الأوقات كلّها؟

كتاب الطفل.. صناعة صعبة

تؤكد الكاتبة والرسامة رانية حسين أمين أن بعض الناشرين اضطروا لإيقاف طباعة كتب الأطفال نتيجة كسادها لديهم، في ظلّ حالة ركود تعيشها سوق نشر أدب الطفل. تضيف أن ثقافة نشر كتاب الطفل غير مفعّلة جيّداً إلا ضمن شريحة معينة من المجتمع، قادرة على شرائه. هي تحبّذ شراء كتاب الطفل المطبوع بالفرنسية أو الإنكليزية. تقول إن كتاب الطفل كان أكثر انتشارا قبل العام 2010، عبر نشاطات ومسابقات تقام في المدارس على مستوى الجمهورية، وتشجّع على توزيع كتب الطفل بأسعار مناسبة. وضعت أمين مجموعة قصص أطفال، منها سلسلة «فرحانة» (كتابةً ورسماً)، صادرة عن «دار الياس». حقّقت السلسلة نجاحاً تعلله أمين بقربها من الطفل: فرحانة (بطلة القصص) تتحدّث بلسانها مع الأطفال. تشير أمين إلى ضرورة أن يكون الكتاب قريباً من الطفل، وأشبه بصديق يشاركه مشاعره وأحلامه بعيداً عن الوعظ والنصيحة.

«كتاب الطفل صناعة ضخمة ومتشعّبة الأطراف، يدخل فيها المؤلّف والرسّام والناشر، فضلاً عن أزمة التوزيع والتسويق. كلّها عوامل تجعل تداول كتاب الطفل غير سهل»، تقول الرسّامة سحر عبدالله، مشيرة إلى أن دور النشر الحكومية تسعى إلى نشر كتاب الطفل في أنحاء الجمهورية بسعر مقبول، لكنه ليس بمستوى ما تقدّمه دور النشر الخاصة، الساعية إلى طباعة كتب ذات جودة عالية مضموناً وصورة، لكنه باهظ الثمن، ولن يكون بمتناول الجميع. تؤكّد عبدالله أن العلاقة بين المؤلف والرسّام يجب أن تكون ممنهجة، ولهما روح واحدة تظهر في الكتاب بالمواءمة بين الكتابة والصُوَر المرافقة لها، مع ضرورة توافقهما مع الناشر أيضاً لإخراج الكتاب بـ «أفضل شكل ممكن». تضيف أن القصص تأخذ الآن شكلاً جديدا يقوم على الإيقاع السريع، وهي مجموعة مشاهد تتلاحق لبلوغ الفكرة المطلوبة، بموازاة الرسم، وهو فضاء له ثقله وأهميته في خلق حالة بصرية تحقّق المتعة لدى الطفل، وتجعله يفكّر ويتأمّل ويناقش، ثم يستنتج الفكرة من دون نصيحة. تشير إلى ضرورة أن يعي الرسّام واقع الطفل، ويوازن بين الواقع والخيال، ويجعله شريكاً في الرسومات والقصة، محاولاً الوصول معه إلى حلول، كونه جزءاً من الحكاية وليس متلقياً فقط.

من جهتها، تقول بلسم سعد ـ مديرة «دار نشر ومكتبة البلسم» المختصة بكتب الطفل ـ إن الظروف السياسية المليئة بالتحديات في الأعوام الماضية جعلت سوق كتاب الطفل تغرق في الركود، وقد تأثرت بذلك الدول العربية من حيث الإنتاج والتوزيع، مشيرةً إلى أن الوضع من ناحية الإنتاج على الأقل بدأ يتحسّن تدريجياً الآن. تضيف إن تحديات كبيرة تواجه نشر كتاب الطفل في مصر، «أهمها ارتفاع تكلفة إنتاجه. فعلى عكس كتب الكبار، نجد أن الرسم الداخلي في الكتاب مكلف، وأن تكلفة الطباعة الملوّنة عالية. لكن، يكمن التحدّي الأكبر أمام نشر كتاب الطفل في التسويق والتوزيع. فالتعريف بالكتاب لإقناع القارئ بأهميته بعينه ليس سهلاً، ولا يوجد عدد كاف من الصحفيين والنقاد المختصين والمعنيين بما ينتج من كتب الأطفال. التوزيع صعبٌ داخل البلد، كما في الدول العربية. وما يزد الطين بلة الآن، التوترات القائمة في بلدان عربية عديدة».

دور النشر.. تعثر الإنتاج والتسويق

تتردّد دور نشر في نشر كتب الطفل، لأسباب عديدة منها التخصّص. ما يقدّم للطفل يجب أن يكون مناسبا للسنّ الموجّه إليه. هذا تؤكّده سعد، مشيرة إلى أن ارتفاع تكلفة إنتاج الكتب واختلاف طرق تسويقها وتوزيعها من أسباب ابتعاد بعض دور النشر عن كتب الأطفال. أحدها كامنٌ في صعوبة وصول كتاب الطفل إلى قوائم «بيست سلر»، ولا يرجع ذلك إلى عدم جودته، بل لضعف التسويق من قبل الناشر، ولعدم اهتمام الصحافة والإعلام بشكل كافٍ بالتعريف به.

لأن الطفل عماد المستقبل، وبناؤه لبنة أولى للسعي إلى الأفضل، لا بُدّ من مساعدته وتحفيزه على اكتشاف ذاته والعالم عبر الكتاب. تؤكد سعد ضرورة رفع وعي الأسرة والمدرسة والطفل بأهمية القراءة خارج المناهج التعليمية. تقول: «علينا العمل لجعل الأطفال يُحبّون القراءة من صغرهم. علينا أن نوفّر لهم كتباً متنوعة تناسب ميولهم، وأن نكون ـ خصوصا في المدرسة والمكتبة ـ على دراية بمحتوى الكتب وتنوّعها لنساعدهم في اختيار كتابهم المقبل، ولنساهم في تنمية حبّ القراءة لديهم. أيضاً، يجب إعادة الاهتمام بالمكتبة المدرسية، وتزويد المكتبات بكتب متنوّعة، إلى جانب تفعيل دور تلك المكتبات (في المجال هذا)».

من ناحية أخرى، فرضت «الثقافة الإلكترونية» نفسها بقوة في الأعوام الأخيرة، نتيجة الطفرة التكنولوجية الناتجة عن التفوّق الصناعي والمادي، فغرق الطفل العربي في طوفان من الألعاب والتقنيات، ما يؤدّي إلى طرح سؤال: «كيف يستثمر هذا التغيير لينعكس إيجابياً على الطفل، ويساهم في تنمية فكره ومواهبه بما يتناسب وطموحه، مع الحفاظ على الهوية والقيم العربية؟». تقول رنا سيد، المديرة التنفيذية لـ «شركة EduKitten لتطبيقات تعليمية وترفيهية للأطفال»، إن التطبيقات مُصمَّمة في الشركة، وإن بعضها مستمد من تصميمات غربية «تناسب الطفل العربي، وتساعد على تطويره»، مشيرةً إلى أن التطبيقات تقوم على الإفادة والمتعة والتشويق، مع «مراعاة الفئات العمرية وما يناسب كلّ منها»، مضيفةً أن الشركة تستعين بتربويين مختصين. تقول إن الشركة تقدم تطبيقات لأعمار الأطفال جميعهم، بداية من سنّ عامين، عبر تطبيق يعرّفهم بالأشياء المحيطة بهم، كـ «حرفوف»، وهو تطبيق حروف يعلّمهم أبجديات الأحرف، كما تعرض الشركة تطبيق «تفضّل معي»، الذي يعلّم الأطفال تصنيف الحيوانات وأسماءها. للأكبر سنّاً، «نطلعهم على ما يخصّ الشؤون التربوية والتقويم السلوكي، بطريقة سهلة ومشوّقة بعيدة عن الملل، كتطبيق Don’t Harass Me، وذلك بالتعاون مع الموقع السعودي «لا تتحرّش بي»، الذي يطلع الطفل على كيفية التعامل مع مواقف التحرّش بأسلوب تربوي مبسّط وغير صادم، يوصل الفكرة إليه، ويساعده على التعامل مع الموقف هذا». في مقابل بلوغ عدد متابعي تطبيقات الشركة إلى 450 ألف متابع في العالم العربي، ترى رنا سيّد أن كتاب الطفل الورقي «لا يزال يحتفظ بحضوره في السوق على الرغم مما يعانيه من مشكلات»، مشيرةً إلى أن «السيطرة مستقبلاً، لأسباب بيئية واقتصادية واجتماعية، ستكون للكتاب وللتطبيقات الإلكترونية».

الكاتبة سمر طاهر تشير إلى أن القصّة المحكية بصرياً إلكترونيا باتت أكثر انتشاراً بعد العام 2010. لمواكبة هذا التطور، نشرت كتابها «أنا نادية» كتطبيق على شبكة «إنترنت» في العام 2013، متعاونةً لذلك مع شركة EduKitten. وهي تعتبرها «تجربةً جيدة» لاقت نجاحاً، على أن تسكتملها بنسخة ورقية تصدر نهاية العام 2015، لتعرف مدى الإقبال عليه أيضاً. تقول بضرورة تبنّي «وزارة الثقافة» مشاريع تدعم كتاب الطفل، وتساعد في انتشاره، خاصة في ظلّ ظروف السوق الصعبة التي تحول دون نشر الكتب بما يكفي.

بوادر أمل

«لتجاوز العوائق التي تحول دون نشاط أدب الطفل، اقترحت «الإدارة المركزية للنشر» خريطة تطويرية تهدف إلى عودة الرؤى العربية الواحدة لأدب الطفل، والوقوف على كلّ ما هو جديد في المضمون والشكل، وفي الإبداع المقدّم في مصر والعالم العربي. عندها، يشعر الطفل بأهمية ما يقدّم له»، كما يقول شريف جيار، مدير «الإدارة المركزية للنشر». يقول بضرورة تقديم الجديد بآليات وأدوات متناسبة مع طفل القرن الـ21، بإقامة ندوات وورش عمل عربية مشتركة، بالإضافة إلى الالتقاء بالطفل المصري، ومعرفة مشكلاته وأفكاره ورؤاه، ليكون الكتاب قريباً منه، مع التنبّه إلى ضرورة الاستعانة بـ «تراثنا التاريخي والفلسفي واللغوي، لكن بطريقة سهلة وعصرية». يضيف أن مسابقة الأطفال التي أطلقتها «الإدارة المركزية للنشر» مؤخّراً (11 آب 2015) منطلقة من وعي الإدارة بأهمية كتاب الطفل وضرورة تطويره، في المضمون والصورة والألوان. هدفها نشر الجديد في إبداع كتاب الطفل، وتعزيز قدرات الطفل الخيالية والجمالية بإصدارات عربية جديدة داعمة للهوية العربية ومتوافقة مع الحداثة.

لعلها بداية جديدة تضع أدب الطفل على عتبة أخرى يطل عبرها على قيم جديدة، تحاكي الطفل المصري والعربي في إطار إبداعي تنويري يعزّز الثقافة والهوية العربيتين، بعيداً عن النمطية والتوجيه.

 

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى