كتاب عراقيون: إبراهيم البهرزي أنت حر في سجنك

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

عواد علي

 

حين سُجن صاحب القصيدة العذبة “عيون المها بين الرصافة والجسر”، الشاعر علي بن الجهم، أرسل لمن أمر بسجنه من وراء القضبان أبياتا قال في مطلعها:

 

قالوا حُبستَ فقلت ليس بضائري حبسي وأيّ مهنّدٍ لا يُغمَدُ

 

أوَ ما رأيتَ اللّيثَ يألفُ غِيْلهُ كبرا، وأوباشَ السّباعِ تردَّدُ

 

وختمها بهذا البيت:

 

والحبسُ ما لم تغشَه لدنيّةٍ شنعاء نِعمَ المنزلُ المتورّدُ

 

ذلك لأن الشاعر لم يودَع خلف القضبان لجرم شائن يعاب عليه، وإنما بسبب وشاية كيدية من خصومه. ومثل علي بن الجهم شعراء كثيرون، قديما وحديثا، زجّهم خصومهم المتنفذون في السجن بتهم ظاهرها قانوني أو معقول وباطنها كيدي. والشاعر إبراهيم البهرزي واحد من هؤلاء الشعراء، يقبع الآن في السجن بتهمة فساد إداري مفبركة لفقها أعداؤه، وأخذت بها محكمة صورية، بسبب مواقفه الوطنية واصطفافه مع قضايا شعبه وتطلعاته إلى الحرية والديمقراطية الحقيقية، وكتاباته النزيهة التي أدان فيها اعتقال المتظاهرين، وفضح الفاسدين والمحاصصة الطائفية الآثمة في العراق المنكوب اليوم، ودفاعه عن أبرياء أهل بلدته بهرز الذين تعرضوا إلى التصفية والتعذيب والتنكيل على يد فرق الإرهاب الدموية والميليشيات الطائفية المسلحة.

 

 

شاعر في السجن

 

لقد عُرف عن الشاعر البهرزي نظافة المبدأ ونقاء السريرة مذ دخل الوسط الشعري أواخر السبعينات، وهو، كما يشهد أصدقاؤه، عاشق خجول شفاف حتى يخيّل إليك أنك لو رميته بباقة ورد سوف تدميه. كما أنه من الشعراء القلائل المتعففين عن الأضواء والشهرة وصخب التجمعات، مؤثرا العزلة والإخلاص لمشروعه الشعري، لم يفكّر يوما في مغادرة بلدته الوديعة، لا إلى العاصمة بغداد ولا إلى الخارج، لأن “الموطن والمنفى لقتيل الرؤيا سيّان!” كما يقول في قصيدته “المنفى ليس هنا… المنفى ليس هناك”.

 

إبراهيم البهرزي، الذي عبّر في الكثير من قصائده عن رثائه للحياة والمدينة والأصدقاء بصور شعرية صادمة، أدرك بوعي المثقف ذي البصيرة، أن الحرية التي يتوهم بعض المثقفين أنها تحققت مع زوال النظام السابق للاحتلال، “قد انتهت منذ أواخر الخمسينات، وحلت محلها حريات المؤدلجين، التي هي ليست إلاّ عبودية مقنعة”. ومن جاء إلى الحكم بعد الاحتلال هم “جيل من الحكام الهمج المنتقمين الذين أبوا إلاّ أن يكملوا سيرة السبي العراقي الطويلة بالمزيد من بحور الدم”. وحين رأى أن الشعر وحده غير قادر على اكتناه آلامنا التي لا تنتهي، وعجائب واقعنا المزري، لجأ إلى السرد فكتب روايته الأولى “لا أبطال في طروادة” ليقول إن الحروب الانتقامية الحمقاء لا تصنع أبطالا، بل قتلة وسفاكي دماء.

 

مثل هذا الشاعر والسارد والكاتب الرائي والمناضل لماذا يُلقى به في السجن، بينما يُترك المجرمون الحقيقيون الموغلون في تدمير العراق، بفسادهم ولصوصيتهم وعمالتهم، طلقاء يتنعمون بثرواته وخيراته؟

 

لترتفع كل أصوات الأنقياء والخيرين في العالم من أجل إطلاق سراحه.

 

تؤكد الروائية والكاتبة العراقية لطفية الدليمي أنها لم تعتد كثيرا على الاحتفال بأعياد الميلاد، ولكن من أجل صديقها البهي الشاعر إبراهيم البهرزي تقول “سأحتفي بعيد ميلاده رمزا للحرية المهدورة في بلادنا، رمزا للإبداع المقتول في وطننا المبتلى، رمزا للفكر الحر وبسالة القول”. وتلفت الدليمي إلى أنه لو كنا في بلد حر ومجتمع يؤمن بالحرية ويدافع عن الأحرار، ووسط ثقافي معافى واتحاد أدباء حيّ يتخذ مواقف مشهودة في الدفاع عن المبدعين وحرية الفكر، لما سُجن الشاعر الشجاع إبراهيم البهرزي دونما وجه حق بتهم كيدية ملفقة. وتحتفي الكاتبة بالشاعر وتشد على يديه، قائلة “نرفع أصواتنا من أجل حريتك، نوقد لك شموع الأمل في عتمة البلاد المهدورة”.

 

وتضيف الكاتبة: صديقي العزيز إبراهيم، أنت مثالنا الحي للفكر النقدي الحر الذي لا يصمت إزاء الزيف والخراب والأيديولوجيات الرثة ورجال الكهنوت مروجي الظلمات، أنت أنموذج حر للمثقف الشجاع الذي نفتقده في زمن الدجل السياسي والزيف الثقافي والمواقف الهشة والمساومات المشينة. ستعود إلينا، تعود إلى بساتين شعرك البهية وأنهار سردك الدفاقة، ففي جعبتك الكثير الكثير مما لم تقله وأنت الذي يقول ما لا يُقال أيها المثقف الشجاع في زمن ندرت فيه شجاعة المثقفين، وتكاثرت ظلال الخواء بينهم.

 

من جهته قال الناقد العراقي ماجد السامرائي: يوم كنتُ رئيسا للقسم الثقافي في صحيفة “الجمهورية” (1977ـ 1991)، نشرتُ في صفحة “آفاق” اليومية أكثر من قصيدة للشاعر إبراهيم البهرزي، وكانت قصائده تلك تصلني عبر البريد، قبل أن أعرفه عن قرب، أو ألتقيه من بعد العديد من القصائد التي نشرتها له. جاءني ذات يوم، فإذا الذي أمامي شاعر بكل ما في الكلمة من معنى: رجل هادئ، وإن كان داخله غاضبا، حميمي التواصل مع ذاته والآخرين الذين لم يخرجوا عن مبادئهم، مخلص لفنّه وكلمته. فهو، كما أذكر من ذلك اللقاء، يهمه أن يكتب ما تكون له دلالته الخاصة. ما يدل على أنه مخلص للشعر، وينظر إلى مستقبله به/ ومن خلاله. لذلك لم يوظّف شعره لإرادة غير إرادته.

 

ويضيف السامرائي: أدركنا الحصار بسنواته العجاف. ومن ثم جاء المحتل الأميركي وجمع من “نكرات بشرية”. فانقطعت عني قصائد البهرزي وأخباره، ولم أقرأ له شيئا في ما استجد من “صحف”. حتى كان الخبر السيء: الحكم عليه بالسجن مدّة عام بتهمة الفساد المالي والإداري.

 

لم يكن الناقد وحده من شك في صحة التهمة الملفقة أساسا، والتي قد يكون وراءها ما وراءها، كما يقول، فهي تهمة ينقضها حضور الشاعر فيه. وإن اليد التي تكتب الشعر عن يقين بأهمية الشعر لا يمكن أن تمتد، كما تمتد أيدي السياسيين الحاكمين، إلى المال العام.

 

 

حرمات ثقافية

 

ويرى الناقد العراقي علي حسين الفواز أن اعتقال أي مثقف سيثير حوله ريبة، لأنه في واقع الأمر يعكس ريبة في السلطة ذاتها التي لا تعرف كيف تصنع الاطمئنان في نظامها الاجتماعي، ولا تعرف ما هي الطرق المشروعة لصناعة الدولة التي يثق الجميع بمشروعها السياسي والحقوقي.

 

يقول الفواز: هذه التوطئة يمكن أن تكون عتبة للحديث عن اعتقال وسجن الشاعر إبراهيم البهرزي، إذ أحيط الاعتقال بغموض شديد، وبتهم لا أظن أن سيرة البهرزي الشعرية والاجتماعية تسمح له بارتكابها، ورغم هذا فإن الأمر مرّ بصمت على “الجميع”، الثقافي بشكل خاص. إلا أن المسؤولية تقتضي موقفا أكثر جدية، ومتابعة قانونية من قبل وزارة الثقافة واتحاد الأدباء، ومطالبة الجهات المعنية بالكشف عن ملابسات الموضوع ومعرفة تفاصيله، والتي قد تكون مبنية على تُهمة كيدية تمسّ قيمته المعنوية، لأن الشاعر البهرزي شخصية عامة، ولها حضور فاعل ومميز في المشهد الثقافي العراقي منذ سنوات.

 

وبعيدا عن توصيف موضوع السجن على المستوى الجنائي، فإن القيمة الثقافية تفترض أيضا توصيفا آخر، وباتجاه أن نضع مثقفينا في سياق يعزز قيمتهم في الوسط الاجتماعي، وينبّه مؤسسات الدولة إلى إيلاء هذا الموضوع أهمية حقيقية، لأن ما جرى يعكس جهلا برمزية المثقف في المجتمع، وهو ما لا نقبله أبدا. يجب العمل على إطلاق سراح الشاعر والكشف عن حيثيات ما جرى، حتى لا تكون حرماتنا الثقافية مباحة للتجاوز من قبل الآخرين.

ويتساءل الشاعر العراقي المقيم في أستراليا عبدالخالق كيطان عن ماهية جريمة إبراهيم البهرزي التي حكم بسببها بالحبس مدة عام كامل؟ وهل يمكن اعتبار الشاعر فوق القانون، ومن ثم يجب عدم وضعه خلف القضبان إذا ما ارتكب جرما؟ وأخيرا: هل يمكن أن تكون آراء البهرزي السياسية، خاصة وهو يعيش في رقعة جغرافية صغيرة للغاية ما يجعل منه ومن آرائه محل مناقشة يومية، وهل تكون تلك الآراء وراء ما حصل له؟

 

يقول كيطان: من المؤسف أنني لم أعثر خلال بحثي سوى على جملة اتهام يتيمة وأطنان من الآراء. يقول موقع إلكتروني اعتاد البهرزي أن ينشر فيه قصائده “تشير المعلومات المتوفرة إلى أن تقصيرا كبيرا من قبل دائرة المفتش العام في وزارة الصحة قد حصل ولم يكن السيد إبراهيم البهرزي مسؤولا عنه، ووجهت له التهمة جزافا. وحين دافع عن نفسه بقوة اتخذت الاتهامات طابعا شخصيا. لم تستمر محاكمته سوى عشرين دقيقة صدر بعدها الحكم بحبسه سنة كاملة. لقد كان الحكم جاهزا ومعدا سلفا”.

 

يضيف: في كل الأحوال يبدو ما حصل وكأنه استهداف شخصي، للبهرزي الموظف، وقبله الشاعر، وهو ما يعنينا هنا. والأمر الملفت للانتباه صمت مؤسسات ثقافية عن الإشارة، ولو بكلمة عابرة، إلى ما تعرض له هذا الشاعر، ومرة أخرى لا تجد مبررا لذلك سوى في مواقف الشاعر السياسية والتي كللها بإعلان استقالته من عضوية اتحاد الأدباء بسبب ما أسماه صعود “الرفاق الجدد” للواجهة في ديالى.

 

ويشير كيطان إلى أن إبراهيم البهرزي شاعر له صوت خاص، وقوي. وهو من الشعراء القلائل الذين انحازوا إلى القصيدة الجديدة الممسوسة بهواجس وعذابات بلاد تناهبتها الحروب والدكتاتوريات والعبثيات.

 

المصدر: العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى