كريستوف كلارو في مواجهة العنف

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

أنطوان جوكي 

بعد «جسد كهربائي» (٢٠٠٣) و «كوسموز» (٢٠١٠) و «كل ألماسات السماء» (٢٠١٢)، يتابع الكاتب الفرنسي كريستوف كلارو اختباراته الأدبية المثيرة بقدر ما هي مبلبلة مع نصّه الروائي الجديد «اختبار التصادم» الذي صدر حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية. نصٌّ يبرهن مرةً أخرى أن صاحبه يحتل، بمهاراته الكتابية والسردية وعشقه الكلمات ومساءلة قارئه حول معناها، موقعاً يتقدّم فيه سائر الروائيين الناشطين في الساحة الأدبية الفرنسية.

هنالك أولاً التلاعب بحجم الحروف والترقيم غير التقليدي وتقطيع السطور الذي يفضي إلى تفكيك بنية النص وتفجير إيقاعه. هنالك أيضاً تناوب الجُمَل القصيرة جداً والجُمَل التي لا تنتهي، أو الفصول الطويلة وتلك التي تتألف من بضع كلمات. مناورات تجريبية كثيرة لا تقتصر على ما ذكرناه، وتجعل من النص أشبه بلوحة راقصة وغريبة تشكّل خير ركيزة من أجل تسليط الضوء على موضوع الإساءة إلى الجسد البشري وإذلاله الذي يقاربه كلارو من زوايا مختلفة.

باختصار، يجد القارئ نفسه منذ الصفحة الأولى منساقاً إلى داخل طاحونة أدبية ذات طابع أدائي لا يخرج منها سليماً، بعد قراءة مجهدة بقدر ما هي منيرة، يتابع خلالها مسار ثلاث شخصيات بإثارة وفضول متصاعدين.

هنالك أولاً العامل الذي يمضي وقته داخل مصنع سيارات في افتعال حوادث سير من أجل دراسة عواقبها المدمّرة على السائق، ما يعود بنا إلى سبعينات القرن الماضي، حين كانت شركات السيارات تقود مثل هذه الاختبارات من أجل تحسين ظروف الأمان داخل سياراتها. ولذلك، كانت تستعين بجثث بشرية تُثبّت خلف المقود قبل افتعال الحوادث؛ جثث أشخاص متوفّين ومجهولي الهوية كانت المشارح تسلّمها للشركات المذكورة مقابل مبالغ كبيرة. ومثل جميع العاملين في هذا المصنع، كان هذا العامل يظنّ أنه اعتاد ظروف عمله المقيتة والمرعبة، قبل أن تجتاح الكوابيس تدريجياً لياليه ويتغيّر سلوكه ويبدأ بمراكمة الأخطاء، فتجبره إدارة المصنع على أخذ عطلة طويلة يستغلها لمغادرة منزله والسفر. وبعد ترحال طويل من دون وجهة محددة، يجد نفسه في مدينة يجهلها ويجهل لغة أبنائها، فيدخل حانة معتمة في إحدى الليالي ويشاهد امرأة يقتصر عملها هناك على التعرّي أمام الزبائن من أجل إثارتهم ودفعهم إلى استهلاك الكحول.

ولأن الموت يكمن دائماً على مسافة قريبة من الجنس، نتعرّف إلى الحياة اليومية لهذه المرأة التي تتجنّب، حين تؤدّي عملها، النظر إلى الحاضرين في الصالة، وتحاول بنظرتها المشحوذة كنصلٍ تمزيق الرغبات الذكورية التي تقابلها، رغباتِ التملّك والتسلّط والاستهلاك التي اختبرتها مرغمةً في ماضيها التعيس. شخصية تسمح للكاتب باستحضار قدر ليندا بورمان التي وقعت في سن المراهقة ضحية شخص منحرف غيّر اسمها إلى ليندا لافلايس وجعل منها أول ممثلة أفلام إباحية ورهينة لانحرافاته الجنسية. ومن خلال هاتين الشخصيتين، يسلط الكاتب الضوء ببصيرة على مسألة ابتكار الأفلام الإباحية وانتشارها خلال مرحلة التحرر الأخلاقي في الستينات، متوقفاً بالتفصيل عند ظاهرة الستربتيز بقواعدها وتطوّرها، وبالتالي عند استراتيجيات تعرية الجسد النسائي من أجل تقديمه كسلعة رخيصة للاستهلاك ولتلبية الانحرافات الذكورية.

وفي السياق ذاته نتعرّف إلى الشخصية الثالثة في الرواية، أي ذلك المراهق الذي لا يجد سبيلاً للإفلات من طفولته القاتمة داخل منزل والديه المدمنين إلا في الكتب المصوّرة للراشدين التي سيكتشفها بالصدفة وتجعل منه لاحقاً رجلاً لا غاية له سوى تملّك جسد المرأة وتدميره.

ثلاث شخصيات معزولة إذاً تحضر كضحايا قسوة محيطها وانحرافاته، لكنها تبدو موحّدة بروابط محمومة ومتقلّبة، وبتشكيلها نماذج مختلفة استعان كلارو بها من أجل تصوير -على شكل نشيدٍ صارخ- قيمة الجسد البشري ومعناه العميق وجاذبيته، من دون إهمال الطاقات التي تكمن فيه وتؤهّله لمقاومة العنف الفردي أو الاجتماعي الذي يمكن أن يخضع له.

ليست المرة الأولى التي يواجه الكاتب موضوعَي الموت والجنس بصخبٍ وفجاجة، لكن الجديد في هذا النص هو بلوغ كلارو فيه قمة إبداعه، فعلى مستوى الحبكة، تتشابك الخيوط وقصص الشخصيات الثلاث بطريقة تشكّل فيه متاهة تعكس تلك التي تتخبّط فيها كل من هذه الشخصيات، ويضيع القارئ فيها ما أن يفقد تركيزه أثناء القراءة. وعلى مستوى اللغة، يصقل كلارو خطاباً موحّداً في جميع فصولها بهدف التدليل إلى وحدة مصير شخصياته. أكثر من ذلك، يبدو بعض جمله مشحوناً بطريقة تقطع أنفاسنا، تماماً مثل المفاعيل الخاصة في الأفلام السينمائية، بينما تضطلع طريقة توزيع الكلمات وإخراجها على الصفحة بمهمتَي تسيير عنف الصدمات المقارَبة ورسم الإنسان الجنسي وأسس إثارته وأحياناً انحرافه، من أقرب مسافة ممكنة.

وهذا ما يجعل من هذا النص تحفة أدبية فريدة يصعب تصنيفها كرواية من دون الإساءة إلى ثرائها. فبإيقاعاته المدروسة والحادة، وبطبيعته المشاكسة، يبدو خاضعاً لمدوّنة موسيقية صارمة ورهيبة تمنح صوتاً للأجساد المعذّبة ولضرورة عصيانها، وتشرّح بالمبضع خيال حقبتنا عبر غوصها عميقاً بالعنف الملازم لها.

 

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى