«كلب بلدي مدرب».. لغة المطارد

الجسرة الثقافية الالكترونية

*وليد خيري

المصدر: السفير

 

مثل الكلب البلدى الأجرب الذى يطرده ويزجره الجميع يعاني «أحمد» بطل رواية كلب بلدي مدرب لمحمد علاء الدين الصادرة عن دار العين فى مطلع هذا العام، لذلك أحسب أن اختيار عنوان كلب بلدي مدرب اختيار موفق ودال جداً فأحمد مطارد من أول سطر فى الرواية إلى آخر سطر.

البطل المطارد ملمح حاد في هذه الرواية، وربما في أعمال محمد علاء الدين عامة، والمطارد هنا لفظ مشبعة بكل دلالات اللفظ وكل معاني المطاردة، فالبوليس يطارده من الصفحة الأولى وحتى الصفحة الأخيرة، وخالته التي يقيم عندها منذ زمن طويل تطارده لدفع فاتورة الكهرباء، وتطارده إذا جاءه صديقه عبد الله المدمن، ونيفين اللعوب التي فتح على لوزة المطواة بين فخذيها لتقليبها أيضا تطارده، ليعيد لها سيارتها مقابل صفقة، وبطلات أفلام البورنو الذي يحفظ بطلنا سيرهن الذاتية الناصعة والخبير بأحوالهن الاجتماعية والنفسية والصحية يطاردنه في أحلامه، وراسيكا التي يرسل لها القصص الإباحية لنشرها على الشبكة العنكبوتية! مقابل 3 دولارت للقصة الواحدة تطارده ليكمل بقية القصص الناقصة، نعم كما توقعت كما يقول محمد علاء الدين فى روايته على لسان أحمد بطل الرواية «دعني أقول إن ما خمنته هو صحيح: أنا أكتب القصص الجنسية لموقع لا أعرفه».

بطل الرواية يتكسب عيشه من خلال كتابة القصص الجنسية لأحد المواقع الإباحية التى ترسل له الدولارات عبر كارت «بيونير»، لكن الأزمة تنشأ حين يذهب أحمد لصرف النقود فلا يجد فى رصيده شيئاً، وأزمة البطل الحقيقية أنه ليس لديه رصيد .. هو لم يحقق رصيداً في حياته ولا شيء يذكر، حتى أن خالته عايرته بأن «جوافة» أقل أصدقاء الطفولة موهبة وقيمة أصبح محاسباً وخطب بنتا جميلة بينما بطلنا محلَّك سرْ حسب رؤية الخالة.

فى الحقيقة هي ليست رؤية الخالة فحسب إنما رؤية مجتمع يرى الإنجاز الحقيقي الوحيد للإنسان أن يتزوج ويتناسل أو يخطب ويعمل محاسباً أو أي وظيفة! .. وهذه الرؤية لا تحتل أدمغة أصحابها فقط ولكنها رؤية تفرض خيالاً إجبارياً على المجتمع بأسره حتى أن بطل «كلب بلدي مدرب» لا يرى فى كلام الخالة شيئاً سيئاً! لذلك البطل ليس له رصيد في الحياة يتكئ عليه ويكون الحل الأفضل دائماً في حالة ظهور بوادر أزمة فى حياته هو الهروب، ويظل مطارداً مثل كلب بلدي مدرَّب على الهروب طوال ما يربو على 120 صفحة هي عدد صفحات الرواية.

شخصية بطل الرواية الذي يكتب قصصاً إباحية شخصية تكتسب أبعاداً إنسانية وعالمية، لكن ما يعيب هذه الرواية الجميلة أن الكاتب لم يلهث وراء هذه الشخصية الرائعة يسبر أغوارها الإنسانية بقدر اللهاث السريع وراء أحداث الرواية في نصفها الثاني، فهربت رواية كلب بلدي مدرَّب إلى دروب جانبية لم نستطع من خلالها رؤية البطل المطارد مثل كلب بلدي، في الوقت ذاته الذي لم نستطع التوقف عن اللهاث المحموم بسبب أحداث الرواية الشيقة في أجزائها الأخيرة، وإن ظهر الجزء الإنساني جلياً في التاريخ الاجتماعي لبطلات أفلام البورنو الذي يحفظه البطل جيدا ويرى ما لا يراه الآخرون عن طيبة ومعاناة المومسات، والذي لا يخطر على قلب بشر من مشاهدي الأفلام الإباحية!

حدِّث ولا حرج عن نوستالجيا قائمة بطول هذه الرواية وعرضها في شكل حنين لعقد التسعينيات، ولأغاني المرحلة نفسها ديدي للشاب خالد ومايكل جاكسون ومسلسلات أرابيسك والسيرة الهلالية وفالكون كريست والجريء والجميلات، ونجمات بورنو المرحلة وشرائط الفيديو ومواويل مسح الهد، والأطعمة وحلوى: سامبا الزرقاء وسامبا الموف وبسكوت الشمعدان، وكقارئ لديه حاسة شم قوية مثل كلب بلدي مدَّرب أستطيع أن أشم روائح التسعينيات بين صفحات الرواية!

تبقى جرعة الجنس الكبيرة في الرواية مثار قلق البعض، لكن رواية تقوم على بطل يكتب القصص الجنسية التي تتحدث ليس فقط عن الجنس العادي ولكن كما تطلب راسيكا من أحمد قصصاً عن زنى المحارم، يبقى الجنس فى الرواية مشروعاً لا فكاك منه بلغة تبدو خشنة أحيانا وصادمة.

تظل اللغة هاجساً رئيسىياً فى أدب محمد علاء الدين، وهي ليست وسيلة فحسب لكنها مشروع وغاية، فهو يتكئ عليها باعتبارها ملاذاً آمناً، لذلك تجيء بعض الأحيان متفاصحة، وتبقى اللغة من أهم السمات الأسلوبية والجمالية عند محمد علاء الدين الذى لا يتخلى عنها. البطل المطارَد فى رواية كلب بلدي مدرَّب لمحمد علاء الدين يذكرنا بالبطل المطارَد في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ، والمطاردة هنا ليست بوليسية لكنها مطاردة الذات لنفسها أو بالأحرى مطاردة الروح التي تسكن الجسد في محاولة للانعتاق.

رواية كلب بلدي مدرَّب بغلافها الدال الجميل الذي رسمه الفنان «مخلوف» والذي يقدم أصابع مدربة على لوحة مفاتيح تصنع حياة البطل، رواية تنال منك منذ السطور الأولى وتمنحك حاسة شم قوية تدرك بها العطن الذي يسكن الروح، وتدرك بها أيضا رائحة حنين لزمن مراهقة لن يعود.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى