كلما اختلفت اللغات اختلفت النظرة إلى العالم

الجسرة الثقافية الالكترونية
خالد غزال
في كتاب مثير للأسئلة أكثر من كونه يملك أجوبة، يطرح عالم اللغويات البريطاني غاي دويتشر مسائل إشكالية حول اللغة التي يتحدثها سكان كل بلد، وما إذا كانت هذ اللغة انعكاساً لطبيعتنا البشرية أم هي انعكاس لتقاليد مجتمعاتنا. وما إذا كانت الاختلافات الثقافية تنعكس على اللغة في شكل مؤثر، وما إذا كانت لغتنا تؤثر أيضاً في نمط تفكيرنا ورؤيتنا للعالم… كل هذا في كتاب بعنوان «عبر منظار اللغة، لمَ يبدو العالم مختلفاً بلغات أخرى؟» (سلسلة «عالم المعرفة»، ترجمة حنان عبدالمحسن مظفر).
ينبه دوتشر القراء مسبقاً إلى أن آراءه المطروحة قد تبدو للبعض هزلية وقد يراها آخرون جدية، لكن المهم أن تشكل مفاتيح لدراسات أعمق حول اللغة ودورها في حياة الشعوب. يحاول إعطاء فكرة تؤشر إلى أن لغة شعب ما إنما تعكس ثقافته وروحه ونمط تفكيره. على سبيل المثل، فإن شعوب المناخات الاستوائية جعلها تستغني عن عدد كبير من الحروف الساكنة. ويشير إلى آراء علماء ومفكرين تطرقوا إلى مسألة علاقة اللغة بطبيعة وثقافة شعوبهم. فالشعب الألماني المتصف بدقة التنظيم الفكري، يعود إلى ان لغته منظمة في شكل واضح. وإذا كانت العقول الألمانية تتسم بهذا التنظيم الشديد، «فقد يكون سبب ذلك غرابة لغتهم الأم التي أهلكت عقولهم فلم تترك لهم مجالاً لتحمل أي شذوذ آخر».
وفي الإشارة إلى شعوب أخرى، يستعير الكاتب أقوال فلاسفة حول موقع اللغة، فيرى فرنسيس بيكون الانكليزي الذي عاش في القرن السابع عشر أنه بالإمكان التوصل إلى معرفة أخلاق الشعوب وعقولها من خلال لغتها. وذهب آخرون إلى القول أن كل لغة تعبر عن شخصية الإنسان الناطق بها. ويشير الكاتب الألماني هيردر إلى أن «فكر وشخصية كل شعب مطبوعان في لغته، فلدى الشعوب الكادحة عدد كبير من الأمزجة في أفعالهم، بينما يزداد عدد الأسماء عند الشعوب المتحضرة الميالة إلى الأفكار المجردة».
يشير الكاتب إلى سجال دار حول المقارنة بين اللغتين الفرنسية والإنكليزية. فالفرنسية مثلاً، تحتوي على كلمات مثل الروح أو الروحاني لا يمكن التعبير عنها باللغة الإنكليزية، ليجرى الاستنتاج من ذلك بأن الشعب الفرنسي لديه روح أعظم أو روحانية أكثر من الشعب الإنكليزي. ويصر أصحاب هذه النظرة على القول أنه إلى جانب كون اللغة الفرنسية عاطفية وروحانية، فهي نموذج للمنطقية ووضوح التفكير، وفق ما سبق لفولتير أن أكد أن سمة اللغة الفرنسية وضوحها وتنظيمها، ما يميزها عن غيرها. لكن علماء لغة ذهبوا إلى القول إن اللغة الانكليزية تتفوق على الفرنسية في نواح عديدة بما فيها منطقيتها. فبعكس الفرنسية، تعتبر الإنكليزية لغة منهجية وحيوية ورسمية ومتزنة، لا تهتم بالجماليات أو الأناقة، بل يهمها الاتساق المنطقي.
في سؤاله المركزي: هل اللغة نتاج الثقافة أم موروث الطبيعة؟ وماذا سنكتشف إذا وضعنا اللغة كمرآة للعقل، فهل سنرى أن المحدد هو الطبيعة الإنسانية أم التقاليد الثقافية لمجتمعاتنا؟ صحيح أن اللغة تقليد ثقافي، وأن أبرز الاختلافات بين اللغات استخدامها أسماء أو ألفاظ مختلفة للمفاهيم، وهي ألفاظ تعود إلى تقليد ثقافي. يقسم الكاتب اللغة إلى قطرين متميزين: مقاطعة التسميات وأرض المفاهيم. تعكس التسميات التقاليد الثقافية والمفاهيم الطبيعية. «ويحق لكل ثقافة أن تضع المسميات للمفاهيم كما تشاء، في حين أن الطبيعة هي التي شكلت تلك المفاهيم». كان المفكر الانكليزي جون لوك يقول أن من حق كل لغة أن تشكل مفاهيمها المجردة أو أفكارها المحددة، وقد أثبت لوك هذه النظرية من خلال «المخزون العظيم لكلمات لغة ما، والذي لا يملك أي مرادف في لغة أخرى. مما يثبت أن أفراد شعب ما، وجدوا أنفسهم بسبب تقاليدهم وسلوكهم في حاجة إلى بناء عدة أفكار مركبة وتعيين أسماء لها لم يضعها شعب آخر.
قادت الطبيعة وموقعها الكاتب ليطرح دور الألوان في المحددات اللغوية لكل شعب من الشعوب. فنجاح الثقافة في ارتداء لباس الطبيعة فتح نقاشاً آخر في أن الفكر التجريدي أو النظري أو الفلسفي لا يختلف حول الفرق بين الأصفر والأحمر أو الأزرق والأخضر. ولكون الألوان من أساسيات الإدراك الحسي، مما يعني أن مفهوم الألوان هو من سلطة الطبيعة. لكنّ سؤالاً يطرح: هل مفهوم «الأصفر» أو «الأخضر» ثابت عالمياً عند البشر، شكلته بيولوجية العين والعقل، أم أنها تقاليد ثقافية عشوائية؟ ليذهب الكاتب إلى ان الجدال حول مفاهيم الألوان لا ينشأ من أفكار فلسفية تتسم بالتجريد، بل يستند إلى ملاحظات عملية من أرض الواقع. ففي العودة إلى سلسلة اكتشافات أواسط القرن التاسع عشر، ظهر أن علاقة الإنسان بالألوان لم تكن دوماً بوضوحها الحالي، وما نعتبره من البديهيات في زمننا الراهن كان مصدر صعوبات كبيرة بالنسبة إلى القدامى.
في القرن التاسع عشر، دار صراع حول الأولويات لمن: للعين أم للسان؟ فتحول هذا الصراع إلى معركة كبيرة حول مفاهيم اللغة تشابكت فيها وجهات نظر عالمية متعارضة. «في الحرب العالمية حول تلك المصطلحات، كانت لألوان الطيف أهمية قصوى، حيث رأى كل من أنصار الطبيعة والثقافة أن سيطرتهم على مفهوم الألوان ضرورية لسيطرتهم على اللغة في شكل عام. وفي أوقات مختلفة استخدم كل من الطرفين موضوع الألوان كورقة رابحة في خلافهم الأوسع وقابلوا آراء تتأرجح من تطرف إلى آخر من الطبيعة إلى الثقافة وعودة إلى الطبيعة في العقود الأخيرة. لقد جعلت تقلبات هذا الجدال من الألوان اختباراً مثالياً لادعاءات الطبيعة والثقافة المتعارضة حول مفاهيم الثقافة».
خلال القرن العشرين، تطورت الدراسات حول اللغة في شكل واسع، وباتت لها مدارسها الخاصة. استحوذت آراء عالم اللغة الاميركي نعوم تشومسكي على موافقات كثيرة، فقد انطلق من مسألة غريزية معظم قواعد اللغة في جميع لغات العالم. تؤكد مدرسة تشومسكي أن قواعد اللغة العالمية مزروعة في حمضنا النووي، حيث «يولد الإنسان بدماغ مزود بمعدات خاصة ببنيات نحو محنكة تغني الطفل عن تعلم البنيات عندما يبدأ في اكتساب لغته الأم، فتعكس قواعد النحو طبيعة إنسانية عالمية».
يمثل كتاب دوتشر هذا محاولة في السجال الدائر اليوم حول اللغة وعلومها ودورها، وهو سجال يقع في قلب التطور الثقافي لشعوب العالم. تحتاج اللغة العربية إلى الانخراط في هذا السجال العالمي بالنظر إلى حاجتها للتجديد في بنيتها وقواعدها وكسر القوالب الجامدة الموروثة والتي تضع عوائق في وجه مواكبة لغتنا هذه للتطور العلمي والثقافي في العالم المعاصر.
المصدر: الحياة