كلود أولييه.. رحيل آخر أبناء “الرواية الجديدة”

الجسرة الثقافية الالكترونية-العربي الجديد-
*عبد الاله الصالحي
رحل ليل السبت الماضي الروائي الفرنسي كلود أولييه عن 92 عاماً في بلدة “بور مارلي” في الضاحية الباريسية. هكذا، تختفي آخر حبة في عنقود مدرسة “الرواية الجديدة” بعد رحيل آلان روب غرييه وناتالي ساروت وكلود سيمون، وهي الأسماء الأساسية في هذا التيار المجدد الذي طبع رواية ما بعد الحداثة في الغرب.
ولد كلود أولييه في باريس عام 1922. سافر عام 1950 إلى المغرب وعملَ موظفاً في الإدارة الفرنسية؛ ما مكنه من الإقامة والتجوال في الأقاليم المغربية لمدة خمس سنوات. عام 1958 نشر روايته الأولى “الإخراج”، ونالت، فور صدورها، استحسان النقاد والصحافة الثقافية الفرنسية، وحاز بفضلها في العام نفسه جائزة “ميديسيس” للرواية في دورتها الأولى.
كان للمغرب تأثير كبير على أولييه، إذ شكّل له محركاً أساسياً في أعماله السردية الأولى. فقد كتب أولييه روايته الأولى متنقلاً في المغرب الكولونيالي مستهل الخمسينيات بين الدار البيضاء وجبال الأطلس. وتفضح هذه الرواية بأسلوبها السردي المتقشف الأيدولوجيا الاستعمارية ومنهج تغريب السكان الأصليين عن ثقافتهم المحلية. وبطل “الإخراج” مهندس في الإدارة الاستعمارية الفرنسية مكلف برسم مسار طريق منجمية في جبال الأطلس، يحقق في موت زميل له وفي فرضية اغتياله مع عشيقته الأمازيغية.
كما أن الفضاء المغربي حاضر بقوة في العديد من رواياته الأخرى مثل رواية “الحفاظ على النظام” (1961) الصادرة عن “دار غاليمار” الفرنسية، والتي يدين فيها سياسة التعذيب في مخافر شرطة الاستعمار الفرنسي ضد الوطنيين المغاربة في أجواء الثورة التي سادت المغرب في آخر سنوات الاستعمار.
غير أن النص الذي احتفى فيه أولييه بشكل شمولي في المغرب صدر عام 1979 عن “دار فلاماريون” بعنوان “مراكش المدينة”، وحاز وقتها على جائزة “إذاعة فرنسا الثقافية”. في هذا النص، يتجلّى افتتان الكاتب بهذه المدينة التي وصفها بأنها “بُنيت بطريقة تكون معها المدة التي يستغرقها استجلاء خريطتها مطابقة تماماً لمدة الطواف فيها”.
ويغلب على هذا النص الطابع الوصفي التشخيصي لفضاءات المدينة الحمراء وأزقتها ومآثرها التاريخية كما نلاحظ في هذا المقطع: “صومعة الكُتبية، المنتصبة كسارية سفينة فوق البنايات مرصعة بدائرة ضوء السطوح والحدائق والسهل والصحراء أيضاً. إنه الضوء الذي يعيد المترحل إلى المدينة، مدينة الرُحل الذاهلين الشموخين الثملين بالحنين للكثبان. مدينة لها إيقاع واحة، فبعد الجولة الطويلة بين الأحجار والأشجار الواطئة، تستنير الدكاكين في لجة الغبار، وتنبجس دقات الطبول بعنفها فجأة في الليل الساخن لساحة جامع الفنا (…) كلهم هنا، ينبثقون فجأة لا ندري من أين، مطلقين الليل من عقاله (…) إنهم يتكلمون وينشدون، وخارج كل كتابة يتمتمون..”
ورغم أن النقاد الفرنسيين صنفوا أولييه منذ روايته الأولى في خانة تيار الرواية الجديدة، فإن منجزه السردي يقاوم هذا التصنيف ويتعالى عليه. فنصوصه غير متجانسة، ولها قرابات مع أجناس روائية متعددة كالرواية البوليسية وأدب الرحلة وحتى أدب الخيال العلمي أحيانا. ويبنى أوليي نصوصه حول عوالم غامضة، لكن محددة، يسبك فضاءها بدقة مهندس الخرائط ويرسم مساراتها وسيروراتها الملتوية والمعقدة بحرص المكتشفين الذين يتوغلون في قارة عذراء لأول مرة.
مرة كتب عنه المفكر والكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي في معرض دراسته عن الكتابة والآخر: “إن أولييه غريب محترف، نذر نفسه لمهمة استقبال الأجنبي في سرده كفضاء حيوي للكتابة والخيال”، مشيراً إلى أن أعماله تندرج في إطار منجز أدبي لم يكتمل بعد هدفه استكشاف الآخر وملامسة هويته.
افتتان أولييه بالمغرب صار افتتاناً بالعالمين العربي والإسلامي، هكذا احتفل بزواجه عام 1971 بماري أوديت برحلة قاما بها معا بالسيارة من باريس إلى طهران دامت عدة أسابيع. كما أنه سمى ابنته البكر أريان نعيمة.