كوثر حرشي: من كتاب إلى آخر أُشيّد عائلة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أنطوان جوكي
المصدر: العربي الجديد
يست المرة الأولى التي تتناول كوثر حرشي فيها موضوع جحيم العائلة. ففي روايتها “حجم الدمار” (2011)، صوّرت الكاتبة المغربية الفرنسية بمهارة شخصيات تعيش على هامش المجتمع على أثر تخبّطها طويلاً داخل شرك الروابط العائلية.
لكن في روايتها الجديدة، “في الأصل، والدنا الغامض”، التي صدرت حديثاً عن “دار أكت سود” الفرنسية، تذهب بنا إلى أبعد من ذلك، إلى مكان يدعى “منزل النساء”، مشيّد بعيداً عن المدينة، بهدف عزل زوجات، وأمهات، وأخوات، عن سائر أفراد المجتمع. مكانٌ لا نعرف في أي منطقة جغرافية يقع، ومخصص لضحايا النميمة، للواتي يصدم جمالهنّ قوانين “القبيلة” التي يحرّكها الحقد على الحب والرغبات. مكانٌ تذوب فيه القصص الشخصية داخل المجموعة، فتُلغى أي حميمية أو فرادة.
في هذا المكان الكابوسي، نتعرّف إلى مراهقة لن نعرف اسمها حتى النهاية، تسعى جاهدة إلى كسب حب والدتها وانتزاع اعتراف والدها الغائب بها. فتاة تعيش في ظلّ دموع الأم وصمتها، في كنف يأسها، فتروي العزلة الذهنية الرهيبة للسجينات، مثلها ومثل أمها، اللواتي لا يجرؤن على فتح الباب والمغادرة.. نعم المغادرة، ففي هذا المكان لا حارس أو سجّان سوى عبء القوانين العائلية التي تعلّمنها منذ الطفولة. قوانين حوّلت كل واحدة منهن إلى حارسة لنفسها وللأخريات.
وكما في جحيم دانتي، تعيش تلك النفوس المهشّمة داخل التكرار، داخل تدمير الذات، في دوائر محاصَرة بالجليد. تصطدم بأثاث الغُرَف، تصطدم بذواتها، بطقوس فراغها التي تجرّدها من أي رغبة أو إرادة. نساء مدجّنات إلى حد أصبحن فيه هويات مغلقة، متحجّرة، مُهانة، يغصن كل يوم أكثر فأكثر داخل ذاتية بكماء: “يخرسن فجأة في كل مرة يعبر الباص قرب المكان، يتكلمن دائماً بصوت خافت، يخفن ضوء النهار، يعلّقن على النوافذ قطع قماش سميكة وسوداء، لا يجرؤن على تأمّل أنفسهن في المرآة…”.
باختصار، إنهنّ نساء يعشن شكلاً من الرضا عن حالهن، من الخضوع المذعن لعقاب لا يستحقّنه، كما لو أنهن يستمدّن متعةً من عذابهن. نساء يُبقين التقاليد حيّةً، بالتزامٍ وحماسة يجعلانا نرى جلادهنّ في ذواتهنّ. وبأنفاسهن المتقطّعة وأجسادهن المنتفخة وأيديهن المرتجفة، تكتب الروائية نثرها الذي يتبع حركات تلك النسوة ويردد أصداء ذلك المنزل ـ السجن المحاصر بجدران عالية، والذي يستحضر بالعقوبة المحفورة على جلد سجيناته “قصر” كافكا. سرد تضطلع به الراوية المراهقة التي لم تعرف سوى هذا المكان، وتقودنا بنفسها إلى داخل تلك الحيوات الممزّقة، ونحو ذلك الحاضر الذي لا حضور فيه سوى للصمت الذي يلفّ كل شيء.
لكن بخلاف جميع قاطنات هذا السجن، ترفض هذه الفتاة قدرها وتواجه بجرأة العقوبة والعائلة المعاقِبة معاً. وفي سعيها خلف ولادة جديدة وحرّة، تنكر حق النظام البطريركي في التحكّم بمصيرها، وتفهم أنها، ما دام والدها يرفض تسميتها، فستبقى غير موجودة وغير قادرة على بلوغ لغتها الشخصية، وأحاسيسها الخاصة. فالأب ليس صنواً للأم؛ إنه ذلك الذي يسمح بترميز الرغبات بواسطة اللغة، هذا في حال لم يكن أعمى مثل الملك لير الذي لعن ابنته كورديليا.
بتصويرها الجحيم من دون الاستسلام له، تمزّق هذه الرواية الصمم، وتتوق نحو انعتاقٍ من خلال السرد المحبوك بطريقة تحرّر من الحقد والضغينة. فكي لا تمتدّ عدوى هستيريا العائلة إلى الفتاة، وكي لا تتعمّق الجروح نفسها فيها، تكتشف الأخيرة أن عليها أن تصبح أمّ وأب والديها، خصوصاً أن الأبوة لا تتطابق، بالنسبة إليها، مع أب حقيقي، حاضر أو غائب، بل هي مجرّد رمز، حالة مجرّدة: “أبداً لم يكن بإمكان الأب حمايتكِ. إنقاذكِ. أبداً لم يكن قادراً على أن يكون ما أملتِ أن يكون، ذلك الحارس، المدافع، البطل. أبداً لم يكن قادراً على منحك الانتباه، الإصغاء، الحب، الأشياء التي سعيتِ كل حياتكِ خلفها. أبداً لم تكوني قادرة على العثور في حركاته، في نظراته، على الرقة الوحيدة التي كان يمكن أن تواسيكِ”.
وفعلاً، ما لم تحصل عليه الأم من زوجها، لن تحصل عليه الابنة من والدها. لذا، يبقى رهان الروائية دائماً على ضرورة الاقتلاع من النسيج العائلي والاجتماعي حيث العُقد والتشكيلات الاجتماعية البدائية، المتناقلة من جيل إلى جيل. وفي هذا السياق، تنبثق من الصرح السردي للرواية فرضيةٌ تقول بأن تجاربنا، مهما حاولنا، تتبع حتمية تاريخية تحدّدها مسبقاً، وبأن كل فرد يعيد، خلال حياته، لعب القصة القديمة ذاتها ضمن السلطة البطريركية ذاتها.
وما يعزز هذه القراءة هو، أكثر من تفكيك حرشي في نصّها محرّكات هذه السلطة وعنفها المنحرف تجاه المرأة؛ استخدامها اقتباسات من التوراة، ومن سفر التكوين خصوصاً، كفاتحات لفصول نصّها. اقتباسات تظهر فيها بوضوح مسألة إخضاع المرأة إلى الرجل منذ فجر البشرية، وبالتالي تبرّر سلطته عليها وتمنح سلوكه المشين تجاهها صك براءة وطابع “الحقيقة العليا”؛ ما يُخرِج القصّة المسرودة من حقبة زمنية محدَّدة أو بقعة جغرافية معيّنة، ويمنحها طابع القصة النموذجية التي يمكن أن تحدث في جميع الأزمنة والأمكنة.
وحول هذه النقطة، تقول الروائية لـ”العربي الجديد”: “خياري اقتطاف عبارات لها علاقة بموضوع المرأة وجسدها من “سفر التكوين”، وإدراجها في نصي؛ سمح لي بإشعار القارئ بثقل التقليد، وفي الوقت نفسه، بجعله يتابع، صفحة بعد صفحة، بحث شخصية الفتاة عن الحداثة. أظن أن الانفعال الذي أردتُ نقله يكمن في هذا التوتر”.
وفي ما يتعلق بالمواضيع التي قاربتها في روايتيها معاً، تقول: “أكتب انطلاقاً من هذه المواضيع لأنه، أسوة بكثيرات مثلي، كان عليّ أن أتحرر، أي أن أشكك بعدد من المعتقدات والأفكار التي كان يقال لي إنها طبيعية، في حين أنها تشارك في إعادة إنتاج أطر حياة لطالما رفضتها. بالنسبة إليّ، لا معنى للكتابة عن العنف والقهر إلا لأنها تستدعي كتابة مشدودة نحو الحرية والتحرر. سواء في “حجم الدمار” أو في “في الأصل، والدنا الغامض”، تعيش جميع شخصياتي تحولات عميقة في جلدها، وبالتالي في كينونتها. العنف في كتبي هو دائماً نقطة الانطلاق، بينما يبقى الحب ـ حب الذات، حب الآخرين، حب الحياة ـ ما أسعى خلفه”.
وتضيف الروائية: “من كتاب إلى آخر، أشيّد عائلة، بمعنى أن “أرزقي”، الشخصية الرئيسية في روايتي السابقة، يمكن أن يكون شقيق الفتاة في روايتي الأخيرة. طبعاً، العالم السردي ليس نفسه، إذ نعبر من الجزائر المستعمَرة إلى عالمٍ مصفّى وغير محدّد. لكن أظن أن الأساسي هو في القصة التي أرويها: قصة كائنات تائهة تسعى إلى الانخراط في مجرى الحياة”.