كيف نقول السياسة في الفن؟ وهل يمكن تجنبها؟

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

زهرة مروة 

 

أدباء وشعراء ورسامون وموسيقيون يهتمون بالسياسة لكنهم لا يجدون سبيلاً إلى تمثيلها في فهم، وغالباً ما يستعصي عليهم ذلك فهل السياسة بعيدة عن الفن أم أن قولها وتمثيلها هما المشكلة

 

أمامنا نماذج كثيرة من مثقفين كانوا منتظمين في أحزاب ومن ثم أصبحوا شعراء وفنانين أو في نفس الوقت هم يمارسون فنهم وينتمون الى حزب سياسي معين.. هذا الأمر يجعلنا نربط في لاوعينا بين فنهم وانتمائهم السياسي ونتساءل اذا كان هناك علاقة مباشرة بين الاثنين. وهناك أيضا تسميات لشعراء تجعلنا نربط لا شعوريا شعرهم بالسياسة أو بالقضية، ومثال على ذلك تسمية «شعراء الجنوب»…

اذاً هل تؤثر الخلفية السياسية على أعمالهم الفنية؟ أم أن فنهم يبقى حرا طليقا؟ وبالنسبة للفنانين الذين لم ينتسبوا الى حزب، هل فنهم يتبنى قضايا سياسية واجتماعية أم أنهم ينأون به عن كل ذلك. عدد من الفنانين التشكيليين والشعراء والمخرجين أجابونا عن هذه الأسئلة.

الشعراء الذين استجوبناهم أصروا على أن يبقى عملهم الفني مستقلا عن السياسة حتى لو كانوا في السابق ينتمون الى حزب. ومثال على ذلك الشاعر اللبناني حمزة عبود الذي يكتب قصيدة النثر. يخبرنا عبود عن تجربته السياسية ويقول إنه كان منتظما في حزب البعث، لكن حتى أثناء انتظامه وانتمائه، لم يكن مواظبا ولم يخضع لقيود التنظيم.

«كنت أنتمي الى حزب البعث. لكن في أواخر الستينيات تحولت حركة القوميين العرب الى أحزاب يسارية وكنت أقرب الى اتجاه حزب العمل والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ولكن بقي خطابي لبنانياً حتى وأنا يساري. كانت تراودني أسئلة كثيرة عن الماركسية منذ صغري، حتى عندما كنت في الأحزاب القومية كنت أميل الى اليسار».

 

قصيدة النثر لا تلائم

أما بالنسبة لتجربته الشعرية، فيقول الشاعر حمزة عبود، إن شعره مرتبط بيوميات، وهو ذاكرة شخصية عن الأشياء والعالم. «لذلك لم يحضر قط الشعر الوطني والخطابي في أعمالي». ويضيف عبود الذي يعتبر من ضمن شعراء الجنوب، «حتى عندما أطلقوا علينا اسم شعراء الجنوب، بقي هاجسي الشعري في مكان بعيد عن الوطن والسياسة. وأعتقد أن القصيدة ليست وظيفتها تغيير العالم، ولكن هي تغير حساسيتنا اتجاه العالم». ويختم عبود بأن شعراء المنابر وشعراء الوطن الذين من جيله هم أكثر شهرة منه كونهم يتبنون قضايا وطنية وسياسية. «وبرأيي أن قصيدة النثر ليست ملائمة للتعبير عن موقف مباشر من الحدث السياسي والوطني، هي قصيدة تأملية، لذلك لا يليق بها المنبر. بينما القصيدة العمودية بأشكال تطورها هي قصيدة مناسبة لهذا الموقف».

 

اللامنتمي

الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير يشارك عبود الرأي في أنه على الشاعر أن يبقى بعيدا عن السياسة في شعره. ويخبرنا صاحب ديوان «أنا والعكس صحيح» أنه لم تكن له حياة سياسية بكامل معنى الكلمة ولم ينتم الى حزب وكان ينفر من أي علاقة من هذا النوع، خاصة فكرة الانضمام الى خلية حزبية والالتزام بنظامها وتعليماتها. لكن صاموئيل بيكت فاجأه يوما قائلا له في أحد لقاءاته به «لا تستطيع ان تقول صباح الخير من دون سياسة».

وأقصى درجات العمل السياسي التي مارسها الشاعر والديبلوماسي شوقي عبد الأمير هي المشاركة في مؤتمر رابطة الأدباء العراقيين التي طرحتْ فكرة البديل لاتحاد الأدباء العراقيين تحت نير صدام حسين. «ولكنني عندما رأيت كيف أن الحزب الشيوعي العراقي بدأ يستحوذ على الرابطة نأيت بنفسي عنه».

ويستشهد عبد الأمير بالشاعر الفرنسي غيفيك، الذي يلعب على المقاربة بين كلمة Engagé أي ملتزم و Encagé أي أسير القفص. وبعدما ترك «غيفيك» الحزب الشيوعي الفرنسي قال ساخرا إنه لم يعد في القفص.

وبنظر عبد الأمير ان الشاعر هو الشاهد، هو اللحظة العارية عن كل مضمون ايديولوجي أو حزبي أو سياسي. «لان الأساس في الإبداع ليس غاية سياسية ولا حتى إنسانية، إنه لحظة تجرد وتجل جمالي لحالة أو مشهد يعيشه الشاعر.. فهو إما مأساوي تجريدي أو هو عاطفي فرداني أو وطني. الامر لا يتعلق بالشاعر إنما بالحدث الذي يعيشه الشاعر وكيف يكون شاهدا عليه».

ويختم عبد الأمير قائلا ان الشاعر لا يستطيع أن يوظف حتى قناعاته في نصه الإبداعي….

ويعطينا مثلين على هذا الشيء؛ الأول قصيدة بول ايلوار الشهيرة التي نشرها الحزب الشيوعي وأشاعها كرمز للحرية وهي التي يقول فيها «أيتها الحرية أكتب اسمك على….. الخ».

وقد اتضح أن الشاعر الفرنسي كتبها بالأساس الى زوجته «غالا» وقد غيّر القصيدة مستبدلا اسم غالا بالحرية وهذه القصيدة تعد من القصائد السياسية والملتزمة شيوعيا.

والمثل الثاني هو ما حصل مع غيوفيك الشيوعي عندما طلب منه الحزب أن يكتب قصيدة عن الفيتنام.. «وقد أخبرني هو بنفسه في إحدى المقابلات معه أنه حاول بكل حماسة – وكان يومها شيوعيا ملتزما – لكنه لم يفلح في كتابة حرف واحد طيلة أكثر من عام…! لكن عندما توفي صديق له وهو الشاعر جون بولهان. وذهب لإلقاء النظرة الأخيرة عليه في ثلاجة المستشفى، عاد الى بيته وكتب قصيدة الفيتنام الشهيرة والتي ألقاها الثوار الفيتناميون على المدن المحتلة في الفيتنام من الهليوكوبتر».

 

خارج السياسة

أما بالنسبة للمخرج بهيج حجيج والمنتج مروان نجار اللذين لم ينتظما في حزب، لكنهما دافعا عن قضايا سياسية أو اجتماعية. أخبرانا أن أعمالهما أحيانا تحمل رسائل سياسية، أو تتحدث عن قضايا اجتماعية. ربما السبب يعود الى أن المسلسلات أو الأفلام قد تستوحي مواضيعها أكثر من الواقع الاجتماعي والسياسي، بينما الشعر قد يعتمد أكثر على التأمل وعلى العلاقة مع الذات.

المؤلف والمنتج اللبناني مروان نجار كان صحافيا سياسيا وثقافيا، وخاصة في مجلة الدستور حيث كان يقوم بالتحقيقات السياسية. «في الحرب اختلطت السياسة مع الثقافة مع الفن. ولكنني لم أنتظم في أي حزب. أعتقد أن الانتساب الى حزب لا يرضي المواطن الذي يحترم نفسه كفرد ولا يرضي حرية الفنان. لكنني أحيانا لدي مواقف صارمة، وقد وقفتُ مثلا ضد الحرب الطائفية وسكنتُ أثناء الحرب في المناطق غير السياسية وغير المنسوبة إلى طائفة».

أما بالنسبة لعمله الفني كمنتج فيقول منتج مسلسل «ديالا» الذي يعد باكورته الفنية، إن عمله لا يرتبط عموما بالسياسة، باستثناء مسلسل «حلم آذار» عام 2005، «وحاولتُ فيه أن أنقل عيد الاستقلال من الخريف الى الربيع، أي 14+8= 22 آذار وليس تشرين. حاولتُ توحيد الصف اللبناني تحت شعار الأرزة والوطن. وأعتقد أنه ما من عمل فني يخلو من السياسة في بلد مثل لبنان يعتمد على الطوائف، ومسيّس الى حد بعيد، لكنني أحاول أن أكون حراً الى حد ما في أعمالي الفنية».

المخرج والمنتج وكاتب السيناريو بهيج حجيج بدوره لم ينتظم في حزب سياسي، لكن كان لديه نوع من الانتماء اليساري، وهذا الانتماء هو في التفكير وفي الفلسفة فقط. «لا أنتمي الى أي حزب، لكن أعتبر نفسي ملتزماً سياسياً واجتماعياً، ومثال على ذلك أنني أتبنى قضايا سياسية واجتماعية معينة، أتظاهر، أشارك، أقيد حقوق الإنسان وحريته، وحرية التعبير مهمة وأساسية في عملي. وأؤمن بحرية الفنان. وقد عملتُ فترة في اللاعنف مع جوزيف ولور مغيزل».

أما بالنسبة لعمله الفني، فقد تبنى حجيج في مسلسلاته مواضيع اجتماعية، إنسانية، وحضارية ومشاكل سياسية، كمشكلة مفقودي الحرب، وقد أخرج فيلما وثائقيا بعنوان «مخطوفون». كما استوحى فيلمه «شتي يا دني» من قضايا سياسية.

ويختم المخرج بهيج حجيج أن كل شيء في لبنان «يتضمن خلفية سياسية. ونحن نفتقر الى الاهتمام بالثقافة، كوننا نفتقر الى السياسة الثقافية وهناك انحطاط سينمائي نتيجة عدم اهتمام المسؤولين السياسيين بالثقافة. وبرأيي يجب أن تكون سياسة الدولة موجهة نحو الفن».

الروائي السوري ياسين رفاعية يتشارك الرأي مع المخرجين في أنه على المؤلف أن يتبنى قضايا مجتمعه ويعكسها في أعماله «لا يمكن للكاتب ان يكون منعزلا عن هذا الواقع، وإلا يكون قد خان نفسه. نحن جيل النكبات والهزائم وخيبة الآمال في عصر رديء لم ينبت إلا الشر وها نحن الآن نعيش وما زرعناه من قتل وغدر وتشريد ولجوء الى عالم ليس عالمنا والمخفي أعظم وليل لا نهاية له. وكل ذلك حاضر في رواياتي من «مصرع الماس» و «أسرار النرجس» و «من يتذكر تاي» و «رأس بيروت» الى «امرأة غامضة» وغيرها، وفي قصصي القصيرة ايضا».

ويخبرنا رفاعية أنه عاش القضية الفلسطينية من بابها الى محرابها، كان يبلغ الرابع عشرة من عمره عندما ذهب للتطوع في جيش الإنقاذ لتحرير فلسطين وقد رفض طلبه لأنه صغير في السن. «آمنت بفكر الحزب القومي وبسعادة لأنه كان الأمل الوحيد بالنسبة لي في توحيد سوريا القوية، لكن كل هذا الحلم أجهض باغتيال سعادة وتشتت الحزب إلى أحزاب كل يدعي «حب ليلى».

 

ارتباط حر

بعد جولتنا مع المؤلفين والمخرجين، ذهبنا بعيدا بعض الشيء الى الفن التشكيلي والى التعبير عبر الرسم والألوان لنعرف اذا كان هذا النوع من التعبير لدى الفنانين مرتبطاً بالقضية أو لا ولنتعرف أكثر على خلفية أصحابه السياسية. واستجوبنا الفنان التشكيلي والأستاذ الجامعي اللبناني محمد شرف والفنان التشكيلي الأردني اياد كنعان.

برأي محمد شرف أنه كانت مقولة «الفن للفن» تثير جدالاً في الأوساط الفنية، وقد انقسم عليها فنانو الشرق والغرب الأوروبيون منذ عشرينيات القرن الماضي، إثر انتصار الثورة البلشفية في روسيا، بعدما حددت تلك المقولة موقفها بوضوح من مسألة الفن في اعتباره شكلاً من أشكال النضال السياسي، ورفضها المطلق أو المشروط، للمقولة المذكورة.

وشرف لا ينفي ارتباطه، بالفكر الماركسي، أو ببعض مفاصله التي ما زالت قابلة لتفسير العديد من الظواهر في وقتنا الحاضر، بيد أنه ارتباط حر وغير متزمت. «وكفنان تشكيلي وناقد فني، لا أعتبر أن «الواقعية الاشتراكية»، التي ارتبطت، في شكل ما، بالفكر الماركسي، مقولة تساهم في تطوير الفن، إذا جرى التعامل معها بحسب النهج الستاليني الجامد، الذي سخّر الفن لأهداف أيديولوجية، بعدما ساد في الاتحاد السوفياتي خلال عقود من الزمن».

ويختم محمد شرف بأن فنه ليست له علاقة مباشرة بالسياسة، بقدر ما هو نوع من الالتزام اتجاه قضية الفن في حد ذاتها، كشكل من أشكال التعبير الحر، الذي قد يكون ذا طابع قريب من المزاج العام تارة، أو بعيداً عنه تارة أخرى، لكنه، في كل الأحوال، يحاول أن يكون صادقاً، لا يتأثر بالمزاج العام المذكور، بقدر سعيه إلى التأثير به قدر المستطاع.

الفنان التشكيلي اياد كنعان بدوره كان شاهدا على أحداث سياسية مهمة، لكنه لم ينخرط في أي حزب. لكن بعض أعماله الفنية تأثرت بهذه الأحداث.

يخبرنا كنعان أنه عايش في طفولته أحداثاً جساماً عصفت بالواقع العربي والفلسطيني، على رأسها مجزرتا صبرا وشاتيلا عام 1982، والانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى عام 1987، التي رسمت ملامح مراهقته مزيجا من حلم النضال في صفوف الانتفاضة، والسعي للانعتاق من الاحتلال. ومع ذلك لم ينخرط يوما في أي نشاط سياسي أو حزبي منظم، ولم يعرف الطريق إلى ذلك، «خاصة مع ما يشوب مفهوم العمل السياسي في العالم العربي من تشوُّه. فيما شكل احتلال العراق عام 2003، نقطة تحول في توجهي الفكري، لجهة رأب الصدع المستشري بين العمل الثقافي والإبداعي من جهة، وبين الوعي السياسي – الثقافي من جهة أخرى، في أوساط الفنانين الشباب في ذلك الوقت. هكذا جاءت مشاركتي في إطلاق «جماعة حواس الثقافيَّة» في ذلك العام، أول تجليات هذا الموقف، بوصفه ردة فعل ثقافيَّة وسياسيَّة على الاحتلال، فكانت دعوة إلى العودة إلى «الحواس» بوصفها وسائل لتحصيل المعرفة العقلانيَّة، والإحساس بالجمال والتعبير عنه، وكان لي إسهام أساسي في صياغة بيان الجماعة، الذي شكل أول إعلان ثقافي عربي يعبر عن رفض «الاستعمار الجديد» للمنطقة».

ويستأنف كنعان الذي عاش في لبنان فترة من الزمن، أنه على مستوى أعماله الفنيَّة فقد ترك العدوان الصهيوني على لبنان عام 2006، جرحا عميقا في نفسه، تجسد في عمله المسمى «قانا 1996- 2006 (تحيَّة إلى شهداء فلسطين ولبنان والعراق)»، الذي نفذه في تونس في مهرجان المحرس، إبان العدوان وفي أجواء الحرب، وكان نقطة تحول في مساره الفني، باتجاه استلهام معاناة الإنسان العربي كنتيجة لجرائم الكيان الصهيوني الغاصب، كما تجلى في بعض أعماله اللاحقة، وصولا إلى استلهام مظاهر معاناة الإنسان العربي الذي يدفع ثمن الصراعات الدائرة في المنطقة اليوم.

«هكذا كان استلهامي للجسد الإنساني بأبعاده الواقعيَّة المباشرة، ثيمة أعطتني خيارات عدة، خاصة أنني لجأت إلى استخدام الجسد الحي مباشرة في العمل، سواء عبر نسخه بالجبص، أو عبر تصويره فوتوغرافيا، أو عبر فنون الأداء والفيديو، أو عبر تعليم حدوده الخارجيَّة بالطباشير على الأرض، أو أية مواد أخرى متوفرة، بسيطة أو معقدة، تخدم فكرة التعبير عن الضحايا من المدنيين والأبرياء من منظور إبداعي وإنساني».

 

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى