«لا أحد كان غيري» للشاعر اليمني همدان دماج: تمثيل النماذج الحية لقصيدة النثر عبر السرد المتكرر

الجسرة الثقافية الالكترونية

*صلاح الاصبحي

المصدر / القدس العربي

قد تختلف التجارب الإبداعية من شكل لآخر، واختلافها هذا يحكم طبيعة منبعها وتكوين الوجوه المبدعة وتجاعيدها ؛ فقد تكون تلك التجاعيد خربشات أو تلفيقات أو رمشا تزين تلك الوجوه أو نقاطا سوداء تكحل الوجوه، وهكذا الأمر بالنسبة للإبداع وأصحابه، مواقع المبدعين تماثل مواقع تلك المظاهر التي تطفو على سطح الوجه.
همدان دماج وجه سردي يمني معروف، عمره السردي عقدان، صنعته تنويعات مختلفة، فتكوينه الأسري السَّردي قد ترك حميمية بينه وبين السرد، ثم أن تكوينه العلمي وفي تخصص برمجي ـ لا شك ـ سيترك أثراً مهماً في تشكيلة الوعي عنده، طالما أن المبدع خليطٌ من منابع معروفة وأخرى مجهولة، تسهم المعروفة والمجهولة منه بمقدار انحياز المبدع وتمدده نحوها.
وبما أنه عُرف سارداً، وها هو الآن يكتب شعراً، قصيدة نثر، فلا غرابة من ذلك وكلنا يدرك أن هناك نقاطا مشتركة بين الجنسين، ربما تدفع بعضها وتجر المبدع نحوها، وهناك الكثير ممن كانوا شعراء يكتبون قصيدة النثر، وانجروا نحوا السرد واستقروا فيه كعلي المقري ومروان الغفوري وغيرهما، هذا في اليمن أقصد، وهناك العكس كهمدان دماج الذي أًصبح شاعراً مثلاً، حسب ظهور الأعمال الإبداعية له، رغم ظهورعملين سرديين بعد طباعة هذا الديوان الذي سنتناوله هنا.
ترابط كهذا لا بد أن نضع له اعتبارات تأويلية ونحن نتناول ديوانه الأول، طالما أن هذا الشكل عند كُتابِه اليمنيين يأتي بصورته الخاصة التي تحمل نكهة اليمني وصبغته الخاصة والعامة، كما وصفها كثير من النقاد.
وأنا أقرأ هذا الديوان، ثمة ملمح يستثيرني فيه، أراه كمظلة تغيم على أفق هذا الديوان، تسنده ببناء وتشكيل واع، ثمة اتصال بين النص كإبداع وبينه كوعي، ثمة وعي فني، ووعي ذاتي بنواح النص المتصلة بصنوف الحياة، الشغل الواعي المختبر بآليات هذا الشكل وبمصاحباته الفنية والفكرية معاً، هذا الوعي هو الذي يشعرك بجدوى وبمعنى قصيدة النثر، وسر كينونتها العسير المخاض والعسير الفناء والعسير البقاء.
«لا أحد كان غيري» عنوان الديوان المتمثل بنصوص تجسد معناه وترسم انبثاقاته الحيوية داخل النصوص، قد يبدو لي هذا العنوان جديداً ومطابقاً خصوصية قصيدة النثر، كما أتصور أنا، وكلما تأملته تيقنت أحقيته الواعية لهذا العمل كقصيدة نثر، من خلال تمثيله النماذج الحية لقصيدة النثر، كرؤيا وكبناء صوري، كحالة عامة يأخذ منها الخاص مستواه، ليس عنواناً باهتاً ولا ملغزاً ولا استعراضياً وإنما يقينيته في بعده وقربه في آن.
حينما تنفذ إلى داخل الديوان، تفتش عن ذاتك فيه، أو ذات العالم الخاصة بك، ولنفترض كتصور مهم أن لنا صورة خاصة بنا في كل عمل إبداعي تشعرنا بأننا جزء من هذا العالم وإلا أصبحنا خارج، خارج كل التصورات والمدركات الحسية وغير الحسية، التي يظهرها المبدع حتى إن كانت خاصة بنا، نحن عالم تصوراته وعالم مدركاته، كما أننا نفترض علاقة من نوع آخر تربطنا بالعمل الإبداعي، علاقة حضورنا فيه، وغياب ذات المبدع ليس كفعل إلزامي واقعي وإنما كتداخل يجمعه معنا في شكله فينا وحينها نصبح نحن هو.
لا يمكن بعد أحداث الربيع العربي، كما يسمى، أن ينفصل الشاعر عن كل ما يتصل به كفرد وسط مجتمع، أو كفكرة وسط تصورات أو كنموذج وسط شكليات، ومهما انفصل وغاب عن هذا الاتصال سنجده داخله عن كثب، وذلك بطبيعة التوجس والقلق المتسرب من عالمنا إلى عالمه ليصبح في النهاية ناطقاً باسمه ومتحدثاً رسمياً عنه، وهذا ما سنراه في الديوان، حين يفتتح الشاعر ديوانه بنص عنوانه «حكايات» ليوصلنا به، كما في قوله:
جمجمتي مترعةٌ
بليل وحكايات
وبأفكار سوداء
تنهال على الرؤيا
زوبعة لرمال الوقت
وأنين دماغ مسعور
تعصر ذاكرتي أوهامُ الصيف
ونشيج هراء ووصايا
تدوي في سمعي أرصفة الحزن (الديوان: ص 9).

هكذا يطالعنا الشاعر وهو غارق ٌ ذهنياً وسط أمواج من الحكايات وليلها وأفكارها السوداء، تكاد تفقده رؤيته الذهنية أو الفكرية كزوبعة تشل رمال الوقت، أنين دماغ مسعور، أوهام الصيف تعصر الذاكرة، نشيج وهراء ووصايا كلها تدوي في سمعي أرصفة الحزن، فهذا المفتتح النصي داخل النص يشكل مفتتحاً لألمه الذي نبتغي الوصول إليه، والذي سيقربنا مما نحاول أن نتوصل إليه ونحن نقرأ هذا الديوان، هذا الرصيف وإن كان حزيناً لن يكون على سبيل الذكرى أو الصوت المدوي وإنما سيكون رصيفاً يقيم عليه كل تلك الحكايات والأفكار السوداء يبددها أمامنا، لتبدو جزءاً منا ونحن نطالعها، كما أن نصه الثاني بعنوان «سأم»، يبدأه بالقول:
أشوكتني الكلماتُ
وتفرقتْ
ركضَتْ في جدار الصمت
تركتني حائراً
كغريب استوحشته ذكرياتٌ
ثم ضاع
يعزف لحناً حزيناً
يطرق نوافذ لا تُفتح
قلوباً لا تفتح
ولغةً تتمادى في العصيان (نفسه : ص 11)

كحالة تصويرية يجسدها الشاعر بهذا المستوى من السأم والاخفاق بالانفصال عن هذا العالم المنفصل في اتصاله والمتصل في انفصاله، حيث يضفي عليه طابعاً تجريدياً من التجريب عن طريق السؤال، كما في قوله:
وأسألني دائماً
حتامَ يسرقني إلى المجهول
حنينٌ غامضٌ….؟
يزرع في دمي وتراً
وحُلماً
تدحرج نحو الفراغ ..
أيقظ في صدري العاري
لهيبَ السؤال
حتامَ؟
……
يرتد الصدى فارغاً
يسرق ماء العين
عطش الزمن (نفسه : ص 12)

«انتظرتكِ»
جاءني صوت بعيد
تسابق فراشاتُه
صهيلَ الظمأ
يا ليلي
سَئمتُ الواحد في داخلي
ففتشتُ عنكِ
أقلبُ صفحاتِ المدينة
أبعثرُ أكوام الخريف
أتحسسُ جيب الملل
صرختُ :
سئمتُ الواحد في داخلي
سئمتُ المرايا ووجهَ السكون
سئمتُ الحبيب الذي لا يجيب
سئمت الحبيب الذي
لم يكن يوماً حبيبْ. (نفسه : ص 13)

كل هذا الاتصال من ناحية وكل هذا الاستدعاء للاتصال بهذا العالم، هو من يشعر الشاعر بتشكيل عالمه الداخلي والخارجي، الذي لطالما يخلقه مبدع ما على طريقته، كما أن التواصل الفني عن طريق السرد المتكرر في الكلمة والجملة يعمق معطى النداء، ويبحث عن بعد يبعده عن الفراغ.
ومن نص لآخر، لا نجد الشاعر يتبعثر أو يشرد نحو حالة مختلفة تبديه منفصلاً، وإنما تتفاعل تشكيلاته المتعددة مع واقعها، كل تشكيلة تحتم مصيره، وتحكم قبضتها عليه حينما يتمثلها ويؤديها حينما يظهر كممثل لها، لكن هنا تكمن قدرة الشاعر في إتقانه لفعل التجسيد التصوري وبوحه به، فَيُعْملُ وعيه الشعري المفترض والقادر على ذلك التجسيد، مما يمكنه من تقديم نصه الواعي لحالته، ولغته المتصله بدورها والمتصلة في مكاشفتها غير المختلة، كما في قوله:
مرَّ …
أشار إلينا الزمن
ونادى
من وراء زجاجة الكون
الذي غسلته نيكول
هذا الصباح (ص 20) .
ترتب نيكول ساعتنا
ووجه الصباح
تعيد تشكيل البداية
ما أضاعته جدران الصباح
من الحروف ومن الأغاني
تعيد للألوانِ أسرارَها
وتمسح أوساخَ يومٍ مضى لا يعود .

هذا النص يتماهى مع الشاعر منبهراً ومنبهاً عن غامض ينكشف وسر يبوح ويتضح، يستقوي به حيناً ويضعف به حيناً آخر:
للخريف أن يستأنسَ
ما أسقطته نيكول من الدمع.
للفضاء أن يتسع لصمتها…
لبوحها المنسوج شوقاً وأغنيةً
للبلاد البعيدة.
تطهو نيكول حنينها
حلماً وحكاياتٍ
يتناغم صوتُها عن ضحكةٍ عن دمعة ٍ
عما أراد القلبُ من وجعٍ
وعن زمن ٍ
رسمته في فنجان قهوتها الصباحية
تحركه أناملها،
تقبِّلهُ
فيهتز جسمي النحيل
لتمرْجح ملعقة الشاي (نفسه : ص 23).

ليس جسمك النحيل من يهتز، قد تهتز معه دهشتنا وانبهارنا، تهتز معه تفاعلات منا، أسكرتها هذه الموسيقى الناغمة بالتأمل والناعمة بالانسجام كما لو أنها ترقص داخلنا نحن، ونحن نرقص داخل النص، نتباهى بمنوال وجعها، الذي هو وجع الزمن، وجع السؤال الطيفي عند الشاعر، حيث:
لماذا يداهمني طيفها..؟
يحدثني عن أشياءٍ أجهلُها
يقشرُ لي فاكهةَ الحلم
وما أخفته النوافذُ
عن قمري الحزين.
وأسأل نفسي:
لماذا يداهمني طيفُها؟
ينثر في مخيلتي
حنيناً غامضاً
وفي سريري
يزرع الأوهام؟
يلحُّ.. يشيرُ إلينا الزمنُ
ويصرخُ
يلدغُنا عقرب الوقت
إلى اللقاء
تودعُنا نيكولُ
في طرف الممر
فتضيق حناجرنا ويضيق الكون
تهرول أقدامنا
نحو الغموض
……
تنهي نيكول أعمالها
تقفل أبواب عزلتنا
تسلم مفاتيح البناية
وترحل نحو البعيد
تتمرجح خطواتنا في الضياع
تحشو الساعات رأسي
بآلاف من الكلمات
ونسيل في رِئة المدينة
خطوطاً تتقاطع
على شارع ضيق
للروح (الديوان25)

كل هذه التهويمات التي قد تجدها مجسدة في وعي الشاعر ووعي قصيدته، حيث يعتقد بعضُنا أن القصيدة ليس لها وعي، بل قد نراها غير واعية لما فيها، لكن في الحقيقة لو تتبعنا كل خلاياها الحية التي نسعى لتنشيطها من خلال عملية تشريح جسد القصيدة النابضة لتزداد نبضاً، والتي هي في طريقها للفاعلية في القارئ وكلما تقرب منها فاحِصاً، متوغلاً، هنالك يدرك صلاحيتها الزمنية في تلك اللحظة التي يجسدها فيه.
هنا في هذا الديوان دقة في المفردة ودقة الدلالة ليس في اختصارهما وإنما أفقهما، وكم تكون الدهشة في الدقة التي يفرضها شاعرٌ ما في أفق نصه، وهنا الشاعر لا يثرثر ولا يهري ولا يغري وأنما يدقق، والتدقيق قد يبدو غريباً في الشعر، وأقصد بالتدقيق هنا أنه بمقدور الناقد أو القارئ العميق أن يتتبع خيوط ومفاصل القصيدة ويتوصل إلى أغوارها وفيافيها، وأن يَهم بالخروج منها سالماً، لكنه بالتأكيد لن يفلت، الشعر هنا مثل المدينة الواسعة، تحتاج لمن يدخلها أن يكون على دربة بمثل هذه الأشياء وسيصل إلى ما يريد وسيبهر بكثافة وعمق السبل الواعية وغير الواعية داخل القصيدة المدينة .
إن أكثر ما يميز قصيدة النثر رغم اتكائها على السرد والحوار شعورك أنها لا تهذي ولا تفضي بك إلى فراغ أو وشوشة أو نوع من الهلوسة وتفقدك توازنك بقدر ما تقودك خطوة بخطوة نحو سرها ومركزها.
تمثل أغلب النصوص شروداً ذهنياً يفيقُ من خلالها الشاعر كلما أوقظته تلك الهواجس والشرود، لكنها تعيده ككومة من التساؤلات والانشغالات المتعددة الأوجه والمناحي، وقد تكون لحظات اصطدامه بتلك الشواغل المفزعة والمناجيات الثاقبة وجه الحمود والراكضة نحو الحركة حيناً، ونحو البعد والعزلة حيناً آخر، كما في قوله
تساقطتْ عيناي
عندما هزني جذعُ الشتاء
ومرَّ من خلفي قطار الوقت
ينهشُ ما تبقى من فتات العمر
يغتالُ من كوني الضياء
والليلُ كان أمام نافذتي
وحيداً كالسماء
يهمسُ من أطراف المشهد الوردي
بصوت الطفولة
بوشوشةِ الربيع السرمدي :
حرِّك قليلاً شوقك المكبوت
حين يغفوُ الصحوُ
أو قبل أن يصحو المساء (الديوان 36)

ومع كل هذه التشظيات الروحية التي يجمع الشاعر من خلالها روح القارئ وعوالمه تكون قد حققت القصيدة شيئاً من مهامها. قراءة موجزة كهذه لا تكفي ولكنها تضيء الطريق لمن أراد أن يقرأ هذا الديوان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى