«لا تزال أليس» في أداء استثنائي لجوليان مور… معنى أن تكون الذاكرةُ «حياة وسط الفراغ»

الجسرة الثقافية الالكترونية

*سليم البيك

المصدر / القدس العربي

نحن هنا أمام فيلم تدور حكايته وأدوار الشخصيّات فيه حول شخصيّة واحدة، لا أحداث في الفيلم، لا تفاعل أساسي بين شخصيّاته وبين عالم خارجي، خارج البيت العائلي للشخصيّات، وهم هنا أفراد أسرة صغيرة. الفيلم كلّه إذن يدور حول أليس هولاند (جوليان مور)، والحاصل مع أليس ليس عاملا خارجيا، بل داخلي، مرض الزهايمر الذي يصيبها، على هذا الأساس تتطوّر حكاية الفيلم، تبعاً لتطوّر حكاية أليس ذاتها، وعلى هذا الأساس كذلك تتصرّف باقي الشخصيّات الأساسية في الفيلم، وهي في معظمها ردود أفعال تخصّ بشكل مباشر مرض أليس في ذاكرتها.
كما أن حكاية الفيلم تدور حول شخصيّة أليس، فالفيلم ذاته يُبنى نجاحه على أداء جوليان مور لدور أليس، لباقي الممثلين أدوار مساندة لمور، قد تنحصر في ردود الأفعال تجاه ما تقوله أو تفعله أليس، وكوننا كما سبق وذكرت لسنا أمام حبكة دراميّة هنا، بل أمام سرد لتطوّر المرض لدى أليس، فالفيلم هو بطلتُه، وقد نالت مور عن دورها هذا جوائز الأوسكار والغولدن غلوب الأمريكيّتين عن أفضل ممثلة، وجائزة البافتا البريطانية عن الفئة ذاتها. وأخذاً بعين الاعتبار أن المتعة الممتدة على طول الفيلم يعود فضلها لأداء مور، وتحديداً في ما يخصّ تطوّر المرض وانعاكسه على صاحبته، لن يكون مستغرباً نيلها جوائز كهذه.
تبدو أليس في بداية الفيلم امرأة تعيش حياة مثالية على كافة الصعد، إنها أم لثلاثة أبناء وزوجة لرجل ناجح مهنياً ومخلص عائلياً (أليك بالدوين)، مكرّسة كأستاذة لغويّات في جامعة كولومبيا، مؤلفة لكتاب دخل المناهج الجامعية هو «من الخلايا العصبيّة إلى الأسماء»، في الخمسين من عمرها، جميلة وأنيقة، تنام وتأكل وتمارس الرياضة بشكل منتظم. في بداية الفيلم تعرف من الطبيب أنّها مصابة بنوع خاص من مرض الزهايمر يصيب الإنسان في عمر مبكّر، وهو كذلك وراثي أتاها من والدها وقد تمرّره لأبنائها، وهو في حالة المرضى أصحاب المستوى التعليمي العالي يتطوّر بشكل أسرع.
نلمس هذه السرعة من خلال حياة أليس التي تبدأ بنسيان كلمات أساسية في محاضراتها، ستنسى كلمة في أساس علم اللغويات الذي تدرّسه وهي كلمة معجم (lexicon) في محاضرة لها، لاحقاً ستبدأ بنسيان أسماء أبنائها وتفاصيل عدّة تحتل الحياة اليوميّة تخص الأمكنة والأسماء والأرقام والأحداث. في النصف الثاني من الفيلم تصير الحالة أكثر تدهوراً، تنقلب الشخصيّة الواثقة لأستاذة الجامعة إلى امرأة ما تزال تحتفظ بجمالها إنّما بتصرّفات سيّدة في التسعين من عمرها، بما يتطلّبه ذلك من رعاية عائلية ومراعاة لما يصدر عنها من سلوك وأحاديث.
ولأنّ «الكمال» في حياة أليس كان مبعثه قبل مرضها الأسرة والعمل، وكانا أساس حياتها، فقد سجّلت في المراحل الأولى من مرضها فيديو تخاطب فيه نفسها بأنّها أليس وأنّها في حال نسيت إجابات الأسئلة التي ستمارس رياضة الإجابة عليها كلّ صباح، أسئلة تخص عنوان البيت وتاريخ ميلادها وغيرها، إنّها إن نسيتها عليها أن تذهب إلى حيث يرشدها الفيديو، ستتناول جرعات زائدة من حبوب تودي بحياتها. فبتدهور حالتها المرضيّة إلى درجة تنسى فيها تاريخ ولادتها، لا ترى الزوجة/الأم/المدرّسة المتميّزة أي لزوم لبقائها من دون أسرتها وعملها. وفي حديث مع زوجها جون ستصرّح أليس بتمنّيها بأن لو كان المرض سرطاناً لا الزهايمر، فلا يجرّ معه أي شعور بالخجل أو الحرج وفقدان للحياة الاجتماعية.
أتى عنوان الفيلم (Still Alice) من كلمة لأليس ألقتها أمام مرضى آخرين بالزهايمر، قالت فيها بأنها «ما تزال حيّة»، في مزج بين Still Alice و Still Alive بفارق حرف بين العبارتيْن، وما سبق ووُرد في هذه الأسطر يشير لمدى العلاقة بين الزهايمر كمرض يقضي على ذاكرة الإنسان، وجدوى حياة أليس بعد فقدانها لذاكرتها وما يجرّه ذلك عليها من فقدان لعملها وعائلتها وشخصيّتها ومعرفتها.
حاولت أليس جاهدة إتقان «فن الفقدان» كما قالت في إشارة لما كتبته الشاعرة الأمريكيّة إليزابيث بيشوب عن النسيان، لكن الاجتياح السريع لهذا الفقدان حال دون إتقانه أو التحكّم به أو إبطائه، ستستسلم أخيراً من دون أن تملك خياراً آخر، وهو استسلام يحمل تفسيرات عدّة أتركها للقارئ/المُشاهد.
الفيلم المأخوذ عن رواية بالاسم ذاته كتب السيناريو له وأخرجه كل من ريتشارد غلاتزر ووش ويستمورلاند، من دون أن يحقّقا فيه، ككاتبيْن ومخرجيْن، امتيازاً يُذكر، وكان العرض الأوّل له في دورة العام السابق من مهرجان تورونتو السينمائي. أمّا جوليان مور، التي شاهدناها العام الماضي في فيلم ممتاز هو «خرائط إلى النجوم» ونالت عنه جائزة أفضل ممثلة في مهرجان كان السينمائي، فيكفي أداؤها مبرّرا للمُشاهدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى