«لا عزاء لقطط البيوت» للإماراتية عائشة خلف الكعبي: سرد قصير جداً يعيد اكتشاف الواقع

الجسرة الثقافية الالكترونية

#نادية الازمي

ترصد القاصة الإماراتية عائشة خلف الكعبي في مجموعتها القصصية الثانية «لا عزاء لقطط البيوت» الصادرة عن دار أزمنة، عام 2011، بعين الرقيب، سلوكيات تنخر الواقع، وقد لا تثير اهتمام الإنسان العادي؛  لتؤكد لنا أن المبدع قادر على رؤية مختلفة، لأنه ينظر من زاوية مختلفة، فيعيد طريقة الاكتشاف والقراءة وإعادة البناء.
القصص التي تتضمنها هذه المجموعة هي إشارات نبيهة، تلقي الضوء على بعض العادات التي تكبل خطونا وتشدنا إلى الخلف؛ ولا نقوى على التخلص منها، عادات يعد مجرد التفكير في تغييرها انتهاكاً لحرمة الموروث.
تعقد الكعبي وقفة مع الذات/ الآخر من خلال عرض الواقع المجتمعي في صوره الصادمة. فالزمن يسير نحو الأمام، بينما العلاقات الاجتماعية البالية ثابتة من دون حراك، لذلك نرى أن الوضع المرفوض الذي تثيره الكعبي يؤطره فكر راصد ولغة مكثفة وصور دالة، ابتداء من الغلاف الذي يعد عتبة القارئ نحو المجموعة، حيث القطة البيضاء، رمز الطهارة والنقاء، تجلس على حافة الباب المفتوح على الشارع الممتد؛ الذي تقبع في آخره شجرة، وحيث الظلام يعكس لونه، ويحاصر كل شيء، بينما نلاحظ وجود قطتين تجلسان في وضع حميم. وهنا يبدو البياض نقيضاَ للظلام، ويتحداه، ويشق رغم ضعفه جدار السواد الذي يريد أن يخنق البراءة.
البياض الذي يضع القارئ في لحظة البداية المفترضة، ويعطي إشباعا للروح من الفرح المنتظر، سرعان ما يخيبه حين تواجه قطط المجموعة حاضرها المتكرر، الذي يأبي عنها انسلاخاً، فتشكو حالة التشابه التي تعانيها وتواجهها، بلا رحمة، على نحو ما نجد في قصة «إعلان 1»، حيث تشعر الساردة بضياع عمرها، من دون أن تحمل لها الأيام شيئاً جديداً:
« كنت أتأمل الصورة التي ثبتها كخلفية لشاشة هاتفي المحمول، حين تغيرت أرقام الساعة معلنة انتصاف الليل، ومعها تغير التاريخ واليوم، ليكون الاثنين، السادس من يونيو/حزيران. لا أدري لم غمرني حينها شعور مفاجئ بالسعادة. ربما هو الأمل باليوم الجديد، والمفاجآت الجميلة التي قد يحملها. لكن هذا الشعور سرعان ما خبا حين أدركت أن ليس هنالك ما أنتظره، وأن الأيام كلها أصبحت متشابهة، والأسوأ، إدراكي بأن يوما آخر من عمري انقضى، من دون أي مفاجآت». ص42
وفي «سيرة عداء» يتكرر الأمر ذاته، فالرجل بطل القصة كان يقبل بكل شيء تفرضه عليه الحياة، حتى تمشي، هو يساير الحياة من موقف لآخر، ولكن بعد فوات الأوان يكتشف أن الحياة لم تكن تهادنه، ولم تكن تمشي، بل تركض به نحو هاويته:
«عندما رسب في امتحان الثانوية العامة، التحق بالجيش لتمشي الحياة. وحين ضغط عليه والده، تزوج من ابنة عمه لتمشي الحياة. وحين سرق ولده، حمل عنه التهمة لتمشي الحياة.
وحسن سقط إثر نوبة قلبية، علم أن الحياة لم تكن تمشي.. بل تركض نحو النهاية». ص55
 
الحقيقة خيبة تفقئ خيالات التخمين

ويبدو لنا أن التشابه والإذعان لهما شكل أرق للمجموعة القصصية وكاتبتها، حتى حين يتعلق الأمر بالآخرين، حيث الواقع يهد خيالات التخمين الذي ينتظر تغييراً ما في رتابة الأيام، فالبطل في قصة «اكتشاف» يتسلم من الممرضة الظرف الذي تركته الوالدة، ليرى في سيرتها امتداداً لسيرته، ولسيرة الشخصيات، وكأن التشابه قدر الأم وقدر الابن، وقدر شخصيات المجموعة برمتها، وكأن الأمل بالخروج من الدائرة السوداء، عبر رمز البياض ما زال صعباً جداً، في ظل مجتمع ذكوري يحد من خيالات المرأة وطموحاتها. تقول القاصة في قصة «اكتشاف»: «فتح الظرف الذي سلمته له الممرضة، وتعرف على الكراسة القديمة على الفور. كراسة ضخمة تعود أن يرى والدته منكبة عليها كل ليلة في غرفة المكتب… فتح الكراسة بيد مترددة.. تعجب، قلب الصفحات بتوتر واضح. لا بد أن هناك خطأ ما.. الصفحات بيضاء لم تكد تلمس، لولا التواريخ المدونة أسفل كل صفحة. أخيرا لمح ما يشبه الكتابة.. الصفحة ما قبل الأخيرة.. كتب عليها: كل ليلة كنت أحاول أن أدون أحداث يومي، وكل ليلة كنت أكتشف، بأنه ليس هناك من شيء يذكر». ص26.
 
الاختلاف اكتناز لروح التناقض

ترصد الكاتبة الحياة في بعض قصصها من خلال إبراز روح التناقض بين الشخصيات في النظر إلى الأمر ذاته، فالتناقض يذكي روح الخلاف الفضفاض، ويمنح المفارقة القصصية ألقها، على نحو ما نجد في قصة «سوفنير»، حيث يسقط القرط من صاحبته في الصالون، ذلك القرط الذي يعني لها ذكرى محب عاشق، وحين يجده أحدهم (بعد رحلة عجائبية للقرط) يريه لزوجته، ويكون سبباً دائما للشجار بينهما، إذ يغذيها خيالها بقصص مثيرة جرت بين زوجها وصاحبة العقد… تسبب القرط بعدها بكثير من المشادات بين الزوجين إلى أن فاض الحال بالزوجة، وقامت برميه في فتحة المجاري؛ لتتخلص منه إلى الأبد.
أما صاحبته الأصلية، فلا زالت إلى يومنا هذا، كلما ارتادت الصالون الذي أضاعته فيه، بادرتهم بالسؤال عن قرط كريستالي على شكل دمعة». ص37.
هي تلكم النظرة المختلفة التي تحسن الكاتبة توظيفها في المجموعة، لتثبت ان اختلاف التموقعات يؤثر في وجهة النظر والرؤية، وأن كل طرف يستغرب الطرف المناقض له، من دون أن يدركا أن تكامل الكون يكمن في اختلافهما. ويمكن للقارئ أن يلمح شبيها لذلك التكامل الكامن في التناقض الذي أشرنا إليه في قصة «الطرف الآخر». ص 44.
لغة دالة ومفارقات مدهشة:

لقد توغلت المجموعة عميقاً في الرمزية بدءاً من العنوان، وعبر قصص المجموعة، غير أن هذه الرمزية لم تؤثر على سلاسة الحكي، ولا دفعت السرد إلى الغموض، بل وُظفت بشكل يخدم القص وينطلق به إلى عوالم أكثر حرية من واقع يحشر مبدعه في قوالب جاهزة. كما استخدمت القاصة اللغة الدالة والقوية التي تحمل في وجه من أوجهها أفكار صاحبتها، ولم تغب عنها روح الشاعرة التي سعت إلى التكثيف والابتعاد عن اللغة النمطية، كما برزت الالتقاطات البارعة الذكية التي عكست لنا خللاً فاضحاً في منظومة التعاملات الإنسانية. وعلى الرغم من أن قصص المجموعة تميل إلى شكل القصة القصيرة جداً، من حيث تمحور الحكاية حول فكرة يتم الانطلاق إليها عبر أقصر الطرق، فقد اختلفت بين الطول والقصر، وتميزت بالوصف الذي يخدم النص ويشكل جمالياته، لتتغلب القاصة، أثناء رصدها للعلاقات الإنسانية على صور الحياة الهجينة، ولتنتصر لها في أحلام التكامل الإنساني رغم قسوة الواقع.
وقد لعبت المفارقة دوراً مهماً في إيصال فكرة الكاتبة، وصدمت القارئ الذي يقف مذهولا أمام هذا التناقض الذي تحمله القصة في نهايتها، لتقوده نحو لحظة التنوير، ويمكن أن نمثل للمفارقة بكثير من الأمثلة، غير أننا نكتفي هنا بمثال واحد، هو قصة «وجهة نظر» لأن القاصة ها هنا تستعين بتقنية المرآة، التي يعتمد عليها كتاب القصة القصيرة جداً إلى حد كبير، بوصفها تجسد الحقيقة التي يسعى الناظر إليها إلى إخفائها، تقول القاصة في تلك القصة: «حين همت بالتخلص من مرآتها العتيقة، صاحت بها المرآة معاتبة:
ـ أهكذا يكون جزاء من خدمك طيلة هذه السنين؟
أجابت بثقة:
ـ اعذريني يا رفيقتي، لكن إطارك قد كل، وأطرفك تقشرت، ولم تعودي بالصفاء نفسه الذي كنت عليه.
صمتت المرآة قليلا، ثم اعتدلت لتواجه صاحبتها وقالت:
ـ هلا نظرتِ إلى الوجه المنعكس على صفحتي، لست الوحيدة التي شاخت هنا يا عزيزتي»

………..

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى