لعنة الاكتئاب تلاحق بطلات زينب حفني

الجسرة الثقافية الالكترونية

*مايا الحاج

المصدر: الحياة

 

 

حين يخترق الجسد حدوداً فرضتها الأعراف والمجتمعات، فهو يغدو جسداً «سيئ السمعة». ولكن، إن سكنته علّة فلا شيء يؤثّر في صيته إطلاقاً لأنّ المرض قدر وليس قراراً. أمّا العقل فتركبه السمعة السيئة بمجرد أن تعتريه علّة، وإن لم يكن لصاحبها يد فيها. هذه فكرة تستغرق فيها السعودية زينب حفني في رواية «عقل سيئ السمعة» (نوفل، هاشيت- أنطوان)، لتبني عالماً قلّما تصوّره الروايات العربية، في ظلّ ندرة الرواية النفسية المنتشرة في أوروبا والعالم منذ أواسط القرن التاسع عشر.

ابتعدت الكاتبة في روايتها الجديدة عن موضوعات باتت شبه ثابتة في الروايات السعودية، لتتجه نحو موضوع المرض النفسي الذي لا يقلّ جرأة عما نقرأه في روايات الكاتبات السعوديات. فالفكرة هذه تُعدّ أيضاً من القضايا المسكوت عنها عربياً، على اعتبار أنّ «الجنون» ليس إلاّ تفلّتاً من كلّ الممنوعات والمحظورات من دون خوف من عقاب أو محاسبة.

بطلتان تتقاسمان المشهد الرئيس في رواية «عقل سيئ السمعة»، جميلة (الأم) ووجدان (الابنة). تعيش الاثنتان المعاناة النفسية ذاتها نتيجة مرض عقلي وراثي يضرب الأم بعد ولادة ابنتها الأولى، والثانية في مطلع الشباب. ويبدو مرضهما المتوارث أشبه بتراجيديا تتناقل مأساتها من الجدّة إلى الأم فالابنة.

تنطلق الرواية يوم عيد ميلاد وجدان الثالث والثلاثين. تأتي هذه المناسبة لتُعيد إحياء الماضي في ذاكرة راوية تبدأ سردها بجملة صادمة «لم أحب أحداً في حياتي كما أحببت أمّي. ولم أكره أحداً في حياتي كما كرهت أمي». إنها انطلاقة ذكية اختارتها الكاتبة لكي تضع القارئ منذ البداية أمام مشاعر متأرجحة بين نقيضين، تمهيداً منها لتقديم شخصية تعاني ذهان الهوس والاكتئاب، الأشبه بداء انفصام الشخصية.

تُمسك وجدان السرد في معظم فصول الرواية (الأول، الرابع، الخامس، السادس، السابع)، وهي تبدأ بوصف وحدتها في يوم من المفترض أن تتشارك فيه مع أحبّة لها وأصدقاء: «كان الصمت الذي يُحيطني من كافة الاتجاهات، والسكون الموحش الذي يحاصرني داخل سياجه، يشعرانني بالصقيع. لا أسمع أحداً يُغني لي هابي بيرزداي تو وجدان» (ص 10). ومن ثمّ تعود إلى ماضيها، فتسترجع مراحل مختلفة من عمرها: في التاسعة حين وجدت والدتها في السرير مع «عمي محمود»- طبيب قلب معروف وصديق والدها وقريبه- أثناء غياب أبيها عن المنزل. وفي الثانية عشرة حين رأت والدتها وهي تُقطّع شرايين يدها، ثمّ ذكرى سفر العائلة (حامد وجميلة ووجدان) إلى إحدى قرى الريف الفرنسي بناءً على اقتراح الطبيب الذي اعتبر أنّ الأمكنة الهادئة والنقية قد تساعد على تعديل مزاجها. في السادسة عشرة حين بدأت أعراض مرض والدتها تظهر عليها، مروراً بمحاولات انتحار متتالية وعلاقة مثلية عابرة مع صديقتها سهى وصولاً إلى زواجها من يوسف الذي أحبّته وأحبّها جداً غير أنّه عجز عن تحمّل اضطراباتها النفسية، ثم زواجها من ضياء قبل أن يتركها بسبب حمل لم يكن يريده خوفاً على توريث طفله هذا المرض القاسي.

 

بين الأم والابنة

تتماهى شخصية الأم والابنة تماهياً يُكرّس مأسوية هذا المرض، فتغدو صورتهما على شاكلة أبطال التراجيديا القديمة من فيدر إلى أوديب وأنتيغون. لم تستطع أيّ منهما التغلّب على قدرها، فكان الموت انتحاراً خاتمة متوقعة لحياتهما المعذبة. لكنّ زينب حفني عزلت فكرة القدر عن السياق العام لروايتها، وارتأت رصد التأثير النفسي للعنة القدر (المرض) على أبطالها. ولم تجعل الكاتبة من الموضوع النفسي حبيس دواخل المرضى (الشخصيات)، إنما اختارت، عوضاً عن هذا الانعزال، بناء عالم متكامل من العلاقات الإنسانية (صداقة، حب، زواج، جنس، علاج) في بنية شبكية دينامية تمتد على جيلين، الأم والابنة.

تبدو الرواية للوهلة الأولى مونولوغاً طويلاً بطلته وجدان، لكنّ حفني كسرت ذاتية السرد عبر إسناد مهمة الروي إلى جميلة (الأم- الفصل الثاني) وحامد (الأب- الفصل الثالث)، ليُعيدا سرد الأحداث نفسها من وجهتي نظر مختلفتين. أما اختلاف الرواة هنا فلم يُضِف شيئاً إلى الرواية، إذ كان من الممكن الاكتفاء بصوت وجدان التي تقوم باسترجاع زمني في لحظة معينة من حياتها، يوم عيد ميلادها، وهو اليوم الذي تُختتم فيه أحداث الرواية. وتختار صاحبة «سيقان ملتوية» لهذه الخاتمة (الصفحة الأخيرة من الرواية) صوت راو برّاني الحكاية يُعلن انتحار وجدان إثر انتهائها من كتابة رسالة إلى ضياء، على طريقة فيرجينيا وولف، الكاتبة التي تركت لزوجها رسالة قبيل انتحارها تقول فيها: «عزيزي، أنا على يقين بأنني سأُجنّ، ولا أظنّ أننا قادران على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرّة أخرى، ولا أظنّ أنني سأتعافى هذه المرّة. لقد بدأت أسمع أصواتاً وفقدت قدرتي على التركيز. لذا سأفعل ما أراه مناسباً. لستُ قادرة على المقاومة بعد الآن، وأعلم أنني أفسد حياتك ومن دوني ستحظى بحياة أفضل. أنا متأكدة من ذلك». وعلى المستوى التقني، يمكن أن نسأل: هل يصحّ إقحام صوتي الأم والأب المتوفيين في لعبة الروي، ما دام زمن الرواية ينحصر في يوم واحد هو عيد ميلاد وجدان التي تحتفل فيه وحيدة في غيابهما؟

في سياق آخر، قد يظنّ القارئ للحظات أنّ كاتبة «عقل سيئ السمعة» اعتمدت تقنية الرواية داخل الرواية، لأنّ السرد الذي تنقله على لسان وجدان يوحي في مكان ما بأنه رواية تكتبها البطلة المريضة نفسياً في حالات توهّج تأتي بعد حالات من الكآبة والسوداوية، مثلما كان يحصل مع مبدعين أمثال بيتهوفن وإرنست همنغواي وفيرجينيا وولف وغيرهم ممن أخبرها طبيبها بمعاناتهم مع هذا المرض نفسه. وكان يُمكن الكاتبة أن تلعب على هذه الفكرة لتغدو الرواية أجمل وأعمق، خصوصاً أنّ تماسك السرد ومتانة العبارات وكلاسيكية اللغة تعكس حالة من حالات التجلّي لدى الراوية/ البطلة المضطربة عقلياً.

لم ترث وجدان مرض أمها فحسب، بل ورثت عنها جمالها الصارخ أيضاً، فصارت الابنة- التي عاشت طفولتها متوجسة من هوس أمها- نسخة طبقة الأصل عنها. لكنّ الابنة تعتبر نفسها أشقى لأنها لم تجد رجلاً يحبّها ويتحمّل وزر مرضها كما كان والدها مع والدتها. ظلّت تبحث في وجوه من عرفتهم من الرجال عن نسخة ثانية من أبيها، لكنها لم تجده لترحل وحيدةً عن هذا العالم. ولم يكن اختيار الأسماء عبثياً، بل جاء ليُعزّز مواصفات الشخصيات الجسمانية والنفسية. حامد هو الرجل الذي تزوج بمن يحبّ على رغم مرضها ومعارضة أهله، فتحمّل نتيجة خياره وكان دوماً حامداً لله وقريباً من عائلته. وجميلة هي المرأة التي حباها الله بجمال استثنائي بينما أخذ منها صحّة العقل. أما وجدان فاسمها مشتق من الوجد للدلالة على حبّ كبير عاشت حياتها تبحث عنه في كلّ مكان ذهبت إليه (السعودية، مصر، هولندا…).

 

نوبات الهوس

تُقدّم الكاتبة سيرة المرض في حياة أبطالها بأسلوب «كلينيكي» يخدم فحوى الرواية. فنتعرّف إلى جميلة بُعيد ظهور أعراض المرض لديها، على إثر ولادتها ابنتها الأولى والوحيدة وجدان. بينما يرى القارئ كيف أخذت نوبات الكآبة بالتسلّل إلى حياة الابنة وهي في مرحلة المراهقة، كأنّ الصدمات التي تلقتها في طفولتها كانت كفيلة بأن تُسرّع في مرضها. عانت الأم مرض «ثنائية القطب»، الذي ورثته بدورها عن أمها، وهو مرض نفسي حادّ، يعاني صاحبه من تغيرات شديدة في المزاج. فمن رغبة شديدة في البكاء والموت والانعزال إلى رغبة شديدة في الحبّ والحياة والمجون، ينساق المريض إلى أعمال جنونية من دون إرادة، ليستفيق من نوبته ويدخل في اكتئاب أعنف إثر اكتشافه شيطانية أفعاله وجنونها. هذا ما حصل مع جميلة التي ثارت يوماً على أدوية ساهمت في زيادة وزنها، فأوقفت الحبوب التي تُعدّل مزاجها لتجد نفسها فجأة معبأة بطاقة هائلة ورغبة في الحياة. وضعت مكياجاً قوياً على وجهها وصبغت شفتيها بالأحمر الفاقع وارتدت ثوباً من الجورسيه القصير وشربت زجاجة من الخمر قبل أن يطرق محمود (صديق زوجها) الباب لينتهي بهما المشهد في السرير على مرأى من ابنتها الصغيرة وجدان. وفي نوبة هيستيرية أخرى، تذهب جميلة إلى السوق فتتبضّع لابنتها عشرات الفساتين والأحذية. أمّا في لحظات الاكتئاب الشديد، فأخذت جميلة تُفكّر بجدوى حياة ابنتها المهددة بمرض سيقضي عليها ويجعلها أتعس امرأة على وجه الأرض، فراحت تشدّ على وثاقها لعلّها تخلصها من عذابها. والحالات ذاتها تقريباً تعيشها وجدان التي تقع فريسة العزلة والخوف والحزن أحياناً، ثم تصير امرأة شبقة تحبّ السهر والشرب والتبضع في أحيان أخرى. وتأتي هذه التفاصيل في بناء شخصيتي جميلة ووجدان- المريضتين- لتُسطّر اشتغال زينب حفني على فكرة روايتها وتعمقها في دراسة مرض «ثنائية القطب» الذي يتأرجح ضحاياه بين أقسى لحظات الحزن وأقسى لحظات الفرح، ويدخلون في نوبات غير طبيعية تمدّهم بطاقة عجيبة تارة وتجرّدهم من طاقتهم طوراً.

«عقل سيئ السمعة» من الروايات السعودية القليلة التي لا ترتدي فيها الكاتبة لبوس القاضي الذي يكيل التهم لمجتمع ينتمي إليه، وهو دور تؤثر الروائيات خصوصاً تجسيده بنمطية تجعل من الرواية أقرب إلى المحاكمة. بل إنها أدارت ظهرها إلى المجتمع لتغوص داخل الفرد، وبالتالي الإنسان، بأسلوب لا يخلو من المتعة والجرأة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى