لمحات ثقافية

الجسرة الثقافية الالكترونية

*مودي البيطار

المصدر: الحياة

 

هذا ليس أدباً

 

> يعجب أحد بطلَي الرواية السابعة عشرة لماريو فارغاس يوسا من قصص الحياة العادية. ليست روائعَ بالتأكيد، بل هي أقرب إلى المسلسلات التلفزيونية، الفنزويلية والكولومبية والمكسيكية، منها إلى ثرفانتس وتولستوي، وإن لم تبتعد كثيراً من زولا وديكنز. يجمع يوسا في «البطل الكتوم» الصادرة بالإنكليزية عن فيبر، بريطانيا، القصة البوليسية بالمسلسل التلفزيوني والخرافة الأخلاقية. يراها أكثر رواياته تفاؤلاً، ويعجز عن مقاومة الدرس الأخلاقي وهو في التاسعة والسبعين. الروايات المقروءة الآن، يقول، ترفيهية فحسب. مكتوبة جيداً وصقيلة جداً وتتمتّع بتقنيّة فعّالة، لكنها ليست أدباً.

اقتبس الكاتب البيروفي فكرة الرواية من إعلان لرجل أعمال صغير من الشمال في صحيفة. كان من أسرة متواضعة وأسّس شركة للنقل، فطالبته المافيا المحلية بخوّة. قال إنه لن يرضخ للابتزاز، ولن يدفع مهما فعلوا. يجهل الكاتب ما حدث له، لكنه ألهم بطليه بشجاعة مماثلة. يعمل فيليسيتو ياناكي كالعبد في قرية بيورا الشمالية، ولا يعطّل يوماً واحداً طوال حياته. يجدّ لكي لا يدوس أحد عليه، وفق توصية والده، وينجح. يؤسّس شركة للنقل، يتزوّج ليتزوّج، وينجب ابنين. لكن زوجته المطيعة تتحوّل قطعة أثاث، ويحب ميبل التي تماثل ولده سنّاً. تعجز الشابة عن النوم مع شخص لا تشعر نحوه بشيء، فيصبر فيليسيتو وينتظر. حين تكافئه بالنوم معه أخيراً يبكي.»لم أعرف حتى الآن معنى اللذة» يقول، ويشتري لها بيتاً. يتلقّى رسائل مُغلّفة عليها رسم عنكبوت تطالبه بدفع خمسمئة دولار شهريّاً، فيضع إعلاناً في الصحف يرفض فيه الدفع، وتتساوى حياته وموته. يتمسّك بموقفه حتى حين تُخطف ميبل التي يحبها أكثر من أي شخص آخر. يلجأ إلى العرّافة البدينة المختلطة العرق أدلاييدا التي توزّع تنبؤات تتحقّق في منطقة المسلخ.

في العاصمة ليما، يعمل المحامي الأنيق دون ريغوبرتو مديراً لشركة تأمين يملكها صديقه إسماييل كاريرا. يختلف الاثنان عرقاً وطبقةً، ويتفقان في الطموح والاستفادة من ازدهار البلاد. يشكو إسماييل من ابنيه «الضبعين» اللذين ينتظران موته ليرثاه، ويتزوّج خادمته أرميدا في حضور ريغوبرتو شاهداً. يثور التوأمان الكسولان المنهمكان بمطاردة النساء، ويطلبان من ريغوبرتو الشهادة بأن والدهما لا يتمتّع بالسلامة العقلية، وأن الخادمة استغلّت وضعه، وإلا اتّهماه بالتزوير. يلاحق غريب أنيق، قد يكون الشيطان نفسه، ابنه من زواجه الأول فونكيتو. كان ريغوبرتو يتطلّع إلى تقاعد باكر بهيج يحفل بالملذّات المادّية، الفكرية والفنّية، وعطلة مع زوجته في أوروبا «قلعة الثقافة». يؤخّر التوأمان خطته، لكن الخير ينتصر وتفشل خطتهما. في مقال عن «مدار السرطان» لهنري ميلر كتب يوسا أن من وظائف الأدب «تذكير الرجال والنساء أنه مهما بدت الأرض التي يسيرون عليها ثابتة، تبقى هناك شياطين في كل مكان».

عاش يوسا بعض طفولته في بيورا التي يرسمها بحنان، ويسترجع الشوارع المزدحمة، فيء أشجار التمر الهندي، الحرّ والذباب الطنّان. تفاجئ بيورا الواقعة في الشمال الغربي زوّارها من ليما بدور السينما والمحلات الفاخرة، لكن ازدهار البلاد مدناً وريفاً لم يجلب التمدّن بالضرورة. يخيب فيليسيتو وريغوبرتو من كسل الجيل الجديد وماديّته، وحين يرى شرطي رسالة الابتزاز التي عُلّقت على باب فيليسيتو يقول إنها ثمن التقدّم. لم تشهد بيورا حدثاً مماثلاً حين كانت مدينة فقيرة. ريغوبرتو الذي وجد ترضية وملاذاً في الكتب والموسيقى والحكايات الإروتيكية المتبادلة مع زوجته يرى أن الاستشراس حوله دليل آخر على أن فسحات التمدّن الصغيرة لن تستطيع التغلّب على البربرية الهائلة.

حاول يوسا، الحائز على نوبل الأدب في 2010، التأثير مباشرة في الشأن العام حين ترشّح للانتخابات الرئاسية في البيرو ممثلاً اليمين ورجال الأعمال. كان تناول الفساد السياسي في الأكاديمية العسكرية في روايته الأولى «زمن البطل»، وهجا عهد الطاغية الدومينيكي تروخيّو في «وليمة العنزة» في 2001. مطلع هذه السنة، لعب دوراً مسرحياً في «قصص الطاعون» في مدريد. أوضح أن غالبية البشر يرغبون في التحوّل شخصاً آخر واكتساب هوية مختلفة. «كان التحول شخصية أدبية تجربة رائعة لشخص مثلي أمضى كل حياته يكتب أدباً».

لماذا هي؟

شاع أن قصّة القصّة بدأت في «بعد ظهر ذهبي» لكن سجلات الطقس تقول إنه كان يوماً غائماً، بارداً وماطراً. لكن الحقيقة لم تفسد القصص الجيدة غالباً. إنها الذكرى المئة والخمسون لـ «أليس في بلاد العجائب» وهناك عروض ومعرض وطوابع وكتاب سيرة جديد يخرج منه لويس كارول مجدّداً عصيّاً على الإضافة.

لماذا فتنت أليس خيالنا أكثر من دوروثي، هايدي أو بوليانا؟ ترسَّخ الاثنتان الأخيرتان في الواقع، ودوروثي، بطلة «ساحر أوز» أكثر شبهاً بأليس، لكن ربما جذبتنا الأخيرة بعالمها العابث المجنون تحت الأرض. في 4 تموز (يوليو) 1862 اصطحب تشارلز دودسن، أستاذ الرياضيات في جامعة أكسفورد، وصديق له بنات عميد كليّة كرايست تشرتش في رحلة أخرى في القارب على نهر التيمز. كلا أليس ليدل ودودسن كتب في مذكراته أنه كان يوماً مشمساً، لكن مكتب الرصد الجوي قال العكس. تناولت إديث، إينا وأليس ليدل الطعام مع الشابين على الضفة، وطلبت أليس، ابنة العاشرة، قصة. ارتجل دودسن الذي كان في الثلاثين حكاية عجيبة غريبة، وعاد من نزهته لويس كارول.

يسترجع روبرت دوغلاس- فرهيرست، العميد في جامعة أكسفورد، طفولة دودسن التي لم يشفَ منها في «قصة أليس» الصادرة عن «هارفل سيكير». كان أكبر أولاد كاهن ريفي، وله سبع شقيقات. تولّى تسليتهن بالنكات، الألغاز، الشعر، القصص، ومسرح الدمى، وأصدرت العائلة مجلة رئس تحريرها، كتب معظم موادها، زوّدها بالرسوم وطبعها ووزّعها. فرجينيا وولف رأت أن عالم الطفولة الذي توقف الزمن فيه فسّر شخصيّته، وكان عائقاً في محور وجوده. لم ترَ كتبه موجهة للأطفال: «إنها الكتب الوحيدة التي نصبح فيها أطفالاً».

نشر كارول «أليس في بلاد العجائب» في 1865، وأرسل نسخة إلى أليس اشتراها الدكتور روزنباك الأميركي في مزاد في ربيع 1928 بأكثر من خمسة عشر ألف جنيه استرليني، ثم أهدتها الحكومة الأميركية لبريطانيا تثميناً لبطولة بريطانيا في هزيمة هتلر. أغرِم بفن التصوير الفوتوغرافي الجديد، وسمح له آل ليدل بتصوير البنات الثلاث اللواتي مدّدن طفولته. أَسَرته أليس شبه العابسة التي بدت بثيابها الأنيقة كالدمية، وصوّرها يوماً بثياب متسوّلة ممزقة عند الكتفين وبعض الصدر. التقط ثلاث آلاف صورة كان نصفها لصغيرات، وفضّل شيئاً من العري. قال في أواخر حياته إن «بنتاً في الثانية عشرة هي شكل الجمال المثالي عندي»، ولم يفهم لماذا تجب تغطية «أشكال الفتيات الجميلة». لم يضجره الأطفال، بل كانوا «ثلاثة أرباع حياتي». عاش في بيئة فكتورية حدّدت سن زواج البنات بالثانية عشرة، وألغت طفولتهن بعد هذا السن. كلام كارول يفسّر اليوم فوراً بحب الأطفال الجنسي، ويقول دوغلاس- فرهيرست إنه كان مخنثاً دعاه طلابه لويزا كارولاين، ووقّع رسائله بحبر أرجواني بعبارة «من صديقتك الجنيّة الصغيرة المحبة سيلفي». لكن البحث عن الأجوبة لا تشبعه المعلومات التي لدينا، واستنتاجه «المحتمل» أن مشاعر كارول الأقوى كانت عاطفية لا جنسية.

أثارت علاقة دودسن ببنات العميد هنري ليدل الثرثرة منذ أواخر الخمسينات، وقال البعض إنه طلب يد أليس. بعد نزهة قارب أخرى في صيف 1863 كتب كارول في يومياته: «رحلة ممتعة بخاتمة ممتعة جداً». شيء ما في النزهة أغضب مسز ليدل فقاطعته الأسرة. مزّق ورقة ذلك اليوم من يومياته، واختفت أربعة أجزاء منها، ومزّقت والدة أليس رسائله إليها. على أنه التقط مجدداً، وللمرة الأخيرة، صورة الفتاة التي نفرت من افتتانه بها. كانت في الثامنة عشرة، وبدت خرقاء وجامدة، يراوح تعبيرها بين الاحتقار والسأم. نشر كارول «عبر المرآة» تتمة لـ «أليس في بلاد العجائب» العام التالي، ووجدت الفتاة معجباً جديداً أكبر سناً، لكنّ ذويها أنهوا العلاقة مع الناقد الشهير جون راسكين. لاحقها ليوبولد، نجل أمير ويلز، فترة قصيرة خلال دراسته في كرايست تشرتش، وكانت في الثامنة والعشرين حين تزوجت الطبيب الثري ريجينالد هارغريفز. توفّي كارول بالتهاب الرئة في 1898 عن خمسة وستين عاماً، وبقي لأليس الابن الذي دعته كاريل (!) بعد مقتل الابنين الآخرين في الحرب العالمية الأولى.

اكتسبت أليس شهرة من الكتابين في أميركا، وقامت عام 1932 بجولة هناك بتشجيع من كاريل الذي شاء الاستفادة مادياً من علاقتها بالكاتب والشخصية. كانت في الثمانين وقالت لكاريل أنها تعبت من كونها أليس في بلاد العجائب. كانت بكت حين باعت نسختها من الكتاب، وحين توفيّت في 1934 نعت «ذا تايمز» «مسز هارغريفز، أليس في بلاد العجائب».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى