لوحات العراقي علي البزّاز: تكثيف للوجود والزمن واشتغال على الآثر «نيمار» يستضيف معرضه المقبل في الرباط

الجسرة الثقافية الالكترونية –

محمد الشيكر

يحتضن المركز الثقافي الهولندي»نيمار» بالرباط معرضا متميزا للفنان العراقي علي البزاز، في الفترة الممتدة بين23 أكتوبر/تشرين الاول و7 نوفمبر/تشرين الثاني. ومدار هذا المعرض الفني على فينومينولوجيا الأثر وجماليات المتلاشيات والزوائد. يقول علي البزاز في سياق سالف: «الأثر هوفكرة حياة وموت، تعاقب وديمومة»، كما يصرح في اكثر من مقام بأننا «كلنا وجه وأثر»، حضور وغياب.
يَفِدُ الفنان العراقي علي البزاز على جماليات التشكيل من سجل الكتابة، ومن مختبرها المُشرَع على التجريب، والمنذور لارتياد مجاهيل المعنى. فهوشاعر وكاتب، وناقد فني متميز؛ يتنقل بحدسه بين حقول جمالية مختلفة بسلاسة وتمكُّن نادرين. ومعرضه التشكيلي الراهن، ينهل من هذه السجلات الجمالية والمعرفية الرافدة، وينهض على موضوعة إستيسيقية تشكل محور تقاطع لفيف من الحقول الإبيستمولوجية والإبداعية وهي: موضوعة الأثر. وكصنيعه المعهود مع كثير من الإشكالات والقضايا التي يثيرها، يقارب علي البزاز قيمة الأثر مقاربة متوغلة، رشيقة ومرحة، لا تمجُّ الذوق ولا تخيب حدس المتلقي.
سبق للفنان أن لامس سؤال الأثر في سياقات نظرية سالفة، خاصة في معرض مساءلته للذاكرة والنسيان والتراث والخردة وما إليها. وفي معرضه الحالي يجسد هذه المساءلة فنيا، وينقلها من صعيد الكتابة إلى مستوى التشكيل، ويترجمها إلى شعرية اللون والحركة والمادة والخطوط والأحجام.
الأثر في المنجز الفني لعلي البزاز لا يحيل على تلك البقية الباقية من زمن مضى وانقضى، ولا يومئ، عنده، إلى وجود عفَّ عليه الزمن ولم يبق منه غير رسوم دارسة. إن الأثر في أعماله الفنية ينضح على العكس من ذلك، بالحركة، وينبض بالحياة، ويكثف الوجود والزمن، ويعمل على مَشْهَدَة تفاصيل الذاكرة في مرايا الهوية والغيرية والحضور والغياب. لا يتغيا الفنان والشاعر علي البزاز أن يجعل من الأثر محض تأثيث لعالمه الفني أوسنداً خارجياً من أسانيده، بل يطمح، أبعد من ذلك، إلى تحويل الأثر إلى عمل فني، ومأثرة جمالية. يقول كانط «الفن، ليس تمثيلا لشيء جميل، بل هو تمثيل جميل لشيء ما». واللمسة الفنية الباذخة لعلي البزاز تكمن في هذا التمثيل الجميل للشيء/ الأثر، وفي تحويل أشياء معينة، عادمة متلاشية وغفل من كل قيمة إلى أثر فني وقيمة جمالية. فالأبواب والنوافذ والزوائد التي تخلص منها أصحابها، لأنها فقدت وظيفتها اليومية الجارية، تتحول بين أنامل البزاز إلى منجزات فنية، تدل على زمنها الخاص (زمن الأثر) وعلى زمن الذات المبدعة (زمن الأثر)، وتتعالق عبرها ألوان وصيرورات الحاضر والماضي. يتعقب الفنان علي البزاز تحولات الأثر، ويحرص على القبض عليها فينومينولوجياً في الحدود الملتبسة بين الذاكرة والنسيان والحضور والغياب.
ولا يكتفي بالتوسل بأيقونات دالة على الأثر بوصفه معطى مادياً محسوساً (الأبواب، المفاتيح، القطع النقدية…) بل يعتمد أيضا، لتبئير دلالاته، على بلاغة الخدوش والنتوءات، وعلى شعريات اللون التي تؤجج في العين والقلب توقاً نوستالجياً إلى زمن هارب وتطلعا إلى وجود إنسيابي طالته يد المحووالغياب. وعبر تجريد الألوان من إحالتها الواقعية المرجعية والبحث عن الماهية الثاوية خلف المادة وإظهار ما ليس شيئيا خلف هوية الأشياء المحسوسة، عبر كل هذا وسواه يقدم إلينا البزاز الأثر، ليس كما خلفه الزمن وعف عليه، بل كما برَتْه يده الماهرة وأبدعه خياله الشفيف، وألهبه حدسه ورؤاه الشعرية المرهفة، ويقدم الأثر ككتابة تشكيلية أصلية Archi-écriture تنمحي فيه الفواصل بين الثنائيات الضدية: الأنا/الآخر، الحاضر/الماضي، الذاكرة/النسيان، الوجه/القفا، الظهور والغياب، ويخلف فينا، من خلال مخلفاته، بهجة فائقة، ودهشة خلاقة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى