لوركا.. و” الأغاني الغجرية”

الجسرة الثقافية الالكترونية

*جهاد فاضل

المصدر: الراية

 

كتاب جديد عن لوركا صدر حديثًا في بيروت عن منشورات الجمل، وبالتحديد عن ديوانه الشهير “الأغاني الغجرية”، وقد قام بنقله إلى العربية الشاعر العراقي سعدي يوسف. والديوان يستحق التوقف عنده وقراءته قراءة معمقة لأن صاحبه هو الشاعر الإسباني الكبير فيديريكو غارثيا لوركا الذي يمت إلى تراثنا الشعري والثقافي العربي بصلة وثيقة، فهو ابن تراث غرناطة ومروياتها وحكاياتها التي كان أهله يتداولونها أمامه وهو صغير. الأرجح أن أسرته من بقايا الموريسكيين الأندلسيين، وكان هو يعرف ذلك ويفخر به، ومن دلائل ذلك أنه عندما كان يغادر مدريد إلى الجنوب، ويُسأل عن وجهة سفره كان يجيب: “أنا متوجه إلى مملكة غرناطة”، وفي شكله، وسمرته، وملامحه الأفريقية/ الآسيوية، ما يشي بأصوله غير الأوروبية، وهذا ما يعرفه كل الذين كتبوا عنه أو عرفوه عن قرب ومنهم الشاعر التشيلي بابلو نيوردا الذي يصف لوركا في مذكراته بأنه “نتاج عربي أندلسي”.

 

 

 

والواقع أن أي شاعر إسباني لم ينل من الشهرة العالمية ما ناله لوركا، إذ قدمت حتى في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية، ترجمات لأعماله في بريطانيا والأمريكتين، وربما كان بعض شهرته خارج إسبانيا عائدًا إلى ظروف موته المأساوية العنيفة في الحرب الأهلية الإسبانية. لكن الأعوام اللاحقة أثبتت أن القدر الأعظم من شعبيته مستند إلى أسس أشد رسوخًا من العاطفية المحضة. والحق أن لوركا وضح في المنظور شيئًا فشيئًا مع مر الزمن حتى ليمكن أن يقال الآن قول الواثق المطمئن إن شعره لهو من خير ما أبدع الشعراء في القرن العشرين.

 

ولد فيديريكو غارثيا لوركا في إحدى قرى سهل غرناطة الخصيب في الخامس من يونيو 1898. وتدعى القرية “فونتفكيروس” أو “بحر البقر” بالعربية. والاسم نفسه يشي بقرابة مع الريف الأندلسي القديم، وقد اغتالت لوركا في الأيام الأولى للحرب الأهلية الإسبانية عصابة فاشستية مجهولة برأي البعض، ومعروفة برأي البعض الآخر، أي أنها ذات صلة بكتائب الجنرال فرنكو الذي كان يحارب الثوار اليساريين. ويبدو أن عملية الاغتيال قد تمت في “فزنار” على التلال الواقعة خارج غرناطة. لكن لم يُعثر أبدًا على جسده كما تنبأ:

 

عرفتُ أني قد قُتلت

 

فتشوا المقاهي والمقابر والكنائس

 

فتحوا البراميل والخزانات

 

استباحوا ثلاثة هياكل ليسلبوا أسنانها الذهبية

 

لم يجدوني

 

أتراهم لن يجدوني أبدًا؟

 

نعم! لم يجدوني أبدًا!

 

 

 

بدأ لوركا دراسته الجامعية التي لم يكملها أبدًا في غرناطة، لم يكن ذا ميل أكاديمي: فاهتماماته تقع خارج المنهاج الجامعي. كان يشعر بسعادة أكثر حين يكون في المقاهي، متحدثًا إلى الأصدقاء، أو حين يكون في الريف مستطلعًا، أو في بساتين غرناطة مستكشفًا الثقافات والتقاليد التي كونت الريف الأندلسي القديم، ومتعرفًا على الغجر الذين قُدر لهم أن يكونوا في مستلهماته الفنية الرئيسية. تعلم العزف على البيانو والجيتار، التقى سيمانويل دي فايا الذي أضحى صديقًا له، وأستاذًا، والذي شجعه وأخذ بيده في جمع الأغاني الفولكلورية وتوليفها موسيقيًا.

 

 

 

نشر لوركا ديوانه الشعري الأول “كتاب القصائد” عام 1921 دون أن يثير الانتباه خارج دائرته، كان على أصدقائه الأدباء أن يدبروا خططًا لكي يستلّوا منه قصيدة بغية نشرها في إحدى دورياتهم. ومع أنه كتب قصائد كثيرة بعد عام 1921 غير أن ديوانه الثاني “أغان” لم يظهر حتى عام 1927. وباستثناء مسرحيته المبكرة “الفراشة وسحرها الشرير” التي مُثلت في مدريد سنة 1920، فإن أول مغامرة مسرحية له أثبتت نجاحها كانت مسرحيته التاريخية “ماريانا بينيدا” التي مُثلت في مدريد سنة 1927. ومن المفيد أن نلحظ كيف كان تطوره مسرحيًا، يتوازى وتطوره شاعرًا، إنه يتفق مع قولة إليوت “إن الوساطة المثلى للشعر، والوسيلة الأكثر مباشرة من أجل المنفعة الاجتماعية للشعر، هي المسرح”، ذلك أن لوركا كان واعيًا اجتماعيًا، مؤمنًا بأن على الشاعر “في هذه اللحظة الدرامية من العالم، أن يضحك ويبكي مع الناس”!.

 

 

 

شهد العام التالي صدور أكثر كتبه شعبية:”الأغاني الغجرية” الذي ينقله إلى العربية اليوم الشاعر العراقي سعدي يوسف، حقق الديوان نجاحًا فوريًا في إسبانيا والبلدان الناطقة بالإسبانية. يتألف الديوان من مقاطع يدور أغلبها على مواضيع غجرية مكتوبة بشكل الرومانس التقليدي، وتظهر سهولة الأغاني تمكن لوركا التقني، إن كل عناصر شعره ماثلة هنا: الإثارة، الحسية، الميثولوجيا الغجرية، حذر الموت، الاستعارة الذكية، ولكن غير المبالغة، أما قيمة هذه المجموعة إذا تناولناها ضمن شعر لوركا كاملاً، فليس من الصعب علينا أن نجد من سبقه في كثير مما جاء فيها.

 

فالأبيات الأولى، على سبيل المثال، من أغنية “السائر في نومه” لها أكثر من تذكير بقصيدة خوان رامون خمينيث التي مطلعها “خضراء هي الفتاة”، لقد انغمس لوركا في التراث الإسباني، وهو تراث ينتهي لديه عند خوان رامون خمينيث.

 

في “الأغاني الغجرية” يبلغ لوركا الغاية في صهر الشعبي والفني، التراثي والحديث. وربما كان هذا سبب الإقبال الشامل على كثير من أعماله، إذ ليس ثمة فاصل عند لوركا بين الحديث والتقليدي، بل إن الموروث يتجدد بالجدة التي يتخذها سبيلاً إلى الشعر.

 

 

 

لم يكن لوركا يكتب إلى أقلية كما كان أغلب شعراء جيله يكتبون، “أردت أن تكون الصور التي أبنيها من شخصياتي مفهومة لدى شخصياتي ذاتها”. كان يريد أن يُفهم (بضم الياء) وأن يحبه الجميع من خلال شعره.

 

ولا شك في أنه نجح، فحتى الناس الأميون يفهمون ما يقوله، أو يحسون بما يقوله، يورد أرثور باريا في كتابه “لوركا الشاعر والشعب” أمثلة على الأفعال لدى العمال البسطاء حين سماعهم شعر لوركا. إنه شعر يثير في الصوت الحساس للكلمات انطباعات بصرية، وهذا ما أكسب أغانيه الغجرية جذبها العاطفي، حيث نحس إحساسًا قويًا بشدة العواطف الأساسية منسوجة عبر سرد عن الحب والحزن والموت. يقول لوركا: “في الشعر لا يأتي الدوينده إلا حين يرى إمكان الموت. الشخص الميت في إسبانيا يكون أكثر حياة وهو ميت، منه في أي مكان آخر. هذه البلاد التي يكون فيها الأمر هامًا حين يكتسب خاصية الموت”. وهذه المسألة صحيحة تمامًا منذ القصائد الغنائية الإنسانية المبكرة. إن أعظم قصائد لوركا تستلهم موت صديقه مصارع الثيران اخناثيو سانشيز ميخياس!

 

قد يبدو الأمر محيرًا حين نعرف أن الشعبية العظيمة التي حظي بها لوركا عند نشره “الأغاني الغجرية” قد أثقلت عليه. كان يكره التصنيف كرهًا شديدًا، إلى حد أنه لم يُرد أن يطلق عليه لقب “شاعر الغجر”. لم يرد أن يمسي ضحية نجاحه. قال: “إن الغجر موضوع وحسب، كان يمكنني أن أغدو شاعر إبر الخياطة أو المناظر الكهرمائية”. هكذا دخل في مرحلة قنوط.

 

 

 

وحين سنحت الفرصة لزيارة الولايات المتحدة لم يتردد. وصل نيويورك في صيف 1929. وقد قُبل في جامعة كولومبيا، ودخل في دورة لتدريس الأجانب اللغة الإنجليزية، ثم انسحب منها بعد أسبوع واحد حين وجد نفسه غير قادر على تعلم اللغة. لكنه ظل في جامعة كولومبيا حتى ربيع العام التالي.

 

وقد بدأ يكتب القصائد التي جُمعت فيما بعد تحت عنوان “شاعر في نيويورك”، ونشرت بعد موته عام 1940 لم يكن لديه أي أوهام حول ما سيراه في أمريكا:

 

 

 

جئت أرى الدم العَكِر

 

الدم الذي يأخذ المكائن إلى الشلالات

 

ويأخذ روحنا إلى لسان الكوبرا!

 

 

 

إن عالمًا غريبًا هذه الغرابة، عن أندلسه المشبعة بالشمس، خلق صراعًا في عالمه الشعري، وغير متوقع أن يتحدث لوركا الآن بذات الصوت الذي سمعناه في “الأغاني”و”والأغاني الغجرية” إنه محتاج إلى تقنية مختلفة كي يعبر عن تعقيدات عواطفه، وقد وجد في المخيلة السوريالية الأداة التي تناسب حالته الراهنة. قبل أن يغادر مدريد كانت له بضع تجارب في هذا الاتجاه مثل “قصيدة إلى سلفادور دالي” وبعض الصور الأثرية ذات الطبيعة السوريالية، وهي بلاشك نتيجة علاقته الوثيقة بسلفادور دالي والفنانين السورياليين الآخرين، الإسبان والكاتالون. كما سبقت “الشاعر في نيويورك” رسومه السوريالية ودفاعه العلني عن فن خوان ميرو وسلفادور دالي والدور الذي أداه في بيان سوريالي مقترح.

 

في ربيع ١٩٣٠ أحس لوركا بالحاجة إلى مناظر ومشاهد أكثر سطوعًا، وعندما وصلته دعوة لإلقاء محاضرات في هافانا تقبلها بلهفة وأسرع “إلى تلك الجزيرة الجميلة ذات الشمس المحرقة” مكث في كوبا حوالي شهرين سعيدًا في جو الجزيرة اللاتيني. واكتشف في إيقاعات الأغاني الكوبية الموروث الإسباني الذي يعرفه جيدًا ولربما أدى هذا لتبدل في حالته المزاجية إذ عاد إلى منبع إلهامه الأصيل، مادًا جذورًا أكثر رسوخًا واطمئنانًا فيما هو إسباني وأندلسي وديني. هناك ألقى محاضرتين عن أغاني المهد وعن الدونيدة.

 

 

 

بعد عودته إلى إسبانيا أقام مدة في منزل أبيه الريفي قرب غرناطة، الآن تبتدئ أخصب فترات حياته، قبل نهاية عام ١٩٣٠ قدمت مسرحيته الشعرية “زوجة الحذاء” في مدريد ، وكان بدأها في نيويورك. وأخذت بعض قصائده النيويوركية تظهر في دوريات مختلفة.

 

 

 

وفي العام التالي ظهر ديوان قصائد جديد هو “قصيدة الأغنية العميقة” وهو كتاب يعود إلى فترة “الأغاني” الأولى إلى الأيام التي نظم فيها لوركا مع دي فايا جان الكانت خوندو. إن ما قاله لوركا عن المهرجان ينطبق على الكتاب “إننا بكشف أغنية الأندلس القديمة، نحاول أن نكتشف روح الأندلس”،

 

لوركا يستخدم هنا عناصر الفولكلور الأندلسي الذي هضمه بصورة لا واعية في حياته المبكرة مع عناصر أخرى مأخوذة بصورة واعية من أبحاثه في الشعر الشعبي.

 

 

 

كان شديد الإيمان بقيمة الشاعر الشعبي ، شاعر القرية المجهول الذي يقطر في ثلاثة أبيات أو أربعة كل التعقيد النادر للحظات العاطفية العليا في حياة الإنسان. وهناك “دوبيت” تبلغ فيه العاطفة الغنائية، لا يستطيع بلوغها إلا شعراء قلة نادرون:

 

 

 

طوق القمر

 

حبيبي مات!

 

إن في هذين البيتين الشعبيين سرًا أعظم مما في دراما ميترلنك سرًا بسيطًا حقيقيًا نظيفًا!.

 

مع مجيء الجمهورية عام ١٩٣١ رأى فرصة الذهاب بالمسرح إلى الشعب، فقدم إلى الحكومة مشروع مسرح متنقل يكون طلبة الجامعة ممثليه وقد نتج عن هذا فرقة “الجوسق” التي أخذت تنتقل شأن تقاليد الممثلين الجوالين بين القرى الإسبانية النائية (كان لوركا مدير الفرقة ومخرجها) حيث قدمت مسرحيات لوب دي فيغا وكالدرون وكلاسيكيات إسبانية أخرى، بمصاحبة موسيقى يرتبها الشاعر نفسه وقد هيأ هؤلاء الفلاحون المشاهدون الذين يرون المسرح للمرة الأولى للوركا خبرة لا تقدر بصدد المسرحيات التي كان ينوي كتابتها.

 

 

 

مثلت أولى مآسية الشعرية “عرس الدم” بمدريد سنة ١٩٣٣ ووجدت نجاحًا باهرًا فوريًا. وقد حظيت بالنجاح نفسه حين انتقل بها إلى بيونس إيرس حيث أقام حتى الربيع التالي مساعدًا في إخراج المسرحية، ملقيًا بعض المحاضرات ، ومنتجًا إحدى مسرحيات لوب دي فيغا.

 

بعد عودته إلى مدريد، قدمت على مسرح مدريد مسرحية “برما”، وهي كسابقتها تدور في الحياة الريفية الأندلسية وتتحدث عن الأمومة العقيم ، ثم أتم الثلاثية بمسرحية “بيت برناردا ألبا” التي نشرت ومثلت بعد مقتله وهي مسرحية ذات واقعية كتابية، كتب معظمها نثرًا، وفيها تحب خمس بنات رجلاً واحدًا ويتعرضن لقمع أم متسلطة.

 

إن منبع مسرح لوركا وشعره واحد، كان يؤمن بأن المسرح هو الشعر إنسانيًا، كما أن المسرح يزود لوركا بالأداة التي يعبر بواسطتها عن نفسه بصيغة المأساة.

 

لكن المأساة وحدها ليست شغله الوحيد الآن فبعد أن كتب “برما” كتب “دوفيا روزيتا العزباء” وهي مسرحية رومانتيكية تدور في أواخر القرن التاسع عشر عن الحياة البورجوازية في غرناطة مثلت المسرحية في برشلونة سنة ١٩٣٥. كما كتب مسرحية أخرى نشرت بعد مقتله هي “ما أن تمر خمس سنوات” التي تعتبر بمثابة تحول سوريالي.

 

خلال هذه السنوات الخصيبة لم يهمل لوركا كتابة الشعر فقد كان يهيئ مجموعة جديدة هي “ديوان تماريت” لكنه بوغت بموت صديقه الحميم مصارع الثيران اخناثيو سانشيز ميخياس فكتب “مرثية إلى اخناثيو سانشيز ميخياس” إحدى أفضل القصائد في الأدب الإسباني المعاصر.

 

وقد استخدم في كل مقطع أو حركة وزنًا مختلفًا.

 

إن ما قاله عن صديقه فيها ينطبق عليه:

 

 

 

سيمر زمن طويل

 

قبل أن يولد.. إن وُلد

 

أندلس نبيل هكذا

 

مفعم بالمغامرة هكذا

 

وبينما كان منشغلاً بالمأساة الأخيرة في ثلاثية “بيت برناردا ألبا” كان يعمل في كتاب سونيتات “سونيتات الحب الغامض” ضاعت مخطوطة هذا الكتاب نهائيًا خلال الحرب الأهلية. ويمكننا أن نقدر فداحة الأمر من كلمات الشاعر بينته الكسندره :”كان يقرأ لي “سونيتات الحب الغامض” هذا المزيج من العاطفة والحماسة والسعادة والعذاب، نصبا جورا طاهرا للحب حيث المادة الخام هي جسد الشاعر، قلبه روحه المنكشفة للدمار.

 

نظرت إليه مندهشًا وقلت: فيديريكو، أي قلب! كم تراك أحببت !كم تراك تعذبت!”.

 

لقد اخترت حياة الشاعر وهو في عنفوان تطوره الفني.

 

إن شخصه وفنه لا يمكن فصلهما عن بعضهما. وما قاله عن غونغورا يقال عنه :”غونكورا ينبغي ألا يقرأ، ينبغي أن يحب”!.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى