لويس عوض.. وعاصفة “بلوتولاند”

الجسرة الثقافية الالكترونية
*جهاد فاضل
بعد خمسين عامًا من إصداره ديوان “بلوتولاند” في عام 1947، يعيد لويس عوض إصداره مرة أخرى في عام 1989 مع مقدمة أخرى مضافة إلى مقدمته النارية الأولى. فهل ثبت على تلك المقدمة الأولى التي عرضنا لأبرز ما جاء فيها في عدد سابق، أم تراجع؟، وما هي الظروف التي كتب فيها تلك المقدمة، وكذلك قصائد الديوان؟، وكيف يروي ردّة فعل طه حسين وأمين الخولي وآخرين عليه؟، نجد كل ذلك في المقدّمة الثانية التي يتبين لمن يقرأها أن لويس عوض كتبها في مُناخ آخر غير المُناخ العصبي الذي كتب في خلاله مقدمته الأولى، وإن كان لويس عوض هو على الدوام لويس عوض سواء نقص في هذه المرة أو تلك درهمًا من الانفعالية أو زاد.
يقول لويس عوض في المقدمة الثانية: “كثيرًا ما سألني السائلون: تُرى هل عدلت موقفك من قضية الشعر واللغة بعد خمسين عامًا من مشاهدة التجربة على الطبيعة؟، وكنت دائمًا أُجيب في شيء من الحسرة: كلا. بل لقد أثبتت الأيام صحة آرائي. تسأل: ولماذا الحسرة؟ وأقول: لأن الإنسان الذي لا تتغير بعض آرائه عبر خمسين عامًا غالبًا ما يكون إنسانًا جامدًا لا أمل فيه، وهي علامة سيئة. ولكن تاريخ الشعر العربي في مصر على الأقل قد أثبت في نصف القرن الأخير أن التحرر والجمود في اللغة والعروض وكافة القوالب والمضامين الأدبية والفنية هو الوجه الآخر للتحرّر الاجتماعي في السياسة والاقتصاد والقانون وكل مظاهر التنظيم الإنساني. حتى الفوضى هي الفوضى والإرهاب هو الإرهاب في كلا الوجهين ولا فرق هنالك بين مجتمع يرفض أن يتطوّر، وأدب أو فنّ يرفض أن يتطوّر.
وحين يعيد لويس عوض قراءة ما كتب منذ خمسين عامًا “أحسّ بأني كنت أطلب من اللغة العربية، بل والعامية، أكثر مما تتحمل. فالتوسع في استخدام الإشارات الكلاسيكية والألفاظ الأعجمية يضفي جوًا من الاغتراب على الديوان. وقد أشرت إلى شيء من هذا في “المقدمة”، فهذا الشعور لم يكن غريبًا عليّ منذ البداية. والتقليد قديم منذ أحمد شوقي. وقد انتفع بدر شاكرالسياب إلى حدّ ما من إشاراته ورموزه البابلية والأشورية.
وربما كان الإفراط في مزج الآداب العالمية في سياق واحد في بعض قصائد “بلوتولاند” هو بنظره مصدر هذا القلق المربك الذي حال دون إثمار هذه الحساسية الجديدة، ففي قصائد مثل “الحب في سان لازار” نجد أن مزج الآداب والرموز العالمية منشأه الإحساس لا بوحدة التجربة الإنسانية، ولكن بوحدة المعرفة الإنسانية، وهو شيء لا يتوفر إلا لخاصة الخاصة، وهذا معنى وصف الديوان أنه “من شعر الخاصة”، وهو من آثار حبي للشاعر .س. ت إليوت في شبابي.
بقيت قضية العامية والفصحى التي سُكب فيها مداد كثير. أو صادفت تجاهلًا مطلقًا من المبدعين المذعورين (والوصف له) أو وجدت دفاع “المعتذرين” باسم الفولكلور أو الأدب الشعبي.
يُجمل لويس عوض الرأي في كل ذلك بعد خمسين عامًا على الوجه التالي:
“لقد كنتُ في سونيتات “بلوتولاند” وقصائده العامية بصفة شاملة لا أبحث عن لغة الشعب بمعنى لغة البسطاء، ولكن عما كان دانتي إليجيري يبحث عنه عندما وضع أساس الأدب الإيطالي الحديث نحو 1300 ميلادية ووجده في لغة فلورنسا، أرقى اللهجات الإيطالية في زمانه، في إقليم توسكانيا. وقد وجدت لغتي العامية سواء في ديوان “بلوتولاند” أو في “مذكرات طالب بعثة” في اللغة التي يعبر بها صفوة المثقفين المصريين عن سامي الأفكار والمشاعر. وهي نفس اللغة التي يعبر بها صفوة المثقفين في العالم العربي في القاهرة وفي بغداد وفي دمشق وفي بيروت وفي عمان وفي الرياض وفي الخليج وفي الخرطوم وفي عواصم المغرب العربي.
وقد أثبت صلاح جاهين في “السونيتات” وفي رباعيات “عجبي” أنه كان يبحث عن هذا النوع من العامية، عامية الصفوة العربية. وهذا غالبًا ما جعل الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي يقول في ذات مرة إن صلاح جاهين كان من شعراء العربية.
وليس من داعٍ لأن نختلف على المصطلح النقدي، فإذا كان هذا التعريف جواز مرور للإبداع الفني، فليكن، ولكن من المهم أن نذكر أن لغة صلاح جاهين في “الرباعيات” شيء، ولغته في “الليلة الكبيرة” شيء آخر. نفس الكلام يقال عن بيرم التونسي. كانت هناك لغتان: العامية الشعبية والعامية الراقية. هكذا كان الأمر مع سيد درويش: هناك المستوى الشعبي في “التفحجية” والمستوى الراقي في “ضيعت مستقبل حياتي”.
ويروي لويس عوض أنه نظم “بلوتولاند” وقصائد أخرى من شعر الخاصة، بين عام 1938 حين استقرّ به المقام في جامعة كامبريدج، حتى صيف 1940، وهو تاريخ عودته إلى مصر ليبدأ التدريس في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وبعدما استقرّ به الحال في مصر، طبع الديوان على الآلة الكاتبة.
وبانتهاء الحرب قرّر أن ينشر الديوان، ولكن كان لابدّ من “مقدمة” تشرح منطق الديوان، فكتب هذا المانيفستو أو “البيان” الذي يحمل عنوان “حطموا عمود الشعر”.
وفي أوائل 1947 طبع الديوان على نفقته وكلفته الطبعة نحو 80 جنيهًا، وكانت النسخة تباع بعشرة قروش.
ويضيف إن الديوان عند صدوره قوبل من الصحافة بصمت شامل باستثناء مقال طويل كتبه الدكتور حسين مؤنس في جريدة “البلاغ” عام 1947 يحيي فيه الديوان تحية غير ممنونة بسبب دعوته إلى التجريب.
وفي الطرف الآخر في الجامعة يبلغ لويس عوض أن أمين الخولي ذكر لبعض أساتذة كلية الآداب عبارة عوض في مقدمة الديوان: “قال فيرلين: امسك البلاغة واكسر رقبتها” ، وعلق عليها بقوله: “إحنا اللي حنكسر رقبة لويس عوض”، “ولعله كان يمزح فأنا لم أرَ من الرجل إلا كل مودة وعطف حين كنت أعمل في كلية الآداب وبعد أن باعدت بيننا الأيام بعد قيام الثورة.
وقد كان بعض تلاميذه النجباء مثل صلاح عبدالصبور وفاروق خورشيد من أكثر أدباء جيل الثورة تجاوبًا مع ديوان “بلوتولاند”: الأول مع دعوة العروض الجديد، والثاني مع دعوة الاهتمام بالأدب الشعبي. وقد كانت هذه بوجه عام السمة المميزة لأبناء أمين الخولي في الجمعية الأدبية المصرية: كانوا مثله من أكبر الثائرين على البلاغة الكلاسيكية التقليدية”.
ويبدو أنه رغم الصمت الذي قوبل به الديوان، فإنه كان معروفًا بشكل أو بآخر لأكثر الأدباء المصريين بين عامي 1947 و1967 ولبعض الأدباء العرب، وقد قرأه الكثيرون منهم، لأنه كان يتداول يدًا بيد عبر جيلين. “كما أذهلني أن أجد طه حسين قد حفظ أبياتًا منه. فقد فهمت من كتاب “صالون العقاد” لأنيس منصور أن العقاد كان يعرف الديوان وأنه كان له رأي فيه، غالبًا رأي لا يسرّ.
ورغم الطبيعة البركانية لهذا الديوان، فربما كان أصدق وصف لتأثيره أنه كان شبيهًا بتأثير المياه الجوفية، تنحر وتزلزل دون أن ترى. وكان الديوان مربكًا، فيه قضايا ملتهبة عديدة، ولكنها قضايا لا تُناقش علنًا، ربما استنكارًا لها أو حماسًا وتحسبًا من إغضاب جماعة الثقافة الرسمية.
ولعل أخطر ما في ديوان عوض هو ما أثاره بخصوص العامية والفصحى ودعوته الصريحة إلى الأخذ بالأولى. ويبدو أنه كان لهذه القضية تاريخ طويل من أيام عبدالله النديم وصولاً إلى بيرم التونسي وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وفؤاد حداد، ومن نجيب الريحاني وبديع خيري ويوسف وهبي حتى أقطاب المسرح في الستينيات.
وعوض يرى في توضيحات “المقدمة” الثانية أن الإبداع باللغة العامية إذا كان جريمة، فالمصريون لأنهم قوم عمليون، يرتكبون هذه الجريمة كل يوم في صمت وتسلل دون دعاوى أو نظريات. ولهذا فإن أكثر الناس يتحمسون لشعر العامية وأدبها وللمسرح العامي دون إحساس بالحرج أو شعور بأنهم يأتون منكرًا.
على هذا النحو يمضي لويس عوض في شرح مسألة العامية والفصحى متجنبًا التعرض للنواحي المبدئية أو الإيديولوجية البحتة. فهو لا يشير لا من قريب ولا من بعيد إلى دعوته السابقة في “المقدمة” الأولى بإحلال العامية محل الفصحى ودفن هذه الأخيرة دفنًا نهائيًا. مرّت مياه كثيرة في النهر، ولويس عوض في زمن “المقدمة” الثانية صار أكثر هدوءًا وواقعية ومسؤولية بعد أن تجاوز أكثر ما يسمى بطيش الصبا. ولكنه لم ينتصر تمامًا عليه، ذلك أنه ما زال يدافع عن مشروعية أدب العامية عند من ذكرهم مثل سيد درويش وصلاح جاهين، وكأن هناك من يدين مثل هذا الأدب. فالواقع أن في أدب العامية هذا جمالات كثيرة، ولا أحد يحاربه أو يدينه من أنصار اللغة العربية، فهو أدب يجد إقبالاً، ويعبر عن شرائح اجتماعية مختلفة، ولكن هناك فرق بين دعوة إيدلوجية مسيسة إليه، وبين الإشادة البسيطة الطبيعية بمنجزاته.
في” المقدمة” الثانية يتراجع عوض برأينا عن دعوته الإيدلوجية الأولى لاعتماد العامية بدل الفصحى دون أن يعلن ذلك صراحة، ولكنه يخفي هذا التراجع بالثناء على منجزات من سماهم من أدباء العامية الذين كتبوا بها.
ويعود لويس عوض بعد ذلك في مقدمته الثانية إلى الذين حملوا عليه وعلى “بلوتولاند”في مصر.
يقول إن أول هجوم علني عليه بدأ في أواسط الستينيات ، أولاً بقلم جلال كشك في كتابه”الغزو الفكري”، ثم في مقالات محمود محمد شاكر التي ملأت أنهارًا بلا عدد في مجلة “الرسالة” وجمعت في مجلدين بعنوان “أباطيل وأسماء” وكانت مجلة الثقافة تصدر أيضًا في نفس الوقت أعدادها كاملة عنه. وكانت مناسبة هذه الحملة كلامًا قاله عن علاقة”رسالة الغفران” للمعري بالتراث اليوناني والروماني ثم تشعب الأمر ليتناول موقفه من اللغة والأدب والفكر والحضارات.
كانت الصورة التي رسمت له هي أنه صبي المبشرين الذي درّبه الاستعمار لإفساد العروبة وتشويه الإسلام وتخريب التراث القومي وكانت حيثيات هذه الأحكام مستمدة من:
– ديوانه “بلوتولاند” الذي دعا فيه إلى تحرير العروض العربي من قماط الخليل بن أحمد ومن سذاجة قدامه بن جعفر الذي عرف الشعر بأنه “الكلام الموزون المقفى”.
– تجربته بالعامية في “مذكرات طالب بعثة”
– دراسته عن قيام أركان الدولة الحديثة في مصر ولاسيما الفكرة القومية والفكرة الديمقراطية والاتجاه العلماني، نتيجة لتأثير الحملة الفرنسية وحكم محمد علي.
– دراسته عن المعري في كتابة” على هامش الغفران” وعن ابن خلدون في كتابه “الاشتراكية والأدب” وتواصلهما مع التراث اليوناني واللاتيني.
وفي المقدمة الثانية لبلوتولاند يشرح عوض ظروف كتابته “للمقدمة” الأولى للديوان وعنوانها “حطموا عمود الشعر”.
يقول إن هذه المقدمة كتبت في درجة حرارة مرتفعة، لأنها كتبت في مُناخ الدعوة للثورة على جمود العهد البائد وفساده والدعوة لخروج الجديد من القديم، ولذا فهي وثيقة تاريخية بغض النظر عن صحة مضامينها أو عدم صحتها، وبغض النظر عن سلامة أحلامها أو عدم سلامتها، لأنها تصور مناخ تلك الفترة (١٩٤٥-١٩٥٢) المشبع بالثورة والتحدي في الأدب والفن والفكر الفلسفي والسياسة والاقتصاد والقيم الاجتماعية والأخلاقية.
ربما كانت قمة المدّ الثوري التقدمي في تلك الفترة هي تكوين “اللجنة الوطنية للطلبة والعمال” في سنة ١٩٤٦ لإسقاط معاهدة صدقي/ بيفن ، معاهدة الأحلاف العسكرية، وهذه هي الفترة التي ترجم فيها الدكتور راشد البراوي “رأس المال” لكارل ماركس، ونشر فيها لويس عوض “بروميثيوس طليقًا” للشاعر شيلي، وكتب فيها عوض أيضًا رواية “العنقاء”، ونشرت له مجلة الكاتب المصري فصول كتابه “في الأدب الإنجليزي الحديث”، وهي فترة مذبحة كوبري عباس الثانية، والفترة التي فتح فيها جيش الاحتلال البريطاني النار على المواطنين المتظاهرين في ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) من ثُكنات قصر النيل (هيلتون النيل ومبنى الجامعة العربية حاليًا).
وهي فترة تحالف الطليعة الوفدية بقيادة محمد مندور وعزيز فهمي مع اليسار المصري العريض ضدّ طغيان الملك فاروق وتحالف الإقطاع والرأسمالية مع الاستعمار. “وقد كنت أنا شخصيًا وسط هذه التيارات المتلاطمة بمثابة المعامل أو المفاعل وتمثلت لي الحرية الحمراء راية قانية اللون لكثرة ما ضرج وجه الأرض من دماء شهداء الحرب العالمية الثانية في سبيل تحرير الشعوب من أغلال النازية والفاشية وبلغ اللاتفاهم بين البشر في مصر مبلغ المأزق الذي لا مخرج منه إلا بطائش الرصاص، فكان اغتيال رئيس الوزراء أحمد ماهر باشا واغتيال صديق الإنجليز أمين عثمان باشا واغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا، واغتيال الشيخ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين واغتيال سليم زكي باشا حكمدار القاهرة واغتيال المستشار أحمد الخازندار، ومحاولات اغتيال زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا، وكانت انفجارات قنابل سينما مترو، ثم أعمال الفدائيين المصريين ضد جيش الاحتلال في منطقة القنال وفي الخلفيّة كان هناك نزيف ملحمة فلسطين.
بنظره هذا معنى تلك الخاتمة الدامية في مقدمة بلوتولاند التي نشرت غلالة حمراء على كل شيء في الطبيعة والحياة وفقًا لقوانين الصراع كما نجدها في كارل ماركس وعند مشعلي الحروب وقادة الثورات.
شيء آخر ينوّه به عوض في مقدمته الثانية مادمنا نتحدث عن هذه المرحلة الباكرة من تاريخ الشعر العربي الحديث، ففي تصوره أن أزمة الشعر العربي التقليدي لم تبدأ لمجرد موت شوقي وحافظ، ولكن بدأت لمجرد عجز مدرسة أبولو ومدرسة المهجر، أي عجز المدرسة الرومانسية العربية عن التعبير عن أي مضمون اجتماعي أو إنساني بالمعنى العام في زمن يقظة الجماهير وازدياد اندفاعها للمشاركة في تقرير مصيرها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والحضاري، والتهاب الوجدان العام بقضايا الحرب والسلم والتقدم والحرية والمساواة والإخاء.
وينعت عوض الرومانسية العربية، ما عدا استثناءات قليلة بأنها مدرسة انسحاب وهرب إلى الوجدان الفردي ومدرسة تهويمات في عالم الأحلام التراثية أو تحليقات وراء الغمام، وكانت سنوات الحرب العالمية الثانية والتحولات الفكرية الكبرى امتحانًا قاسيًا لها، فأظهرت انفصامها التام عن واقع الحياة واستنفد شعراؤها أهم ما لديهم من تجارب خاصة، وانتهى الأمر بمحمود حسن إسماعيل أن ينشئ ديوانًا كاملاً في مدح الملك فاروق، تمامًا كما حدث للعقاد ومثلهما صالح جودت. أما ناجي وتلميذه الخميسي فقد أصبحا أرواحًا هائمة بين قهاوي القاهرة وكان الهمشري والشابّي وطه المهندس قد مأتوا ومن قبلهم أغلق أبوشادي مجلته (أبولو) وهاجر إلى أمريكا ومن بعده هاجر الوكيل إلى سويسرا وهذا معنى عبارتي القاسية في بداية مقدمة “بلوتولاند” أن شعائر دفن الشعر العربي بعد شوقي قام بها شعراء المهجر وشعراء أبولو.
هذه هي أبرز النقاط الواردة في مقدمة”بلوتولاند” الثانية، وكنا عرضنا في عدد سابق لأبرز ما ورد في مقدمة “بلوتولاند” الأولى، والواقع أن الباحثين والنقاد يتوقفون عند ما ورد فيهما لا عند ما ورد من “شعر” في الديوان، فهذا الديوان لا يتضمن سوى شعر ركيك إذا قرأه القارئ اليوم ظنّ أنه مجرد تمارين على الشعر لطالب في الصف التكميلي أو الثانوي، وربما غرق في الضحك وترحم على الشعر وزمن الشعر الذي يحمل عليه صاحب بلوتولاند.
طبعًا لديوان لويس عوض فضائل، أولها دعوته للتجريب فهذه الدعوة صالحة في كل وقت وجديرة بأن تمارس وقد كانت صالحة عندما أطلقها عوض في عام ١٩٤٧ دفعًا بالشعر العربي إلى ريادة آفاق جديدة، ولكن مقدمة بلوتولاند تتضمن هرطقات وآراء فجّة كثيرة يتنازل عوض صراحة أو ضمنًا عنها في مقدمته الثانية للديوان مثل دعوته إلى اللهجة العامية ودعوته الأخرى إلى تحطيم عمود الشعر، وقد فنّد نقّاد كثيرون دعواته هذه كافة وأظهروا ما فيها من “صبيانية”، كان عوض يومها في الخامسة والعشرين من عمره، ومع أنه نضج بالطبع بعد هذا الديوان، إلا أن شططًا ما ظل يصاحبه على مدى حياته، ومن هذا الشطط موقفه السلبي من التراث العربي وميله الدائم إلى إظهار عدم أصالة صفحاته التي يفخر بها العرب عادة مثل ابن خلدون والمعري، لقد حاول جاهدًا البرهنة على أنهما تأثرا في فكرهما وأدبهما بالآداب اليونانية واللاتينية دون أن يثبت هذا التأثير يومًا بل دون أن يشير إليه أحد من دراسيهما الأوروبيين والزبد يذهب جفاء، كما نعلم ولا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس.